على مدار الساعات الأربعة والعشرين الماضية، لم يتوقف الحديث عن مقطع الفيديو الصادم الذي أطلّت فيه، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، طبيبة أمراض نسائية تُدعى وسام شعيب، أو ما يُعرف بـ"طبيبة كفر الدوار"، للتحدث عن حالات بعض المريضات اللواتي تعاملت معهنّ في الأيام الأخيرة، وهو ما انتهى إلى توقيفها من قبل الأجهزة الأمنية، وإحالتها إلى التحقيق من قبل نقابة الأطباء، بعد شكاوى عديدة تتهمها بتشويه صورة المجتمع المصري، والإساءة إلى نسائه، وتحريض الأهالي على فتياتهنّ، وإفشاء أسرار المريضات وغيرها.
شاهدت الفيديو للمرة الأولى ولم أفهم شيئاً. صدقاً لم أفهم ما هو أكثر ما يزعجني فيه. شاهدته مرتين أخريين؛ كل حرف تفوّهت به خلاله -من دون أدنى مبالغة- جريمة ضد القانون، وفي حق الإنسانية، وفي حق مهنتها كطبيبة والقسم الذي أدلت به.
"أن أراقب الله في مهنتي، وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، في كل الظروف والأحوال باذلاً وسعي في استنقاذها من الهلاك والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم، وأستر عورتهم، وأكتم سرّهم، وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله، باذلاً رعايتي الطبية للقريب والبعيد، للصالح والخاطئ، والصديق والعدو"...
على هذه الكلمات أقسمت "الطبيبة"، وسام شعيب، لكنها فعلت العكس تماماً. في المقطع، تناولت قصة طفلة عمرها 14 عاماً، في أحشائها طفل في الشهر الثامن وزنه 2 كيلو ونصف، وأهلها يرغبون في إجهاضها، وأوضحت أنها أخبرتهم بأن الإجهاض غير ممكن، ومنحت المريضة "فيتامينات".
لا أستوعب ما الذي قد تفعله "الفيتامينات" لطفلة في عمر ابنتي، مع طفل مكتمل النمو في أحشائها، وأهل يرغبون في إجهاضها قسراً، بعدما "زوّجوها قسراً" أيضاً، وانتهكوا طفولتها وآدميتها، ويسعون الآن لإجراءٍ من شأنه إنهاء حياتها! وتكتفي بالقول: "طبعاً أنا فاهمة الفولة… دي لا متجوزة ولا نيلة".
شاهدت فيديو الدكتورة وسام شعيب، أو ما يُعرف بـ"طبيبة كفر الدوار"، للمرة الأولى ولم أفهم شيئاً. صدقاً لم أفهم ما هو أكثر ما يزعجني فيه. شاهدته مرتين أخريين؛ كل حرف تفوّهت به خلاله -من دون أدنى مبالغة- جريمة ضد القانون، وفي حق الإنسانية، وفي حق مهنتها كطبيبة والقسم الذي أدلت به
تُصدر "الطبيبة" حكماً وتعدّه الحقيقة المطلقة، وتتصرف وفقه دون أي احترام لواجباتها المهنية.
لا تتوقف "الطبيبة" عن مواصلة جرائمها، وتضيف أن والدة الطفلة سقطت مغشياً عليها من الصدمة، فتجاهلتها وتجاهلت الاستغاثات: "الحقونا يا جماعة مفيش نبض، الست ماتت"، وبرغم أنها "مفرفرة فعلاً"، باعترافها، والسبب هو "ليه مليش دعوة بقى؟… متعاطفتش مع الست ببصلة (تقصد أبداً)، لأن دي تربية إيدك". مرةً أخرى تتصرف وفق أحكامها وأهوائها بلا مهنية أو ذرّة إنسانية.
تعود "الطبيبة" لتروي عن حالة أخرى لسيدة ولّدتها بشكل طبيعي، وتأخر وصول الأب، فشكّت في نسب الطفل وقامت بإبلاغ الشرطة. وحين ظهر شخص يدّعي أنه زوج السيدة ووالد الطفل مع ورقة زواج عرفي، اعترضت "الطبيبة" لأن الزوج "مواليد 2005، والست مواليد 1990، يعني 'أدّ أمه'، وأكبر منه بـ15 سنةً". لا أعرف متى أصبح للأطباء تدّخل في فارق العمر بين زوجين، وعلاقة ذلك بالولادة.
تابعت "الطبيبة" كاشفةً المزيد من تفاصيل الحالة، واستنكرت أن لديها سابقة ولادة طفل "غير شرعي"، وتعرّضت للحبس، وتحاول نسب الطفل إلى شخص ليس والده، مستنكرةً تبعات ذلك من "اختلاط أنساب" وخلافه.
لا تتوقف عند هذا الحدّ، وتزعم أن حالةً أخرى صادفتها في اليوم نفسه لسيدة مسجونة حامل وصلت إلى المستشفى في حالة ولادة. تقول إن "شكلها كيوت وغلبانة"، وتستغرب أنها مسجونة، فتسأل أمين الشرطة، ويجيبها الأخير -على حد قولها- بأنها ضُبطت وهي تمارس الجنس مع "عيّل" في شقة الزوجية، وزوجها هو الذي أبلغ عنها.
تصرخ "الطبيبة" وتستنكر بنبرة الواعظ المتشدد: "بقينا عايشين في مجتمع على رأي الأستاذ عادل إمام متعرفش مرات مين في حضن مين… دا اللي بقينا عايشين فيه فعلاً. ومعرفش إحنا وصلنا لدا إمتى. وصلنا له من أول ما بقينا نقول الست مش ملزمة بقى والتربية الإيجابية وبنتك تروح رحلات مع أصحابها وتبات برّه ومعرفش أسألها بتروح فين وبتيجي منين ما هي تربية إيجابية بقى… دي مش تربية إيجابية دي لا مؤاخذة تربية وسخة".
بدا لي أن كبتاً مخزّناً ضد حقوق الإنسان -حقوق المرأة تحديداً والطفل- وضد النسوية، انفجر داخلها في هذه اللحظة. نسيت كل شيء إلا حقدها، وتحدثت وفق معتقداتها وصبّتها صبّاً على كل منجزات الحِراكات الحقوقية والنسوية.
نبرة الاستعلاء وادّعاء الشرف في صوتها، لا تقلّ علوّاً عن نبرة الحقد البادية بقوة في حديثها وتحريضها. تخبرنا "الطبيبة" وهي "تشخط" فينا: "الست المحترمة تقعد في بيتها تربّي عيالها، تبقى عارفة بناتها فين، تبقى عارفة أخلاق بناتها". لكن لا توضح كيف تعدّ نفسها "ستّ محترمة"، وهي لا تجلس في المنزل وتعمل في المستشفى وفي العيادة؟
تقول: "جدّتي كانت ستّ محترمة"، وتعدّ أمّاً مكلومةً على طفلتها الحامل في عمر الـ14 عاماً، سيدةً "غير محترمة" و"تستاهل"، دون أن تفكر للحظة في أن هذه الطفلة قد تكون ضحية اعتداء جنسي، أو تم التغرير بها، أو على أقل تقدير زُوّجت قسراً.
تعمّم وتخوّف من إنجاب الفتيات، وتزعم بأن "كل واحد عنده بنت بقى يا حبيبي كأنه ماسك حتّة من النار مش عارف هتجيب له الفضيحة إمتى"، وتشجع "كل واحد يروح يعمل لنفسه ولعياله فحص 'دي. إن. إيه' عشان يتطمّن إن دول عياله"، دون أن تفكّر للحظة في أن هذا الكلام قد يقود إلى عشرات، وربما إلى عدد لا نهائي من الجرائم ضد الفتيات والأمهات اللواتي ينجبن الفتيات في مجتمع ذكوري بالفعل.
تستخدم لغةً وتعابير فوقيةً وعنصريةً معيبةً لا يمكن أن تصدر عن شخص لديه أدنى مبادئ احترام الآخر على غرار: "عيّل متني"، و"الأشكال دي"، و"التربية الخرا"، و"الرجالة بتتأجّر".
بل تتعدى على أحكام القوانين وتطلب تشديدها ضد النساء فقط، وكأن أيّ "جريمة جنسية" -كما تصنّفها- طرفاها "الستّ" فقط. "يعني إيه واحدة اتقفشت مع واحد غير جوزها تاخد سنتين حبس؟ دا يا بلاش! دي هتخلّص سجنها وتطلع تكمّل مع الراجل عادي… ليه الناس دي مبتتجلدش ولا تترجم زي ما الشريعة الإسلامية قالت؟… إحنا لو عملنا كدا؛ حد اتجلد ولّا اترجم في ميدان عام ولا الحرامي اتقطعت إيده، محدش هيعملها تاني"، تقول "الطبيبة" المتطرفة.
نبرة الاستعلاء وادّعاء الشرف في صوتها، لا تقلّ علوّاً عن نبرة الحقد البادية بقوة في حديثها وتحريضها. تخبرنا "الطبيبة" وهي "تشخط" فينا: "الست المحترمة تقعد في بيتها تربّي عيالها، تبقى عارفة بناتها فين، تبقى عارفة أخلاق بناتها". لكن لا توضح كيف تعدّ نفسها "ستّ محترمة"، وهي لا تجلس في المنزل
في ختام مقطع مليء بالكوارث والجرائم والتشويه والتحريض، تقول "الطبيبة": "كفاية تربية إيجابية… يا ريت نفعّل مود الشبشب، اضربوهم بالشبشب إيه المشكلة؟ كنا بنتضرب بالشبشب وطلعنا ناس محترمين".
ألقت "الطبيبة" اللوم على التربية الإيجابية، وعلى حقوق المرأة، وعلى أفلام السبكي ومحمد رمضان، وعدّت المرأة سبب الأزمة "الأخلاقية" للمجتمع دائماً. فهي المخطئة حين لا تجلس في المنزل وتربّي بناتها، وهي المخطئة حين لا تلاحقهنّ وتعرف "رايحين فين وجايين فين". وهي المخطئة إن حملت نتيجة اعتداء. وهي المخطئة الوحيدة إن مارست الجنس مع شخص غير زوجها، وتستحق أقصى العقوبة. أما الرجل، فهو مخطئ فحسب إذا وافق على نسب طفل ليس من صلبه إليه. أما غير ذلك فهو "يا حبيبي"، حسب ما قالت، يمسك الجمر.
بعد رواج المقطع، وقبل القبض عليها، ظهرت "الطبيبة" مذعورةً وهي تعتذر عن "التعميم"، وتقول إنها لا تقصد "إصدار الأحكام" لأنها بشر، وتخطئ و"فيّا العبر"، مدعيةً أن هدفها كان "النُصح والتوعية".
لم أفهم حتى الآن ما هو أكثر ما يزعجني في هذا المقطع، وربما لن أفهم ذلك أبداً. لكن الكلمة الوحيدة الدقيقة التي قالتها "الطبيبة" هي: "مش فاهمة"، لأنها حقاً "مش فاهمة".
لم أفهم حتى الآن ما هو أكثر ما يزعجني في هذا المقطع، وربما لن أفهم ذلك أبداً. لكن الكلمة الوحيدة الدقيقة التي قالتها "الطبيبة" هي: "مش فاهمة"، لأنها حقاً "مش فاهمة" كيف تُجبَر آلاف الطفلات في مصر على الزواج القسري، وكيف يُنجبن قسراً أيضاً من زيجات "قانونية"، أو اعتداءات جنسية. و"مش فاهمة" كيف تُجبَر آلاف وربما ملايين النساء "المحترمات" على العمل ليل نهار لإعالة أنفسهنّ وأسرهنّ وأطفالهنّ. و"مش فاهمة" أن الضرب لا يبني مجتمعاً صالحاً، ولا التخوين والشك. و"مش فاهمة" أن وظيفة الطبيب ليست إصدار الأحكام أو الاستعلاء على المرضى بعلمه، وإنما تكريسه لخدمتهم. و"مش فاهمة" أن النُصح والتوعية ليسا بـ"الشخط" أو الفضح أو الوصم أو التحريض.
ستنتهي محنة "الطبيبة" -وربما تكون ضحية تربية ذكورية ومفاهيم مغلوطة- عاجلاً أم آجلاً، لكن وقع كلماتها لن يزول قريباً، بعدما خلقت سجالاً مفعماً بالكراهية والعنف ضد الفتيات والنساء.
في مطلق الأحوال، أنا لن أسامحها، كسيدة مصرية وكأمّ لطفلة تواجه هذا المجتمع بكل ما فيه من كراهية ضد النساء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 ساعاتتم
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.