فجّرت معظم الأحداث الفارقة في حياة الفلسطينيين حركات احتجاج التحمت فيها المناطق الفلسطينية التي جزأتها إسرائيل، غزة والضفة والداخل الفلسطيني.
قد تكون أبرزها الانتفاضة الثانية عام 2000، وآخرها هبة أيار أو هبة الكرامة، التي اشتعلت عام 2021 رداً على العدوان الإسرائيلي على غزة واقتحامات المستوطنين المسجد الأقصى وقرار المحكمة الإسرائيلية العليا إخلاء منازل فلسطينية في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية لإسكان مستوطنين إسرائيليين.
وعلى الرغم من أن حرب الإبادة في غزة تعتبر الحملة الأشرس على المجتمع الفلسطيني من حيث الدمار وعدد الضحايا، نشهد صمتاً مطبقاً في شوارع الداخل الفلسطيني.
يرجح كثيرون بأن هذا الصمت يجيء كرد فعل تجاه أحكام السجن الجائرة، التي جزت بمن خرجوا إلى شوارع الداخل، خلال أحداث هبة الكرامة، لسنوات طويلة وصلت إلى 17 عاماً في سجون الاحتلال.
وقد تشكّل هذه الأحكام القاسية تجلّ أوضح لسياسة قمع الصوت والهوية الفلسطينية عند من تتوقع إسرائيل منهم أن يكونوا "مواطنون جيدون"، لكنها ليست سياسة جديدة.
وفي تمظهرات هذا التجلي، سُمع صوت وزير المال بتسلئيل ستموتريتش وهو يقول في تصريح حديث: "يجب ألا نتجاهل التهديد القادم من الجبهة الداخلية لعرب إسرائيل. نحن بعيدون عن القيام بما هو ضروري لتحييد هذا الخطر، علماً أن في حوزتهم آلاف الأسلحة غير القانونية التي من الممكن أن تستخدم ضدنا".
خوف إسرائيل من منشور
حذرت إسرائيل ووزير أمنها الداخلي، إيتمار بن غفير، منذ بداية الحرب على غزة، من تكرار سيناريو هبة أيار، ورؤية فلسطينيي الداخل وهم ينتفضون ويشتبكون مع قوات الأمن والشرطة الإسرائيلية.
فدخلت هذه بيوت الناس في الضفة الغربية والداخل، واعتقلت كثيرين لمشاركتهم مناشير تراها الدولة ذات محتوى "إرهابي".
كما أجرت بعد بدء الحرب بشهر واحد، تعديلاً في قانون "مكافحة الإرهاب"، يجرّم استهلاك منشورات "إرهابية"، ويفرض عقاباً يصل إلى عام واحد في السجن.
فتوقف معظم الفلسطينيين عن النشر، والتزموا بيوتهم بعد أن قُمعت كافة المظاهرات، القليلة أصلاً، والتي خرجت في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لا سيما بعد مجزرة مستشفى المعمداني.
نحن نعيش فترة تعاظم "الفردانية" والتفكك المجتمعي الذي يحاول "اليسار" الإسرائيلي استغلاله لدمج العربي في المجتمع الإسرائيلي
قد يكون الأسير المحرر رمزي العباسي، ابن مدينة القدس، في عداد ضحايا سياسة تكميم الأفواه. فقد اندلعت الحرب على غزة خلال تواجده في الأسر. "بعد بدء الحرب تعرضت للتحرش والاغتصاب في السجن. كانوا يدخلون العصي والأدوات الحادة في خلفيات الأسرى وعلى مرأى من الجنديات لكي يضحكن"، يقول رمزي لرصيف22.
"داخل الأسر، تعرفت إلى أسرى مقدسيين اعتقلوا فقط لأنهم عبروا عن رأيهم حول ما يحصل في غزة والضّفة"، يضيف.
أما خلال الحرب على غزة، وبعد أن أفرجت سلطات الاحتلال عنه في كانون الأول/ ديسمبر 2023، فقد ظهر رمزي في منشور يتحدث فيه إلى وسيلة إعلامية عن الظروف التي يمر فيها الأسرى في السجون الإسرائيلية. فاستدعي للتحقيق.
"أخرج لي ضابط الشاباك ورقة اعتقال إداري. ثم أعادها إلى الدرج قائلا: "ترجع للسجن ولا تهتم بأولادك؟" وأصبح الضابط منذ ذلك الحين يمسّي ويصبّح عليّ كل أسبوعين"، يقول رمزي الذي توقف منذها عن النشر.
علماً بأن أكثر من 300 ألف متابع تابع صفحة رمزي عبر منصة "إنستاغرام" قبل الحرب، والتي وثق من خلالها انتهاكات الاحتلال في مدينة القدس.
أما رنا (اسم مستعار، 35 عاماً)، وهي ناشطة سياسية أسست حراكاً شبابياً خلال هبة الكرامة، فتلاحظ أن الناس يشاركون يومياتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل اعتيادي. "أما أنا فأشعر أني مجبرة على مشاركة ما يحصل في غزة"، تقول لرصيف22.
لكن ذلك جاء بعد أن شعرت رنا في بداية الحرب بالخوف، أثار المحيطون بها أسئلة كثيرة حول المحتوى الذي تنشره، وأخافتها مجموعات "واتساب" إسرائيلية حرضت على فلسطينيي الداخل. فتوقفت عن النشر، إلى أن هزتها مجزرة المعمداني.
ماذا يخسرون إن رفعوا صوتهم؟
تواجه رنا صعوبةً كبيرة في حشد الناس لمظاهرات ضد الإبادة، حتى أولئك الذين كانوا جزءاً من تأسيس الحراك.
"أشعر بالإحباط في كل مرة أرى كيف يقل عدد المشاركين في المظاهرات. أنا لا أستطيع حتى إقناع عائلتي بالمشاركة. الناس لا يرون في ذلك آلية ناجعة، بل على العكس يرونها تهديداً يضر بحياتهم ووظائفهم"، تقول.
استقالت رنا من عملها بعد بدء الحرب. "ليس سهلًا أن أعمل مع جنود احتياط. أو أن أخفي ما أشعر به خلال النقاشات السياسية التي يخوضها زملائي الإسرائيليون الذين غيروا من تعاملهم معي بعد السابع من أكتوبر"، تقول شارحة.
أما رمزي فقد أقيل من وظيفته في وزارتي الصحة والتربية قبل نحو شهرين ولم يحصل على أي من تعويضاته كموظف حتى الآن. "يمكنني أن أرمي شهادتي في القمامة. أنا معالج نفسي بالاسم فقط"، يقول.
لقد تغير الواقع تماماً بالنسبة إليه، " لا يسمح لي هذا الواقع بالقيام بنشاطي السابق، ولا حتى بممارسة عملي الصحافي. السجن اليوم لا يُدخَل والأثر النفسي الذي يتركه التعذيب والاغتصاب في الأسرى لا يزول".
أشعر بالإحباط في كل مرة أرى كيف يقل عدد المشاركين في المظاهرات. أنا لا أستطيع حتى إقناع عائلتي بالمشاركة. الناس لا يرون في ذلك آلية ناجعة، بل على العكس يرونها تهديداً يضر بحياتهم
"فضّلت أن أسكت لأنجو"
تقول سلوى (اسم مستعار، 25 عاماً) من مدينة الطيبة إنها تخاف من فقدان سلامتها وسلامة عائلتها.
"تلقيت تهديدات من زملائي الإسرائيليين في الكلية بسبب ما نشرته حول الحرب على غزة. شعرتُ حقاً بالتهديد على حياتي، ففضلت أن أسكت لأعيش وأنجو"، تؤكد.
لا تجد سلوى جدوى من الاحتجاج والوجود في الشارع. فبالنسبة إليها، ثمة طابع احتجاجي فردي هذه المرة، وليس جماعياً كما حدث في احتجاجات سابقة.
"قد أشارك في مظاهرةٍ ما كي يرتاح ضميري. لكني أفضل أن يبقى جرحي مفتوحاً، لا أريد أن أنسى ما يحصل"، تقول سلوى.
وتضيف: "ثم إن الصدمة التي أحدثتها الدولة للمواطنين الفلسطينيين بعد هبة الكرامة فعلت فعلتها، ورسخت فيهم الخوف".
ربما تخالفها الرأي أسماء (22 عاماً)، التي تقول لرصيف22: "ما أرغب بإيصاله لشعبي في الداخل، أننا لو خرجنا كلنا فلن يعتقلونا جميعاً، ولن يقوموا بطردنا جميعاً من الجامعات. لننظر إلى مظاهرات حيفا الأخيرة، لقد تم الإفراج عن جميع المعتقلين".
وتردف: "لا أستطيع أقف صامتة بينما يموت أبناء شعبي. وفي الوقت ذاته، أشعر بالعجز الشديد. في كل مرة مظاهرة تكون الشرطة أشد شراسة تجاهنا".
وتستدرك قائلة: "لا يجب أن يردعنا ذلك عن الاحتجاج. ولو كنا خمسة أشخاص فقط، على صوتنا أن يُسمع".
الفراغ بعد الهبة
اعتقل الناشط محمد مصالحة (27 عاماً) خلال إحدى مظاهرات حيفا الأخيرة احتجاجاً على حرب الإبادة. "نحن نحارب احتلالاً. وهناك ثمن ما يجب علينا أن ندفعه. ما أقوم به هو واجبي كابن لهذه القضية ولهذا الشعب الذي انتكب"، يقول محمد لرصيف22.
لكن محمد يتفهم أيضاً من لا يمكنه دفع هذا الثمن. فهو يعزي، على غرار كثيرين من الشباب الفلسطيني في الداخل، الصمت الذي يسود مجتمعهم، إلى عقاب من تحركوا في هبة الكرامة وإلى غياب القيادة السياسية عن المشهد.
كذلك رنا، تضع المسؤولية على كاهل القيادات. "القيادات السياسية متواطئة في كل شيء. هناك خيبة أمل كبيرة منهم. تخيّلي أنهم، وفي إحدى مظاهرات الناصرة الأخيرة، طلبوا من شابة رفعت العلم الفلسطيني إنزاله؟ علينا إيجاد بديل لهم"، تقول.
تلقيت تهديدات من زملائي الإسرائيليين في الكلية بسبب ما نشرته حول الحرب على غزة. شعرتُ حقاً بالتهديد على حياتي، ففضلت أن أسكت لأعيش وأنجو
تتحدث سيرين (29 عاماً) عن الفرق بين نشاطها خلال هبة الكرامة وغيابه في الوقت الحاضر. فتقول لرصيف22: "خلال هبة الكرامة، أنتجت عرضاً مسرحياً في جامعة تل أبيب للطلاب العرب، يتناول ما يحدث في حي الشيخ جراح في القدس. أما اليوم فأنا لا أستطيع حتى مجرد المشاركة في وقفة ضد الحرب".
وتشير إلى أن سياسة القمع ليست جديدة، فخلال الهبة استبدلت صورتها الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي باللون الأحمر تضامناً مع أهالي الشيخ جراح.
لكن مديرة المدرسة التي تعمل فيها أمرتها بحذفها كونها تعمل تحت مظلة وزارة التربية الإسرائيلية. وعندها قررت سيرين أن تستقيل من عملها.
أما عن الفراغ والصمت في الداخل، فتقول: "ثمة تهرّب، واعتياد للمشهد وخوف.
كما أننا لم نجد التفافاً أو حاضنة شعبية تدعم أسرى هبة الكرامة".
وتؤكد: "لست مستعدة للمخاطرة والتحدث عما يجري. يمكنني أن أفعل ذلك خارج البلاد وليس فيها. في الحقيقة، نحن في الداخل مجتمع هش".
ما أشبه اليوم بالحكم العسكري
ترى أسماء أن ما يعيشه فلسطينيو الداخل، عاشه الآباء أو الأجداد خلال فترة الحكم العسكري التي اعتمدت الرقابة الصارمة على تحركات الفلسطينيين وتنظيماتهم وكبتت أي شكل من أشكال المقاومة السياسية.
فقد اعتبرت إسرائيل خلال حكمها العسكري الذي امتد منذ النكبة وحتى عام 1966، الفلسطينيين "قنبلة موقوتة".
"هناك أوجه شبه بين واقعنا اليوم وفترة الحكم العسكري. لكن هذه المرحلة، في رأيي، أخطر بكثير"، تقول الباحثة د. همت زعبي لرصيف22.
"ولكي نفهم ممارسات أي نظام، علينا أن نفهم الأهداف من وراء ممارساته. السياسات التي تمارس اليوم بحق فلسطينيي الداخل هدفها محاولة حسم القضية الفلسطينية لديهم"، تقول مضيفة.
بحسب د. زعبي، تتعامل إسرائيل مع فلسطينيي الداخل كجزء من الشعب الفلسطيني. "وبالتالي، عليها فعل كل شيء في سبيل منعنا من ممارسة فلسطينيتنا"، تؤكد.
وتعتقد بأن لدى ابن الداخل مواطنة وإنجازات شخصية ومهنية تجعل ممارسته لحقه وقمعه سبباً لخسارة.
"أضفي إلى ذلك غياب القيادات السياسية الذي يساهم في تطويع وهندسة المجتمع. وهنا تكمن الخطورة الحقيقية"، تقول د. زعبي.
وتتابع: "نحن نعيش فترة تعاظم "الفردانية" والتفكك المجتمعي الذي يحاول "اليسار" الإسرائيلي استغلاله لدمج العربي في المجتمع الإسرائيلي. بالإضافة إلى ممارسات حكومة اليمين المتطرف، والتي تصب جميعها في نفس الهدف".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed -
منذ 5 ساعاتسلام
رزان عبدالله -
منذ 15 ساعةمبدع
أحمد لمحضر -
منذ يومينلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامرائع