تُعدّ الترجمة واحدةً من أهم الوسائل والأدوات المهمة للتعريف بالشعوب والأقوام، والتقريب بينها، والتعريف بمآسيها وحضاراتها على حدٍ سواء. من مجالات الترجمة في منطقتنا هي التي دارت بين العربية والكردية باعتبارهما من أهم لغات الشعوب التي سكنت هذه المنطقة من قديم الزمان وتجاورت.
وقد شكّلت الترجمةُ بين العربية والكردية مدماكاً قوياً في تعريفِ حاضرنا بماضي هذه البلاد، سواءً عبر نقل ما كتبه الشعراء والأدباء الكرد سابقاً، أمثال أحمدي خاني، ملاي جزيري، جكرخوين -وإن كان خجولاً وضعيفاً- أو نقل أدبيات وأفكار وممارسات الثورات التي قام بها الكرد سابقاً في مختلف مناطق تواجدهم، مثل ثورة نوري إحسان باشا، الشيخ سعيد بيران، وثورات البارزانيين، ووصية القاضي محمد رئيس جمهورية مهاباد قُبيل إعدامه، وغيرها الكثير.
لكن المُلاحَظ أن حركة الترجمة من الكردية إلى العربية خفّت كثيراً خلال السنوات الأخيرة. وبمقارنة حجم التوغل التقني والعولمة، وزيادة هوامش ومساحات حرية التدوين والكتابة، وتوسيع دائرة ونطاق المتمكنين من اللغة الكردية، كتابةً ولغةً سليمةً ورسميةً، فإن الترجمات تكاد تكون شبه معدومة، خاصةً في مجال الأدب والفن والسياسة. وفي المقابل أيضاً، فإن حركة الترجمة إلى اللغة الكردية، هي الأخرى إن لم تكن معدومةً، فهي لا تستحق الذكر، خاصةً في ميادين الأدب والسياسة والفكر العالمي، بما فيها الترجمة عن العربية.
بمقارنة حجم التوغل التقني والعولمة، وزيادة هوامش ومساحات حرية التدوين والكتابة، وتوسيع دائرة ونطاق المتمكنين من اللغة الكردية، كتابةً ولغةً سليمةً ورسميةً، فإن الترجمات تكاد تكون شبه معدومة
وإذا كانت اللغة وسيلةً للتواصل والتعرف على الآخر، نتاجاً وحضارةً وتراثاً وتاريخاً، فإن أحد أسباب إجهاض مساعي العيش المشترك ووحدة الحال، ضمن البلاد المركبة، معضلة عزوف الآخر عن ترجمة نتاجات شركائه في بلادٍ واحدة، والأكثر استجراراً للدهشة والحيرة أن سنوات الأزمة والحرب السوريتين، لم تخلق ذلك الحافز والشغف، لنقلِ كل طرف نتاجات الطرف الآخر إلى لغته، ومنحها للجيل الجديد، على أمل أن يكون أكيس حالاً من سابقه.
يُلقي موقع رصيف22، الضوء على واحدة من أبرز القضايا الإشكالية التي تخصّ مكونات سوريا، والتي يرى بعض المراقبين أن حركة الترجمة يُمكنها أن تلمّ شمل ما شتّتته الحرب والسياسية.
ترجمة تحبو وأدلجة تصدّ
في حديثه إلى رصيف22، يرى الأكاديمي والمتخصص في النقد الدكتور فريد سعدون، أن "رحلة الترجمة بين الكردية والعربية، لا تزال في خطواتها الأولى حالياً. فسابقاً كان من الصعب جداً أن يتناول كاتبٌ ما، الأدبَ أو التاريخ الكرديين، وكل ما يمتّ إلى الثقافة والفكر واللغة الكردية بالترجمة ضمن سوريا، بسبب القيود المفروضة على اللغة الكردية".
ويورد سعدون مثالاً على أول ترجمة من الكردية إلى العربية، والتي يصفها "بغياب الأمانة، حيث ترجم الراحل الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، ملحمة ‘مم وزين’ الشعرية للكاتب والشاعر أحمدي خاني، من الكردية إلى العربية، على شاكلة قصة، وليس ملحمة شعرية، وكانت أول ترجمة من اللغة الكردية، بهذا الحجم، برغم أن الراحل البوطي لم يكن أميناً 100% في الترجمة، حيث اشتغل على تحويل الملحمة الشعرية إلى قصة، وهذا تصرّف شخصي. بالإضافة إلى وجود بعض الترجمات التي لا يمكن القول إنها ترجمة بالمفهوم المتعارف".
والواضح أن للترجمة أدوراً مهمةً للتعريف بالآخر، إذ عبرها تم التعرف على سبيل المثال على العالم الغربي، وروسيا على وجه الخصوص، عبر ترجمة أدبه وشعره، ويتم التعرف على حيوات مجتمعاته. كما يعتقد آخرون أن حركتهم للترجمة تختلف عن واقع الكرد والعرب المتفقين في الدين، والمختلفين في القومية والهويّة السياسية.
يقدّم الروائي والكاتب الأشوري السوري ملكون ملكون، من مملكة السويد، وعبر وسائط التواصل الاجتماعي، تقييمه لحركة الترجمة بين مختلف اللغات في سوريا قائلاً لرصيف22 إن الترجمة من السريانية لها أهمية خاصة "للحفاظ على التراث المسيحي المشرقي، بينما الترجمة من الكردية تعزز التفاهم الثقافي بين العرب والأكراد. برغم ذلك توجد الكثير من التحديات التي تعيق عملية الترجمة، خاصةً قلة الدعم المؤسساتي، حيث التركيز منصبّ على اللغات الأكثر انتشاراً، وتالياً غياب ما تحتاجه حركة الترجمة من دعم وتطوير برامج تدريبية مخصصة لرفع مستوى المترجمين، وتشجيع الاهتمام بها كجزء من الحفاظ على التنوع الثقافي".
سنوات الحرب نشّطت الترجمة لكن دون استقرار
ثمة شروط لا بدّ منها لترجمة النتاج الأدبي والثقافي والفكري لأي شعب من الشعوب، أولها أن يكون ذلك في ظل الدولة الوطنية، وفي ظلّ خطط سنوية رسمية للحكومات لترجمة نتاج القوميات والأقليات، وتشجيع عملية الترجمة من لغاتهم وإليها من قبل ذوي الكفايات في هذا المجال، وهو ما كان غائباً عن الكرد طوال العقود الماضية؛ فالحكومات المختلفة منعت اللغة الكردية في سوريا، بل حاصرتها وعاقبت مستعمليها.
لكن ومنذ عام 2011 شهدت المنطقة الكردية في سوريا، بعض المحاولات الخاصة للترجمة، لكنها لم تستمرّ، لأسباب مختلفة، أعادها الناشطون الكرد إلى غياب أو قلة التمويل المادي، وعزوف الناس عن القراءة. ووفقاً لسعدون، في السنوات الأخيرة من الأزمة السورية "نشطت الحركة الثقافية الكردية، ومن ضمنها الترجمة، لكنها لا تزال في مستوياتها الدنيا، برغم وجود مكتب للترجمة عند الإدارة الذاتية لكنه دون المستوى المطلوب، ومن المفترض بدء الترجمات من العربية إلى الكردية وبالعكس أيضاً، كي يطّلع القارئ العربي على النتاج والثقافة والفكر الكردي؛ فمثلاً: تفتقد المكتبة العربية ترجمات لدواوين كبار الشعراء الكرد، مع وجود ترجمات لمختارات شعرية لبعض أشعار جكرخوين، وشيركو بيكس إلى اللّغة العربية، وهي غير كافية أبداً".
ما يرغب فريد سعدون في التأكيد عليه، يتفق معه ملكون ملكون، إذ يتفقان على أن الترجمة كان لها أن تمتلك أدوراً تاريخيةً في عملية التقارب والتلاحم الشعبيين: "كان من المفترض أن تلعب أدواراً تاريخيةً مهمةً، لكنها لم تؤدِّها بشكل كامل لقلة الجهود الموجهة نحو هذه اللغات، ما أدى إلى ضياع العديد من الأعمال الفكرية والفلسفية المهمة، وتالياً فقدت دورها في تعزيز التفاهم بين الثقافات وإزالة الكثير من الالتباس في العلاقات بين هذه الشعوب، كما أن عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، وكذلك السياسات القومجية التي تجاهلت أو قيّدت دراسة لغات من اصطلحوا على تسميتهم بالأقليات، أدّت إلى إهمال هذه اللغات في جهود الترجمة"، مضيفاً حول تأثيرات الإلغاء والإقصاء على اللغات: "جاءت فترات الانغلاق الثقافي والتراجع الفكري في بعض المناطق لتؤثر سلباً على الانفتاح على ثقافات أخرى، وتالياً على حركة الترجمة. فكانت الفجوة المعرفية والثقافية عميقةً، وكان من الممكن تجنّبها لو حظيت هذه اللغات بمزيد من الاهتمام والدعم"، وفقاً لتعبيره.
وفي ما يتعلق بأسباب فشل ترجمة النتاج الكردي إلى لغة عالمية، يرى منير خلف، وهو عضو في اتحاب الكتّاب العرب، في حديثه إلى رصيف22، أن السبب الأساسي للضعفِ في حركة الترجمة إنما يعود "لغياب الاعتراف باللغة والهوية الكرديتين في دساتير أغلب الدول التي تمّ تقسيم أرض كردستان في ما بينها، وتبعية الكرد للأنظمة الحاكمة لتلك البلاد. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأمر منوط بالأديب أو المترجم الذي يجب أن يكون بارعاً إلى درجة عميقة في اللغتين الكردية والعربية، حتى يكون قادراً على نقل المعنى بكل إخلاص من لغة إلى أخرى، فليس المهم أن ينقل المترجم المفردة من لغة إلى غيرها كمن ينقل أصيص الورد من بقعة أرض إلى شرفة منزل، وإنما أن يكون مُلِمّاً بوسائل معرفية تجعله ينقل عبق تلك الأزاهير ويوصل نفحاتها الوجدانية من الألفاظ المترجمة ويحييها من جديد بكل طاقاتها المعرفية والجمالية والإيقاعية في لغة أخرى".
ويضيف خلف، أنه لو تم تحقيق ولو جزء مما ساقه "لبلغَ ضوءُ ترجمة الأدب الكردي العالمية، وحظي بدراسات نقديّة وتحليلية، واحتفاء جامعات العالم المختصة بالعلوم الإنسانية به؛ لأن العالمية لا تبدأ إلا من خلال البيئة المحلية المتعلّقة بالجذور الحقيقيّة لكلّ أدب".
الترجمة جسر للهويّة الجامعة الضائعة
ويعود منير خلف ليؤكد لرصيف22 حول أسباب ضعف الترجمة "أن معظمها، إن لم نقلْ كلّها، متعلّقة بالظروف السياسية التي تتيح للّغة الكردية وأهلها المحكومين بجذوة حبهم للغتهم الأم، أن يكون الأفق أمامهم مبشّراً بالاعتراف بهم كمكوّن أساسي في المجتمع الذي يعيشون فيه، لا أن يكونوا على هامشه".
ويقارن خلف بين الترجمة الكردية في سوريا وكردستان العراق: "شأن الترجمة من الكردية إلى العربية أو من العربية إلى الكردية في سوريا، غير شأنها في إقليم كردستان الذي يحظى باعتراف إقليمي أو شبه دولي، إذ نجد إقبالاً كبيراً وواضحاً في كردستان العراق على الأدب المترجم من الكردية وإليها، برغم حداثة الأمر إذا ما قيس بالحرمان المفروض على الأدب الكردي وإقصائه فترةً من الزمن لا بأس بها. ولو كان الأمر على ما كنّا نشتهي لوجدنا الكثير من الكتاب العرب الذين كانوا سيتبارزون في السبق لإحراز الأولوية، وقطف ثمار الصدارة وهم يخوضون غمار ترجمة الأدب الكردي إلى العربية، بكل ما أوتوا من حرفية عالية وأدوات فنية تجعل من مختاراتهم الكردية تحفاً أدبيةً يتباهون بها في المحافل الأدبية والمهرجانات الشعرية بشكل خاص".
ثمة شروط لا بدّ منها لترجمة النتاج الأدبي والثقافي والفكري لأي شعب من الشعوب، أولها أن يكون ذلك في ظل الدولة الوطنية، وفي ظلّ خطط سنوية رسمية للحكومات لترجمة نتاج القوميات والأقليات، وتشجيع عملية الترجمة من لغاتهم وإليها
أما فريد سعدون، فيعتقد أن تعريف الكرد بعدالة قضيتهم "لا ينفصل عن حركة الترجمة وتعريف الآخر بحجم وعمق الفكر والتراث واللغة الكردية"، لافتاً إلى أن الحل الفكري والثقافي الأفضل "هو ترجمة دواوين كبار الشعراء الكرد ونتاجات الأدب والثقافة الكردية فكرياً، أدبياً، وسياسياً، إلى العربية لإطلاع القارئ العربي عليها، لتعزيز وترسيخ العلاقات الإنسانية بين الطرفين".
ويضيف أن "الجمهور العربي غير مطّلع على التاريخ والثقافة الكرديين، وبرغم معرفة بعض الشرائح به، لكن بشكل عام، الغالبية على مستوى الوطن العربي غير مطلعة على الثقافة الكردية الغائبة في تلك المناطق، ولا تمتلك شيئاً حول المعرفة والثقافة والتاريخ الكردي، وعلى الإدارة الذاتية تنشيطُ الترجمات. وبرغم الحركة النشطة للترجمة في إقليم كردستان، إلا أنها تحتاج إلى التوزيع الأوسع".
أما ملكون ملكون، فيرى أن "الآخر، أي الكتّاب العرب السوريين، كانوا مقصرين جداً في تعاطيهم مع قضايا الشعوب غير العربية مثل الكرد والأشوريين، في نتاجاتهم الأدبية. وهذا القصور يعود لعوامل عدة: كان هناك سياق سياسي أوحد في سوريا له هيمنة على توجهات هؤلاء الكتاب، فغابت شرائح أساسية بتاريخها وهمومها وحقوقها عن الأدب، لكن ربما علينا القول أيضاً إن الكثير من الكتاب العرب السوريين يفتقدون المعرفة الحقيقية بثقافات وتاريخ السريان والأشوريين والكرد، لذا تأتي المعالجة الأدبية سطحيةً أو تأدية واجب، هرباً من التبعات السياسية للتطرق إلى قضايا محفوفة بالمخاطر، فيغيب الإيمان بالتنوع الثقافي وتصبح القضايا الوطنية محصورةً في لون معيّن", ويختم ملكون حديثه بالدعوة إلى "تعزيز الحوار الثقافي والأدبي بين مختلف المكونات السورية، لإثراء الأدب السوري وإبراز التنوع الذي يشكل جزءاً أساسياً من الهوية السورية".
الأدلجة منعت المثقف العربي من التقرّب من الكرد
وفقاً لفريد سعدون، فإن "التصوّر العربي للكرد، كانا تصوّراً مغلوطاً بسبب الضخ السياسي والأيديولوجي من جانب السلطات الحاكمة، التي شوّهت صورة الكردي في أذهان العربي، وخلقت ذلك التشويه عن الكرد، فتعمقت سلوكيات رفض الكردي واتُّخذت مواقف عدائية ضده. ويجب تصحيح الصورة في ذهن الجمهور والقارئ العربي، والترجمة خير وسيلة لتعريف الآخر بعدالة القضية الكردية ومظلوميتها، وبأن الكرد أيضاً لهم ثقافة وعادات وتاريخ بعيداً عن الأدلجة والتشويه".
ويختم سعدون حديثه إلى رصيف22، قائلاً: "يفترض وجود كليات لتدريس اللغة الكردية على مستوى الدول العربية، مثلها مثل باقي اللغات العبرية والأجنبية التي تدرس في تلك الجامعات، لما لِلكرُدِ من صلةٍ عميقة تاريخياً بالجانبين العربي والإسلامي، فتدريس اللغة الكردية في تلك الدول، وحركة الترجمة، سيلعبان أدواراً متقدمةً للتقارب والعيش المشترك".
الواضح أن الأدب واللغة الكرديين، لا يزالان يعيشان في عوالم محجوبةً عن الآخر، سواءً العرب أو الغرب، وهو ما تتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى، مختلف الحكومات التي حكمت اللغة الكردية كمن يحكم سجيناً خطيراً على حيوات الناس. وبالدرجة الثانية، فإن الكرد المغتربين لم يُقدّموا ما هو مطلوب منهم، ما خلا بعض الأسماء فحسب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي