ما زلت أواجه صعوبة في الرد على سؤال: ماذا تفعل في الحياة؟ ما هي وظيفتك؟ فأنا مازلت لا أرى نفسي كاتباً، فكيف لي أن أرى أنه يمكن وضعي في نفس التصنيف الذي يشمل محفوظ وكامو وأوستر! بكل تأكيد لا يجب أن تصبح مارادونا حتى تكون لاعب كرة، ولكن مازلت أشعر بثقل وخجل يمنعني من حمل اللقب، ربما بسبب أن كتاباتي، سواء على مستوى الإنتاج أو الجودة، ما زال أمامها طريق طويل حتى تقف صارخة أمام خجلي، معلنة عن نفسها بتحدٍ وثقة.
خلال ذلك الطريق حاولت اكتشاف أكثر الأنواع الأدبية قرباً لي، أيهما بإمكاني السير في طريقه ومن منهم يستحيل علي ذلك. بكامل الحزن والأسى، كان الشعر أول الطرق المسدودة، وتبعته الرواية، لم أحاول كتابة واحدة، ولكن محاولتي لكتابة قصة قصيرة، والتي باءت بالفشل هي الأخرى، علمتني أن كلا الطريقين لم ولن يكونا لي، ومن حينها وتحولت لصياغة أفكاري على شكل قالب نثري، أحاول أن أجعله ممتعاً وذكياً قدر الإمكان، ومن خلاله أحاول الحديث عما أحب وأكره، أحاول فهم العالم واستكشافه وتفكيك مفرداته وإعادة صياغتها، في رحلة لن تنتهي إلا بآخر شعاع نور تراه عيني، وهنا كانت الكتابة في شكلها المقالي هي رفيقتي وصديقتي الوحيدة في هذه الحياة التي تبتلعني الوحدة في كل ركن من أركانها.
قصّة لا تقصّ
كنت أتممت للتو عامي العشرين عند محاولتي الأولى لكتابة قصة قصيرة، والتي كانت تدور عن شاب وفتاة مثليين، يخوض كلاً منها رحلته الخاصة في مجابهة دعوة الزواج من عائلته، يجمعهم لقاء تقليدي فيما يعرف في الثقافة العامة بـ "جلسة تعارف"، وهي أول حلقات مسلسل "زواج الصالونات".
كانت وما زالت تسيطر علي الوحدة، وأحلم أن تمتد لي يد تنتشلني من ظلماتي، ودائماً كانت يد فتاة هي من تنقذني في أحلامي
رتبت أم الشاب حيلة لا تنطلي على أحد، لكن الشاب تماشى معها وهو يعرف كيف سينفك منها في المستقبل، وفيما بعد تكرّر اللقاء بين الشاب والفتاة، ولكن في الخارج هذه المرة، وبينما تحسس كلاهما مسدسه لكي يشعر الآخر بعدم رغبته، حدث العكس وانقلب حديثهم عن السينما والموسيقى، وشعر كلاهما براحة وألفة تجاه الآخر، وقبل اللقاء الثاني بدأ كلاهما في التفكير كيف سيحاولان إنهاء هذا الشيء بأكثر طريقة لطيفة.
كانت المبادرة من الفتاة أنها اعترفت بشجاعة بميولها، ليتبعها الشاب بالاعتراف هو الآخر، وبعد قرارهما أنهما سيخبران كلا العائلتين أن الرفض كان من جهة الشاب؛ حتى لا تقع الفتاة في مشاكل الرفض المعتادة من قبل أهلها. وقبل أن يحدث ذلك، خطر للشاب فكرة أن يتزوجا ويتحرّر كلاهما من قيود العيش مع عائلتيهما ويعيشا كصديقين، فمن يعرف ربما تجبر الفتاة على الزيجة القادمة أو تضطر للهرب وهي لا تستطيع تحمل نفقات الاستقلال الآن.
حتى لا أعيد كتابة القصة التي تمتعت بالركاكة في كافة جوانبها، فحتى الحبكة ربما قرأتها أو شاهدت شيئاً مماثل لها مئات المرات. نجحت خطتهم ثم بعد مرور عامين، استطاعت الفتاة إيجاد فرصة عمل لها بنيويورك، وسافر الشاب معها كمرافق، وهناك انفصلا ليعيش كل منهما حياته التي كان يود أن يحظى بها منذ البداية.
الكتابة وذاتيتها
دائماً ما كانت محاولات كتابة القصة ذاتية ولا ذاتية في نفس الوقت، أحاول أن أتحدث عن مشاعر، وهواجس وأسئلة تغمرني، ولكن في قالب أبعد ما يكون عن حياتي، فلا أرغب أن أتعرّى أمام الجميع. كانت وما زالت تسيطر علي الوحدة، وأحلم أن تمتد لي يد تنتشلني من ظلماتي، ودائماً كانت يد فتاة هي من تنقذني في أحلامي، ومن هنا جاءت الفكرة، فمن في هذ المجتمع يمكن أن يمثل "ثيمة" الوحدة والنبذ أكثر من المثليين، تزامن هذا مع زيادة اهتمامي بالقضايا الاجتماعية والحريات والتي من ضمنها المثلية بكل تأكيد. ولكن، عندما تأملت في القصة التي كتبتها، وجدت أنها تعكس أبعاداً أخرى تتعلق بالنساء ورؤيتي لهم.
كان موقف الفتاة أكثر صعوبة وهو الدافع الأساسي لإتمامهم الزواج، وهو منطقي بالطبع؛ فالنساء يعانين أكثر بكثير، وعلى مستويات وطبقات أعقد من نظائرهن من الذكور، حتى إذا تعرّضا نظرياً لنفس الموقف. يمتلك الرجل قدرة على رفض الزواج والعزوف عنه نهائياً، بل ربما ينظر إليه كرجل يود الاستماع بحياته، أو كونه لا يرغب في أن تنحصر حياتها في علاقة واحدة. بينما على العكس لا تملك الكثير من الفتيات هذه الرفاهية، بل ينظر إليهن على أنهن ربما يخفين شيئاً يخشين أن ينكشف بالزواج، كمفهوم المجتمع المقدس عن العذرية أو أنها تحب شخص آخر وتنتظره، فحتى سياقات الحب العذري مرفوضة في كثير من العائلات.
يرى المجتمع في تعدّد علاقات الرجل دليل على جاذبية طاغية وانحلال أخلاقي بالطبع، ولكنه لا يقابل بالوصم، بل بدعوات بالهداية فقط وأن يوماً ما ستعلمه الأيام معنى الاستقرار، بينما لو خرجت شائعة لم يتأكد أحد من صحتها عن فتاة أنها تفعل نفس الفعل، يقابلها المجتمع بسخط ووصم وعنف قد يصل إلى القتل في أحد درجاته.
أحاول تخيل تجربة العيش كامرأة؛ ولكن أفشل، أو بمعنى أدق، أعجز. يواجهن ما أواجه، وفوق ذلك المشاكل الخاصة بهن فقط، من تحرّش وتحيز جنسي واضح، وعدم مساواة في كل ركن من أركان الحياة
حتى إذا تأملت انعكاسات هذا الاختلاف في مسائل أخرى؛ ستجد الفارق والصعوبات واضحة، إذا كان الشاب ملحداً يستطيع بسهولة إخفاء ذلك، وتمضي حياته بشكل أقرب للطبيعي وبدون أي مشكلات، بينما لو كانت الفتاة محجبة أو حتى مسلمة ولكن قرّرت أن تتوقف عن ارتداء الحجاب، فهنا تواجه مشكلة من الصعب إخفائها، فهي أمام ثلاثة خيارات، إما الصدام مع عائلتها والذي ربما يخرج عنه نتائج كارثية، أو أن تعيش بحياة مزدوجة وما يحتم عليه ذلك من شعور بالخضوع والضعف، أو ترضخ وتحتفظ بهوية لا تمثلها وما يؤديه ذلك لشعورها بالإذلال والمهانة لسلبها أبسط حقوقها.
هل حقاً نحن الأقوى؟
أواجه يومياً شعور بأني مستنزف، سواء من محاولات العمل، أو البحث عنه، وصعوبات الحياة اليومية، وموجات الاكتئاب والشعور بالوحدة اللذين لا يفارقاني، في نهاية كل يوم أشعر أني لن أقوى على بداية آخر، وأفكّر: ماذا لو كنت أواجه ما هو أكثر؟ كيف سأتحمّل وأواصل؟
أحاول تخيل تجربة العيش كامرأة؛ ولكن أفشل، أو بمعنى أدق، أعجز. يواجهن ما أواجه، وفوق ذلك المشاكل الخاصة بهن فقط، من تحرّش وعنف جنسي واضح ممارس عليهن، وعدم مساواة في كل ركن من أركان الحياة، خطاب يحرض عليهن ويؤدي لمنعهن من ممارسة أبسط الحقوق، كالحرية في الملبس، أو انعدام أمان فيسلبهن حق المشي في الطرقات ليلاً، أو حتى نهاراً، ورغم ذلك يواصلن يومهن، بالطبع كل ذلك يستنزفهن لأقصى درجة، لكني مستنزف مثلهن، بدون أن أمر بكل هذا الهول.
انعكست تلك الرؤية على قصتي وعلى قصص أخرى لم تنجح بدورها، وعلى سيناريوهات لأفلام لم أكتبها، ولكن تخيم قصصها في رأسي. كانت الفتاة هي طوق النجاة فيهم جميعاً، هي من تساعد الرجل وتنتشله لا العكس، هو من يشعر بالضعف ويستمد قوته منها، يكملان كلاها الآخر في النهاية، ولكن على عكس المثل الشائع: "خلف كل رجل عظيم امرأة" بل هو أمام كل رجل عظيم، امرأة أعظم تمد يدها له فتسحبه معها للأمام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ 22 ساعةتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ يومينلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 5 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه