هل يمكن أن يتصل مهرجان سينمائي بتروما أو كرب لا تنساه؟ الإجابة في حالتي، نعم.
فبينما تعتبر المهرجانات السينمائية فرصة للجمهور العادي لمشاهدة أشهر النجوم عن قرب، أو لمحبي السينما لمتابعة أحدث الأفلام، وللنقاد للمشاهدة والتغطية والكتابة ولقاء الأصدقاء الذين لا يجتمعون إلا في مثل هذه الفعاليات، وللبعض هي فرصة للمرح والتنزه على حساب المهرجان إن كانوا مدعوين بالطبع.
أنا خليط من أغلب ما سبق. أتابع الأفلام بشغف "السنيفيلي" المراهق، وأشاهدها وأكتب عنها كناقدة ذات عشر سنوات من الخبرة، وأتوق لمقابلة دائرتي الضيقة للغاية من الصديقات والأصدقاء، ولن أنكر رغبتي في التنزّه والتمتع بأشعة الشمس والبحر، خصوصاً وإني لست مدعوة، فتلك مزية أحصل عليها بمالي الخاص، وقد تجاهلني المهرجان الذي أعمل ضمن طاقمه، غالباً لأني لا أتحدّث بالعربية المكسّرة والإنجليزية المهشمة، فتلك رفاهيتي المدفوعة الثمن لآخر قرش. لكن من أين نبتت التروما في وادي "مهرجان الجونة" غير الطيب؟
ضائعة بين الترعة والأرض الزراعية
بدأت ترومتي مع مهرجان الجونة العام الماضي، في 2023، الدورة التي حجزت لها غرفة في فندقي المفضل، وخططت للحضور مع زوجي، لأجمع بين رحلة عمل والاحتفال بعيد زواجي.
قبل المهرجان بأسابيع قليلة، بدأ طوفان الأقصى، لينقلب العالم العربي رأساً على عقب. تجمّدت مثلما تجمّدت كل الفعاليات، ولم أعد سوى قلب بذراعين وساقين، قلب يحترق وهو يقوم بكل الأفعال الاعتيادية: أطهو الطعام، وأكتب مقالات عن الحرب، وأتواصل مع الصديقات، وأحاول تنظيم رحلتي القادمة، رغم كل الإشارات التي تدلّ على أن مصيرها الفشل.
قبل المهرجان بثلاثة أيام، وخلال عودتي من فعاليات ورشة نسوية انتظرتها طويلاً، أتاني خبر تأجيل المهرجان، وفي ذات الدقيقة رسالة إلكترونية بتعدّي حجزي مدة الإلغاء والتعديل المجاني، وكارثة أخرى في عملي تحمل في طياتها اتهاماً ظالماً أوصلني لقمة الغضب والإحباط بسرعة الصاروخ.
تجاهلني المهرجان الذي أعمل ضمن طاقمه، غالباً لأني لا أتحدّث بالعربية المكسّرة والإنجليزية المهشمة، فتلك رفاهيتي المدفوعة الثمن لآخر قرش. لكن من أين نبتت التروما في وادي "مهرجان الجونة" غير الطيب؟
قدت سيارتي في المنطقة التي تبعد عن منزلي كيلومترات عديدة ولم أذهب إليها من قبل، وأنا أراسل أصدقاء يعلمون المزيد من التفاصيل عن تأجيل المهرجان، وموقع الحجز والفندق، ومديرتي في العمل، خلال ذلك يأمرني تطبيق الخريطة بالإرشادات، فأخفق في اتباعها.
استفقت من هذا الكابوس الفوضوي لأجد نفسي في مكان لم أره من قبل، يميني ترعة ويساري أرض زراعية، كابوس من التيه المادي والنفسي وضعني في حالة شلل لشهور عديدة، حتى أتجاوز تلك الساعات التي امتدت حتى استطعت العودة للمنزل بسلام بعدما أخفقت حتى في شرح مكاني لزوجي، والتماس ردّ مالي من الفندق الذي تعاطف مع وضعي، وحلّ مشاكلي في العمل.
حائرة بين الفوضى والتخطيط
مر العام، وآتت الدورة الجديدة، والتي قرّرتُ بشكل واع تماماً تحويلها إلى عطلة سينمائية خاصة. مددت حجزي ليوم إضافي حتى استمتع بأشعة الشمس والبحر قبل بدء الفعاليات، واعتزمت عدم تغطية المهرجان خلاله، ووضعت خططاً شديدة التعقيد للتحكم في كل التفاصيل الممكنة: إعداد طعام صحي لمدة عشرة أيام، والشاطئ الذي سأزوره، وموعد انطلاقنا، وتأثيره على موعد الوصول والحصول على بطاقة المهرجان، وحجز أفلام اليوم الأول للمهرجان، وفرصة التمتع بالقليل من أشعة الشمس هذا اليوم.
لكن الخطط بدأت تتهاوى مرة أخرى. تم إلغاء الحجز، فبدأت الدوران حول نفسي للحصول على آخر في أسرع وقت، ثم أخبرني زوجي أن لديه التزاماً في يوم السفر صباحاً، وعليه سيتأخر سفرنا إلى ما بعد الظهر.
أطلق على اليوم قبل السفر اليوم صفر، خلال هذا اليوم قابلت معالجي النفسي إلكترونياً، أخبرته عن كل هذه الفوضى، وعن الفارق في ردّ فعلي بين العام الماضي والحالي، وكيف في المعتاد كنت سأغضب وأنهار. تحدثنا طويلاً عن المرونة وعن التخطيط، وكيف أن الاثنين وجهان لعملة واحدة، وليس كما كنت أظن.
عشت أربعين عاماً في تقلب مستمر، بين محاولة السيطرة على كل تفاصيل حياتي، ثم إحباطي لفشلي، فأترك الفوضى تعم كل شيء، قبل أن أعيد الكرة مرة أخرى، فيما يشبه التأرجح بين حمية غذائية منخفضة السعرات، ثم التوجه بعدها للطعام المصنع عالي الدهون والسكريات، تناوب أهلك جسدي وروحي.
عندما أقع أسيرة الجداول محدّدة الخطوات مسبقاً، أشعر بعضلاتي مشدودة طوال الوقت، كما لو أني أخطو على حافة سكين، وعندما أترك نفسي للتيار، يحملني لدوامة من عدم الإنتاجية والأيام التي تتشابه نهارها مع ليلها، فلا أتذكر كيف مضت.
ربما عالجني مهرجان الجونة من التروما التي تسبّب لي فيها العام الماضي، وربما اختبرت خلاله تجربة عرّفتني أفضل على ذاتي، على الأقل عرفت أن فتاة الحفلات بداخلي لا ترغب في الظهور مرة أخرى للأبد، بعدما أرهقها السهر لليلة واحدة بشكل كفيل بإقعادها في السرير لأسبوع
مرتبكة بين الطائر المبكر وفتاة الحفلات
وضعت لنفسي جدولاً مريحاً من الأفلام. لم أفعل كالمعتاد بضغط أربعة أو خمسة أفلام في كل يوم، وتركت ساعتين دون أي التزامات في الصباح الباكر، أقضيها على شاطئ البحيرة والمسبح مع القراءة.
عشت ثلثي المهرجان مستمتعة بما أسميته "روتين الطائر المبكر": أستيقظ في الثامنة، أفطر سريعاً، ثم أقضي ساعات عدة حتى الظهيرة وأنا مسترخية على مقعد البحر/ الشيزلونج، أقرأ كتاب "رحم العالم"، أضع الملاحظات، وأشعر بالغيرة من كاتبته، ثم أبلل جسمي بالماء المثلج، قبل ارتداء ملابس اليوم الطويل القادم، وأبدأ في مشاهدة الفيلم تلو الآخر، ثم العودة والنوم مبكراً لأبدأ اليوم الجديد.
قبل نهاية المهرجان، أخبرني الاصدقاء عن حفل مسائي يفوتنا كل ليلة، وقرّرنا التوجه إليه، سرنا في صحراء الجونة لما يزيد عن ثلث ساعة - طبقاً لمساحة المدينة هذا وقت طويل للغاية- وفي النهاية وصلنا لساحة تسودها إضاءة زرقاء وبنفسجية، يملأها شباب "الجين زي"، ويسيطر على الأغاني شاب يصغرهم سناً، يقوم بمزيج من غناء الراب والتراب والدي جي.
راقبت هذا الحشد لدقائق طويلة، لم أشعر بالملل ولا الإثارة، بل بالفضول الشديد، الشعور الذي استمرّ لثلاث ليالي على التوالي، في الأولى والثانية شاهدت ما يحدث من على مسافة، لم أستطع الاستمتاع بالتجربة فقرّرت الاندماج فيها بالليلة الثالثة، أن أكون جزءاً من الحشد، وليس المراقب البعيد.
أعتقد لو تم تصويري من الخارج لبدوت جزءاً من نسيج المستمتعين بكلمات الأغاني الذي تبدو في أذني مثل اعتراض شاب على مصائب القدر وغدر الأصحاب وإيذاء الآباء، غير أني ظللت في وضعية المراقب، أراقب نفسي وغيري، وأشعر أني خاضعة لتجربة اجتماعية ثقافية، أنا المرأة في الأربعين، التي تجرب للمرّة الأولى حفلات العشرينيات الصاخبة.
رجعت إلى منزلي، ووقعت في بئر من الملابس المتسخة، ومتابعة مشاريع ابنتي الدراسية التي لم تقم بها في غيابي، وستكون سبب شكواها لمعالجها النفسي في المستقبل مني، كأم مهملة، جرت وراء نزواتها وتركتها، وسافرت لمهرجان الجونة لتعالج تروماتها
تائهة بين رفاهية الجونة وأكوام الغسيل
ربما عالجني مهرجان الجونة من التروما التي تسبّب لي فيها العام الماضي، وربما اختبرت خلاله تجربة عرّفتني أفضل على ذاتي -على الأقل عرفت أن فتاة الحفلات بداخلي لا ترغب في الظهور مرة أخرى للأبد بعدما أرهقها السهر لليلة واحدة بشكل كفيل بإقعادها في السرير لأسبوع- غير أن المؤكد أني عشت عشرة أيام مثالية للسينفيلية المرفَّهة، محبة الشمس والقراءة بداخلي، فشاهدت عشرين فيلماً، وقرأت كتابين ممتازين.
لكن مثلما عودتنا الحكايات، لكل سندريلا موعد نهائي يجب أن تعود بعده لحياتها الاعتيادية. ودّعت المهرجان ورجعت إلى منزلي، ووقعت في بئر من الملابس المتسخة، وآخر من الملابس الشتوية التي يجب أن تستبدل تلك الصيفية، وضرورة الذهاب للسوق حتى لا نتضور جوعاً، ومتابعة مشاريع ابنتي الدراسية التي لم تقم بها في غيابي، وستكون سبب شكواها لمعالجها النفسي في المستقبل مني، كأم مهملة جرت وراء نزواتها وتركتها، وسافرت لمهرجان الجونة لتعالج تروماتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 ساعاتتم
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.