في قرية "البرشا" الواقعة في عمق صعيد مصر، حيث تتناثر البيوت الصغيرة المتهالكة، تتولّد أحلام صغيرة بحجم السماء، تتحدّى حدود المكان وضيق الأفق، لتنمو على أيدي مجموعة من الفتيات العاديات، لكن بأحلام أكبر من أن يحتملها هذا المكان الصغير. يروي فيلم "رفعت عيني للسما" للمخرج أيمن الأمير وندى رياض.
يلتقط الفيلم أحلامهن ورغباتهن كأنه يحاول تخليد ما وراء الوجوه البسيطة، استكشاف حجم الكبت، جدران المجتمع، المسافات المفتوحة والممكنة وطاقتهن الكبرى التي تستنزف وتقيد.
فيلم "رفعت عيني للسما" هو فيلم وثائقي مصري من إخراج ندى رياض وأيمن الأمير، يتناول قصة مجموعة من الفتيات في قرية البرشا، بمحافظة المنيا في صعيد مصر، يقرّرن تأسيس فرقة مسرحية تُدعى "بانوراما برشا"، لتقديم عروض مستوحاة من الفلكلور الشعبي الصعيدي، بهدف تسليط الضوء على قضاياهن، مثل الزواج المبكر، العنف الأسري وتعليم الفتيات.
استغرق تصوير الفيلم أربع سنوات، حيث عايش المخرجان حياة الفتيات وتحدياتهن، ما أضفى على العمل مصداقية وعمقاً في تناول الموضوعات المطروحة.
حصل الفيلم على جائزة "العين الذهبية" لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان "كان" السينمائي الدولي، بدورته الـ77 لعام 2024، ليصبح أول فيلم مصري يفوز بهذه الجائزة منذ تأسيس المهرجان، كما فاز بجائزة "فارايتي" ضمن فعاليات مهرجان "الجونة" السينمائي، حيث تم تكريم المخرجين ندى رياض وأيمن الأمير، على عملهما المتميز.
الفيلم يجسّد قوة الفتيات وإرادتهن الصلبة، وكيف يحولن الفن، من وسيلة للتعبير عن الذات إلى نافذة للتغيير والتأثير.
"رفعت عيني للسما" فيلم وثائقي، من إخراج ندى رياض وأيمن الأمير، يتناول قصة فتيات في قرية البرشا، بمحافظة المنيا في صعيد مصر، يقرّرن تأسيس فرقة مسرحية، لتقديم عروض مستوحاة من الفلكلور الشعبي الصعيدي، بهدف تسليط الضوء على قضاياهن، مثل الزواج المبكر، العنف الأسري وتعليم الفتيات
المسرح كمحكمة
ما بين الافتتاحية والخاتمة، قوسان، والاثنان يحملان نفس الفكرة، من عالم أضيق إلى عالم متسع، لكن الفارق بين المشهد الأول والأخير، عدم وضوح المسلك، التيه والتجريب، الطريق لم يكتشف بعد، بل يجب البحث عنه من خلال طرق القرية المتعرجة، بجوار بيوت ضيقة تنقل إحساساً بحياة مغلقة، كأن خطواتها تبحث عن شيء لم يُكشَف بعد. تصل أخيراً إلى بناء قديم، أقرب للأطلال، يراه الآخرون مجرّد أطلال، لكنها تدرك ما خلفه: نافذة تطل على عالم مختلف، كوة إلى السماء وفضاء من الأحلام.
في هذا المكان البسيط، تجمع الفتاة زميلاتها من بنات القرية، ليبدأن تجربة مختلفة، من خلال تدريبات مسرح، تعلّمهن كيف يصغين للأصوات الحقيقية، الإنصات للطبيعة بجمالها وإزعاجها، ثم تدريبات حركة حرّة، بلا تفكير. الحركة وسيلةً للتعبير عن أحاسيس مكبوتة، وكأنهن يتعلمن لغة جديدة، لغة تتحدّى الصمت والإكراه، وتفتح أمامهن باباً للانفلات من القيود.
في هذه الزاوية الخفية، يكتشفن مساحة من الحرية التي تبدو مستحيلة في أي مكان آخر، يصبحن أكثر مرحاً وتحرّراً، ويتحوّل المكان في في لحظة، عبر كرسي خشبي متهالك، إلى مكان للاعتراف والبوح، لكن ليس أمام دائرة كنسية أو مجتمعية، بل محاطة بدائرة من التضامن والتفهم.
في بيوت متواضعة، مليئة بالأيقونات المسيحية، تعيش الفتيات حديثات العهد بالحياة، ويعبّرن عن أنفسهن من خلال عروض مسرحية بسيطة في الشارع، تستلهم روح "مسرح السامر". هنا، لا تُعدّ هذه العروض مجرّد تمثيل عادي، بل هي محاولة لتقديم قصص المجتمع وأحلام الفتيات بصورة عفوية، حيث يستحضرن أسلوباً شعبياً يتسم بالمشاركة الجماعية والتلقائية، ويمتزج بالأجواء المحيطة ليتحول إلى مساحة للتعبير الحر.
في المسرحيات، التي تؤدى بأبسط الأدوات، يتحدّثن وسط أهالي القرية، عن الزواج المبكر، العنف الأسري، الرغبة في الهروب من القيود، وفي الخلفية تظهر وجوههن وهي تعبّر عن أحلامهن وألمهن، كأنها تُعيد رسم الواقع، وتفتح باباً خفياً نحو مساحات أوسع من مجرد القرية الضيقة.
تيمة المحكمة هي التي تحكم أغلب العروض، في إحداها تستعرض قضية حق الفتيات في الصعيد في الحب واختيار شريك الحياة، مثلهم مثل الرجال. يبدأ العرض بتعليق صوتي من أحد المشاهدين: "قلة رباية"، جملة تلخّص نظرة المجتمع القاسية تجاه الفتيات اللواتي يتجرأن على الحب. المسرح يتحول إلى محكمة ، حيث تُحاكَم الفتيات بتهمة الحب، ولكن بحركة بارعة من الفتيات يتحوّل المتفرج إلى متهم، من خلال توجيه أسئلة إليهم، المجتمع الذي يجبرهن على الزواج المبكر دون فرصة لاختيار شريكهن. من خلال أسئلة تتساءل: "جوزت بنتك غصبن عنها؟"، و"إنتِ مبسوطة بحياتك بعد ما اتجوزتي بدري؟"، في نقد مباشر للقرارات التي تُفرض عليهن.
يبدأ العرض بتعليق صوتي من أحد المشاهدين: "قلة رباية". جملة تلخّص نظرة المجتمع القاسية تجاه الفتيات اللواتي يتجرأن على الحب. المسرح يتحول إلى محكمة، حيث تُحاكَم الفتيات بتهمة الحب، ولكن بحركة بارعة من الفتيات يتحوّل المتفرج إلى متهم
في نهاية العرض، يصدر الحكم بأن تختار الفتاة من تحب، وفي لحظة هادئة، يتحوّل المسرح إلى مرآة عاكسة، تُظهر للجمهور صوراً من حياتهم، تضعهم في موضع المساءلة الصامتة، حيث يتداخل الواقع بالعرض، ويصبح التساؤل حول القيود مفروضاً على الجميع، كأن المسرح يفتح نافذة لرؤية مختلفة، واقع فيه الاختيار حق لا يُحاكم، حتى لو لم يقبل الجمهور الحكم، لكن السؤال تسلّل إليه كصاعقة، كصفعة، وسيسري في عقله وقلبه مع الزمن، تكفي نظرة الدهشة التي تعلو وجوه المتفرجين في نهاية العرض لتؤكد هذا.
في عرض آخر تهمة جديدة، حيث تتمنّى إحدى الفتيات أن ترتدي فستاناً بدون الحاجة لإخفائه تحت جاكيت، ومع حكم المحكمة، تخلع الفتاة الجاكيت، وتظهر الفستان بوضوح، مشهد ينقل صدمة ويوجه رسالة قوية: الحلم، وإن كان بسيطاً، قادر على اختراق الحواجز المجتمعية.
ينتهي العرض بمشهد خارج إطار المسرح، في مكان التدريب البسيط، والذي يبدو تلك المرة كفضاء ساحر. هنا، تتحوّل الجدران إلى نافذة واسعة للبوح، تتبادل الفتيات الأسرار وتناقشن بلا رقابة، يتحدثن بصراحة وحتى بطرائف ذات إيحاءات. هذا المكان أرحب من قريتهن، مساحة واسعة مثل حلم يعانق السماء.
في عرض" أتوبيس الأحلام" لا يصبح الأتوبيس هنا مجرّد وسيلة نقل، بل هو استعارة حية لحدود واقع ضيق يعرقل طموحاتهن ويمنعهن من الوصول إلى آفاق أوسع. الفتيات يتطلّعن إلى مغادرة القرية، إلى الوصول إلى القاهرة، المكان الذي يمكن لأحلامهن أن تجد فيه مجالاً أرحب، لكن الأتوبيس يظل عائقاً متيناً أمام تلك الرغبة.
وسط نظرات التهكم والسخرية، تخوض الفتيات صراعاً صامتاً ليصبحن شيئاً يتجاوز مجرد شخصيات عابرة في الطرقات؛ يبحثن عن معنى يتخطى قيوداً لطالما حدّت من طموحاتهن، كأنهن يحاولن كسر الدائرة التي تسجن أحلامهن في زوايا القرية.
وبينما يُحاكمن على رغبتهن في الغناء أو الرقص أو ارتداء الفساتين الملونة، يحوّلن المسرح إلى محكمة رمزية يحاكم فيها المجتمع، على تلك القيود التي وضعها فوق أكتافهن دون أن يسألهن رأيهن. في هذا المسرح، تقفن كفتيات يضعن عالماً كاملاً في قفص الاتهام، يرفعن أصواتهن ضد التقاليد التي تكبت حريتهن وتمنعهن من الوصول إلى السماء.
أحلام تصطدم بجدران الواقع
لكن الواقع بسخافاته يفرض نفسه من جديد، حيث تخوض الفتيات نقاشات مع الخطيب أو الأب، حول الأحلام وطموحاتهن، فيضطررن للتقليل منها أو تكييفها تحت سقف ما يفرضه المجتمع، وكأن الحلم محاصر مرة أخرى، ولو في قالب يبدو أكثر نعومة وسحراً.
عند الحديث عن القاهرة، يُصوّر الفيلم المدينة بلسان بقّال شاب، كوحش كاسر، مزدحم، غريب، غامض، يخيفه فقط لأنه لا يجرؤ على مغامرته. لكن ماجدة تحديداً في تعبيرها عن أحلام الفتيات التي تضاهي السماء، تردد بثقة أن خوفهن من القاهرة أقل من طموحهن بالتحرّر من القرية الضيقة. هذا الطموح يجعلهن أقوى من أي وحش، ويعطيهن شجاعة تتحدى التقاليد وتكسر القيود.
لكن الحلم لا يسير دائماً بخط مستقيم، فوسط الطريق تظهر تحديات جديدة. يظهر في الفيلم صراع داخلي، حين يتدخّل الخطيب أو الزوج ويطالبهن بتقييد أحلامهن من أجل حياة أسرية "مستقرة". مونيكا، التي كانت تحلم بأن تكون مطربة ، تصارع بين رغبتها في الغناء وبين ضغط المجتمع الذي يطالبها بالصمت، وكأنها بين نداءين لا يلتقيان.
هايدي، التي ورثت حب الفن من عائلتها، تواجه بدورها معركة حين يطلب منها خطيبها التخلي عن الفرقة ومسح أرقام زميلاتها من هاتفها، بحجّة أنها "مُنحرفة وخائنة" إذا واصلت حلمها.
أمام هذا الضغط، تتراجع الفتيات، وتصبح الحياة اليومية قيداً يكبلهن ويجبرهن على الاختيار بين الشريك والحلم، لتبقى ماجدة وحيدة في الفرقة، تكافح بين البقاء على حلمها ورؤية أحلام صديقاتها تنهار تحت أعباء الواقع.
"رفعت عيني للسما" هو أكثر من مجرّد فيلم وثائقي، هو تجربة إنسانية مكتوبة بالأحلام، مصنوعة من الصبر والتحدي، تذكيرٌ بأن الفراشات المحبوسة في الكهوف حتماً ستطير، ستكسر القيود وتحلق عالياً، نحو سماء لا حدود لها
مدينة القاهرة: الحلم الكبير
في مشهد مؤثر يفتح قوس جديد، وبعد رحلات طويلة من التحدي والمواجهات، تقرّر ماجدة السفر إلى القاهرة، مدينة الأحلام والاحتمالات المفتوحة. تسير وحدها، وسط المدينة المضيئة، كأنها تخطو أولى خطواتها نحو عالم أوسع وأفق لا ينتهي. تنتقل الصورة، من الطرق المتعرّجة المظلمة إلى شوارع واسعة مليئة بالأمل. ماجدة، بشجاعتها النادرة، تختار أن تتحدّى كل شيء من أجل الوصول، كأنها تقول للسماء: "لن أرفع عيني فقط، بل سأصل."
ينتهي الفيلم بمشهد يعيد الروح إلى الفرقة، لكن بروح جديدة، حيث تملأ الفرحة عيون الفتيات الصغيرات اللواتي يضربن الطبول بإيقاع ثابت، وكأن كل دقة تحمل معها نداءً للحياة والحلم. تتصاعد أصوات الطبول، فتتردّد في أرجاء القرية، تصطدم بجدران البيوت الضيقة لكنها لا تتوقف، بل تواصل مسيرتها حتى تعانق الفضاء المفتوح.
يصبح صوت الطبول أقوى من أي حواجز، كأنه موج يتجاوز حدود القرية، يصل إلى آفاق أوسع، يحمل معه أحلامهن ورغباتهن في التحليق. لم تعد القرية، بطرقاتها المتعرّجة وبيوتها المتراصّة، قادرة على حبس هذه الأصوات التي ترفض أن تظل في الهامش. الفتيات الصغيرات، بروحهن المفعمة بالحياة، يبثثن رسالة واضحة: المعركة من أجل الحرية مستمرة.
"رفعت عيني للسما" هو أكثر من مجرّد فيلم وثائقي، هو تجربة إنسانية مكتوبة بالأحلام، مصنوعة من الصبر والتحدي، تذكيرٌ بأن الفراشات المحبوسة في الكهوف حتماً ستطير، ستكسر القيود وتحلق عالياً، نحو سماء لا حدود لها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...