"أخاف من أن يكون الشخص الذي أتعامل معه في العمل أو التعليم هو نفسه الذي قتل الطفلة هند أو كمال أو يوسف، والذي حوّل جثامين أهالي غزة إلى أشلاء. أخاف أن أتعامل مع شخص لم يتردد للحظة بالضغط على الزناد أو بقصف المشافي والمدارس، أو ربما مع شخص كان شريكاً في اغتصاب الأسرى"، تقول ميسم (20 عاماً) من الجليل، لرصيف22.
يعيش الفلسطينيون في الداخل أزمات يومية في احتكاكهم المباشر مع الإسرائيلي، لا سيما فوق مقاعد الدراسة، وفي الشارع والسوبرماركت، وسوق العمل. ولعل هذه الأزمات اتخذت منحى عنيفاً ومباشراً إثر حرب الإبادة المستمرة في قطاع غزة.
تصاعد كبير في مشاعر الكراهية والخوف بين الفلسطينيين في الداخل والإسرائيليين، أظهرته نتائج بحث أجراه "مؤشر الشراكة" الصادر عن مركز "أكورد" الأكاديمي, والذي أجري في شهري آذار/ مارس ونيسان/ أبريل 2024.
إذ تشير النتائج إلى أنّ "51% من الطلبة الإسرائيليين في الأكاديميات الإسرائيلية أعربوا عن مشاعر كراهية بالغة تجاه الفلسطينيين"، مقارنةً بـ 34% في عام 2021 الذي شهد فيه الداخل مواجهات بين الفلسطينيين والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، رداً على العدوان الإسرائيلي على غزة والتهجير القسري في حي الشيخ جرّاح في القدس.
ازداد مؤشر كره الفلسطينيين للإسرائيليين أيضاً، بحسب البحث، لكنه شهد ازدياداً أقل من مؤشر كره الإسرائيليين للفلسطينيين. إذ عبر ثلث الفلسطينيين عن كراهية تجاه الإسرائيليين، مقارنة بـ29% في 2021 و17% في 2020.
أشارت النتائج كذلك إلى أن مشاعر الخوف كانت الأبرز بين الفلسطينيين في الداخل والإسرائيليين، حيث أبلغ 33% من المشاركين الفلسطينيين عن خوفهم من الإسرائيليين، وهو ثلاثة أضعاف النسبة في عام 2021. بينما أعرب 59% من الطلبة الإسرائيليين عن خوفهم من العرب، مقارنة بـ41% في عام 2021.
فكيف يواجه الفلسطينيون الإسرائيليين في حياتهم اليومية؟
"رغم عدم تقبلي وجود شعب آخر على هذه الأرض، فإنْ الاحتكاك مع الإسرائيليين هو واقع لا مفر منه. ظروف عملي في "سوبر ماركت" تفرض عليّ التعامل معهم بلباقة، لكن كل ما أكنّه لهم في داخلي هي مشاعر الاشمئزاز والغضب، يرافقها الخوف والقلق من المستقبل"، تقول ميسم.
وتضيف: "هذه المشاعر ليست وليدة الحرب. فسياسة التهجير وهدم المنازل والحواجز كانت أسباباً كفيلة لجعلي أشعر بالغضب من تواجدهم في البلاد. لكن هذا الشعور تفاقم أكثر إثر حرب الإبادة على غزة فأنا أتعامل في حياتي اليومية مع من يؤيد قتل وتهجير أبناء شعبي في غزة، وتهجيري أنا أيضاً".
"في طريقي إلى العمل في شوارع تل أبيب، أوقفني شخص بلباس مدني يحمل سلاحاً، بعد أن سمعني أرسل تسجيلًا باللغة العربية لصديق. طلب مني هويتي وطرح عليّ أسئلة عديدة. كان الأمر مزعجا جداً، ولو قمت بإثارة الجدال معه، ألم يكن من الممكن أن يطلق النار علي، وكأن الأمر في غاية الطبيعية؟"، يتساءل يوسف (اسم مستعار, 27 عاماً).
الاحتكاك مع الإسرائيليين هو واقع لا مفر منه. ظروف عملي في "سوبر ماركت" تفرض عليّ التعامل معهم بلباقة، لكن كل ما أكنّه لهم في داخلي هي مشاعر الاشمئزاز والغضب
يعمل يوسف في تل أبيب في شركة إسرائيلية في مجال الاقتصاد والإدارات العامة. ويقول إنّه معروف في الشركة بـ"العربي"، كونه الموظف العربي الوحيد فيها.
وعن تجربته في العمل خلال فترة الحرب على غزة، يقول: "أضع سماعات على أذني خلال عملي لأبتعد عن الخوض في نقاشات سياسية مع الإسرائيليين. في إحدى المرات كنت أدندن أغنية "ليڤا بالستينا"، فسألني أحدهم ما هذه الأغنية، تداركت الأمر وقلت إنها أغنية رياضية".
"أواجه تحدياً كبيراً عندما تكون هناك أحداث أمنية تتزامن مع تواجدي في العمل، مثل الاغتيالات أو استعادة الأسرى. كذلك، عندما أرى الإسرائيليين يعبّرون عن فرحهم بالمجازر في غزة أو حين أسمع أحدهم يحتفل قائلاً "لم نُنهِ عملنا بعد"، يقول يوسف.
ويردف: "أصعب ما في الأمر أنّ بعضهم كانوا جنود احتياط يحاربون في غزة، لقد أرسلوا للموظفين رسائل تفيد بأنهم سيقيمون "ساعة سعيدة" أو Happy hour للاحتفال بعودتهم. تحججت بالمرض، وغبت ثلاثة أيام عن العمل ليصدقوني".
يشار إلى أن نسبة كبيرة من العاملين الفلسطينيين يعملون في مؤسسات وشركات إسرائيلية. وكان المركز الأكاديمي "أكورد"، أشار إلى أن 14٪ من الأكاديميين الفلسطينيين في الداخل الذين عملوا في مؤسسات ذات أغلبية يهودية قبل الحرب رغبوا في الانتقال إلى مؤسسات ذات أغلبية عربية. في حين ارتفعت نسبتهم بعد بدء الحرب على غزة إلى 27%.
جامعات مُعسكرة وطلاب يحملون السلاح
حذر وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير من حدوث احتجاج فلسطيني على غرار هبة الكرامة عام 2021، فأطلق حملة في اليوم الثاني للعدوان على غزة تدعو إلى تسهيل وتسريع منح رخص حيازة السلاح للمواطنين الإسرائيليين. وفي أيار/ مايو 202، افتخر الوزير بإصدار أكثر من 100 ألف رخصة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
تحاول أمل (اسم مستعار، 40 عاماً) من قرية ترشيحا في الجليل الأعلى، قدر المستطاع دعم المصالح العربية الفلسطينية لتجنب الاحتكاك مع الإسرائيليين. "لكن في الجامعة اضطر للتواجد بينهم. قبل حرب الإبادة على غزة، كنت أعبّر عن آرائي بشكل محدود أما اليوم فلا أشعر بوجود مساحة آمنة لأعبّر عنها"، تقول أمل لرصيف22.
أضع سماعات على أذني خلال عملي لأبتعد عن الخوض في نقاشات سياسية مع الإسرائيليين. في إحدى المرات كنت أدندن أغنية "ليڤا بالستينا"، فسألني أحدهم ما هذه الأغنية، تداركت الأمر وقلت إنها أغنية رياضية
وتشير إلى أنها تتفادى النقاشات السياسية مع الإسرائيليين، لأنّها على يقين بعدم جدواها، قائلة: "هم لا يريدون رؤية الحقيقة ويعيشون في حالة إنكار وكأنّهم الضحية الوحيدة، حتّى أولئك الذين يدعون أنهم ضد قتل المدنيين في غزة، لا يستطيعون مواجهة جيشهم ومجتمعهم الذي يقوم بالمجازر وجرائم الحرب".
وعن كيفية تعاملها مع مشاعرها والصراع الذين تعيشه، تقول: "شعوري بالذنب يزداد كلما ازدادت المجازر. وسط هذه التناقضات التي أعيشها بين الإسرائيليين، أذكْر نفسي بأنّني في نهاية المسار الأكاديمي وأحاول أن أحيط نفسي بمن يشبهني".
تجربة سيرين (اسم مستعار، 28 عاماً) من الجليل الأعلى، لا تختلف كثيراً عن تجربة أمل، وقد تكون أصعب وأشد بسبب ارتدائها الحجاب. "أدرس حالياً في جامعة إسرائيلية في قسم العلاقات العامة. نتناول خلال الدراسة المحتوى الإعلامي ونحلله. الإسرائيليون يحللون وفقاً لنظرتهم. أرغب أن أعطي رأيي أنا أيضاً لكني أتردد"، تقول لرصيف22.
وتردف: "يشعر الإسرائيليون بالفخر من الحرب. وأشعر بعنصريتهم في نظراتهم التي توحي بأني شخص مخيف بالنسبة لهم. اليوم أصبحت هذه النظرة بارزة على نحو أكبر".
"جاءت زميلتي إلى الصف وهي تعلق قطعة سلاح على خصرها. يشعر المرء بأن هؤلاء حصلوا على مباركة لحمل السلاح. وجود أشخاص ليسوا جنوداً يحملون السلاح هو أمر مقلق ومخيف. من الممكن في أية لحظة أن يشعر أحدهم بالغضب من موقف ما وينفث غضبه بي"، تقول سيرين مضيفة.
وتحاول قدر المستطاع أن تستخدم سيارتها عوضاً عن المشي في الشوارع، وأن تستخدم الفروع العربية للمؤسسات العامة في البلدات الفلسطينية في الداخل عوضاً عن الفروع في البلدات الإسرائيلية.
يدرس قصي (22 عاماً) من قرية الفريديس قضاء حيفا كذلك في مؤسسة أكاديمية إسرائيلية، ويرى أن واقعه يحتم عليه التعامل مع الإسرائيليين في العمل أو الدراسة أو الحياة اليومية.
"بدأتُ دراستي الأكاديمية بعد ثلاثة أشهر من بداية الحرب، الجميع حولي كان يوصيني بعدم التحدث عن الحرب لتجنّب الأذى أو الملاحقات السياسية"، يقول لرصيف22. مضيفاً: "واقعنا في الداخل يفرض علينا الصمت ويمنعنا من التحرك خوفاً على مستقبلنا أو على وظيفة من الممكن أن يقضي عليها وزير الأمن القومي بن غفير بمنشور واحد على فيسبوك".
جاءت زميلتي إلى الصف وهي تعلق قطعة سلاح على خصرها. يشعر المرء بأن هؤلاء حصلوا على مباركة لحمل السلاح. وجود أشخاص ليسوا جنوداً يحملون السلاح هو أمر مقلق ومخيف. من الممكن في أية لحظة أن يشعر أحدهم بالغضب من موقف ما وينفث غضبه بي
يرى قصي أنه لا يوجد إسرائيلي مدني. يقول: "كل إسرائيلي قام بالخدمة العسكرية وذهب إلى الحواجز ليضيّق على أهلنا في الضفة، أو إلى غزة ليقتل شعبها أو إلى القدس ليدنس قدسيتها".
أما أمير (22 عاماً) من قرية المشهد قضاء الناصرة، فيقول إن المحاضر الذي يقف أمام الطلاب في كليته يحمل سلاحاً على خصره. كذلك الطلاب والطالبات حسب قوله. "لقد واجهت العنصرية من قبل الإسرائيليين خلال عملي أيضاً، ففي السنوات الأربع الأخيرة، لم يصل الأمر إلى الوضع الحالي، إذ بات الأمر لا يطاق بتاتاً"، يقول لرصيف22.
وهم التعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين
ولعل المظاهر التي تبدّت فيها ملامح التعايش "البعيدة عن السياسة" بين المجتمع الفلسطيني في الداخل والمجتمع الإسرائيلي، وإن لم يؤمن بها كثيرون حتى قبل الحرب على غزة، ورأوا فيها تعايشاً زائفاً، قد تضررت أيضاً، أو ربما تكشفت بشكل أكبر.
ففي الأول من أيلول/ سبتمبر 2024، قبيل بدء مباراة كرة قدم بين فريق اتحاد أبناء سخنين الفلسطيني وفريق "هبوعيل بئر السبع" الإسرائيلي، قام أكثر من 120 مشجعاً إسرائيلياً ملثماً باقتحام أرضية الملعب، والهراوات والعصي في أيديهم، وقاموا بالهجوم على المشجعين الفلسطينيين.
"المحاضر والطلبة في الكلية قاموا بمدح فريق بئر السبع وذكروا أنّ مشجعي فريق سخنين الفلسطينيين يستحقون أكثر من ذلك"، يؤكد أمير.
هذا ليس الموقف العنصري الوحيد الذي واجهه أمير، إذ سمع أحدهم يقول "إن كل طفل عربي سيكبر غداً يصبح مخرباً، لذلك عليهم أن يقتلوه الآن".
ويشارك أمير موقفاً عن شاب إسرائيلي أخبره أنه اشترى سلاحاً جديداً، برر ذلك قائلاً: "لدي جيران عرب. ربما يوماً ما سيقررون الخروج في مظاهرة في الحي أو الصراخ "الله أكبر" أو "بالروح بالدم نفديك يا أقصى". بكل بساطة سأطلق النار عليهم. سيصيرون شهداء ويذهبون إلى الجنة، أنا أُساعد العرب في الذهاب إلى الجنة".
نحن نعيش في هامش الهامش. الأوضاع الاقتصادية ستكون أسوأ بكثير وسنشهد هجرة من جانب الشباب الفلسطيني للبحث عن مستقبل آخر
ويضيف أمير: "كان لدي زميل ليبرالي ديمقراطي في العمل، ولطيف جداً معي. كنا نتحدث كثيراَ عن أهمية الشراكة بين العرب واليهود. لكن عند بدء الحرب لم يتحدث معي، وبحسن نية مني ابتسمت له وقلت: "إن شاء الله سوف تحدث صفقة تبادل وينتهي النزاع". فأجابني بغضب "لا صفقات مع الإرهابيين، سنقتلهم جميعاً مع الأسرى".
رغم إيمان أمير سابقاً بالنضال المشترك بين الطرفين، يرى اليوم أن هذا التعايش أصبح وهماً حقيقيّاً، والعلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الداخل قد تزعزت، ولم يعد أي طرف يرى في الآخر شريكاً.
يقول الباحث الاجتماعي والتربوي، خالد أبو عصبة، لرصيف22: "منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، هناك نوع من الابتعاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين في الداخل. توجد بعض الشراكات بين الطرفين لكن ليست بالزخم الذي كانت فيه من قبل".
ويتابع: "في الفترة الأخيرة، نلاحظ أن الطرف الإسرائيلي غير معني بالشراكة. نحنُ أيضًا نتحدّث عن واقع في ظل حكومة يمينية متطرفة، الأوضاع الأمنية تتصاعد سياسياً وعسكرياً ولا وجود لأي شراكة في الأفق".
بحسب أبو عصبة، هناك أبعاد نفسية واجتماعية واقتصادية تنعكس في الأكاديميات وسوق العمل نتيجة ازدياد مشاعر الخوف والكراهية بين الفلسطينيين في الداخل والإسرائيليين. "إذ تم فرض نظام جديد على الفلسطينيين في الداخل، نراه في سن القوانين العنصرية مؤخراً، كمحاولة سن قانون يقضي بتعيين المعلمين الفلسطينيين فقط بعد موافقة من "الشاباك" (جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي)"، يقول أبو عصبة.
ويرى أن فلسطينيي الداخل، حتى لو قاموا بتأدية الواجبات المدنية كافةً، يظلون بالنسبة للإسرائيليين، منتمين للشعب الفلسطيني.
ويختم: "ليس لدينا قوة أو إمكانية للتأثير السياسي والاقتصادي. نحن نعيش في هامش الهامش. الأوضاع الاقتصادية ستكون أسوأ بكثير وسنشهد هجرة من جانب الشباب الفلسطيني للبحث عن مستقبل آخر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي