شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
تحديات امرأة بحرينية… تحكيها ليلى المطوّع في

تحديات امرأة بحرينية… تحكيها ليلى المطوّع في "المنسيون بين ماءَيْنِ"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

تنسج ليلى المطوّع في روايتها "المنسيون بين ماءَيْنِ"، عالماً يتأرجح بين الواقعي والسحري، حيث الماء رمز مزدوج للحياة والموت. تعكس الرواية بعمق قسوة الطبيعة وتحديات البشر، لتروي قصصَ شخصيات عالقة بين شاطئين: شاطئ الحياة الذي يجلب العواصف، وشاطئ الموت الذي يغري بالاستسلام.

الدرب الشائك

رسمت المطوّع، سليمةَ، بطلة الحكاية، لتكون أكثر من مجرد شخصية عابرة، بحيث جعلتها مرآةً تعكس قسوة القدر والذكورة المهيمنة في مجتمعٍ يقدّس الطقوس والدماء. فمن هروبها عبر مياه البحر، وهي تحاول النجاة بجنينها، إلى مواجهتها نظاماً اجتماعياً قاسياً يفرض الموت باسم التقاليد، نجد أن سليمة تجسد صراع المرأة التي تُصارع أمواج القهر، متسلحةً بالأمل والصبر.

تعكس الرواية بعمقٍ قسوةَ الطبيعة وتحديات البشر، لتروي قصص شخصيات عالقة بين شاطئين: شاطئ الحياة الذي يجلب العواصف، وشاطئ الموت الذي يغري بالاستسلام

أمّا صفوان، الرجل الذي يمثّل الذكورة التقليدية، فنجده يقف بين الحياة والموت، تماماً كما تقف ابنته بين التضحية والنجاة. فمن خلال شخصيته، يتجلى نقد الكاتبة للمجتمع الذكوري الذي يفرض أحكامه باسم الطقوس الدينية. قراره بالتضحية بابنته ليحقق البقاء يكشف عن مجتمع لا يعرف الرحمة، حيث يُقدَّم الأطفال كقرابين لتلبية حاجات الأرض الجافة، ويعكس أنظمةً اجتماعيةً تلتهم البراءة من أجل الاستمرار.

ومن رحم هذا النوع من الأنظمة، تولد شخصية الخرنق، المرأة التي تجسد مأساةً أنثويةً معقدةً، فهي ليست عدوّة سليمة فحسب، بل أيضاً تمثّل حالةً من الصراع النفسي الذي تعيشه النساء في مجتمع ذكوري قاسٍ، لم يجعل منها مجرد شخصية غيورة فحسب، بل تمادى في ساديته لتكون هي الأخرى ضحيةً لتلك الأعراف الاجتماعية التي تدفع النساء للتنافس والعداء في ما بينهنّ. هذا التوتر يعكس بعمق أكبر، مأساةَ المرأة المغلوبة على أمرها في مجتمع يفرض عليها أشكالاً متعددةً من القهر.

بين التقاليد والتمرد… البحر كرمزٍ للحياة والموت

اعتمدت ليلى المطوّع في روايتها، لغةً تجاوزت الوصف لتغدو سحراً شعرياً يُضفي على الأحداث بعداً أسطورياً. الأمواج التي تتراقص في الرواية، لا تتحرك فقط بفعل الرياح، بل تعكس مشاعر الشخصيات وتتأثر بعواطفها. لقد جاء النص مليئاً بالصور الرمزية التي تجعل من البحر كائناً حيّاً، يجسد الهدوء والهيجان، الحياة والموت، والأمل والضياع.

سحر اللغة وشاعريتها سمحا لصاحبة العمل بتشريح شخصياتها تشريحاً نفسياً منحها عمقاً واضحاً، على غرار شخصية سليمة، التي سمحت لنا باستكشاف رمزية ثنائية للبحر تجمع بين الأمان المتوهَّم والخطر الحقيقي، فصراعها مع الماء، سواء كان حليفاً أو عدوّاً، يعكس تأرجحها النفسي بين الأمل واليأس، بين النجاة والضياع. وهذه الأبعاد النفسية تجعل من شخصية سليمة أكثر تعقيداً وتشابكاً مما أوهمنا به السرد في ظاهره.

طقوس التضحية: قصة مجتمع لا يرحم

من الجوانب المهمة التي تظهر بوضوح في الرواية، دور الطبيعة كفاعل رئيسي، وليس كمجرد خلفية للأحداث. البحر، بصخوره وأمواجه المتقلبة، يلعب دوراً في تشكيل مصائر الشخصيات. الطبيعة هنا ليست مجرد بيئة، بل قوة حيّة تتفاعل مع مشاعر الشخصيات وتؤثر في مساراتها. العلاقة بين الإنسان والطبيعة في الرواية تعكس فلسفةً عميقةً حول التفاعل بين البشر والعناصر الطبيعية التي قد تبدو هادئةً، ولكنها تحمل في طياتها قسوةً لا ترحم.

شخصية صفوان تحتاج إلى تحليل أعمق، حيث لا يمثّل مجرد رمز للذكورة التقليدية، بل يجسد صراعاً داخلياً عميقاً. صفوان يعاني من صراع بين حبه لابنته، وخضوعه للتقاليد القاسية التي تفرض التضحية بها. تضحيته ليست نتاجاً للشرّ، بل نتيجة لانعدام الخيارات في مجتمع لا يسمح بالضعف. هذا الصراع يضفي بعداً إنسانياً على شخصية صفوان، حيث يظهر التناقض الذي يعيشه الرجل في مجتمع يفرض عليه قرارات قاسيةً للحفاظ على البقاء.

غلاف رواية "المنسيون بين ماءَيْنِ"

صفوان، الذي يمثل الوجه الذكوري التقليدي في الرواية، ليس شريراً بطبيعته، بل هو نتاج مجتمع يعيش على التضحيات القاسية لضمان البقاء. تضحيته بابنته تعكس الصراع العميق الذي يعيشه بين حبّه لها وخضوعه للأعراف. يظهر تردده في المشهد المؤلم الذي يذبح فيه ابنته، حيث يُجسد نصُّ الرواية هذا الصراع الداخلي بوضوح: "يرفع صفوان رأسه، لا رحمة نزلت على الجزيرة... يسمع أنيناً، يدرك أنه صوتها؛ يعرفه في كلّ حالاته". هذه اللحظة تعكس هشاشة الإنسان أمام التقاليد القاسية التي تحكمه، برغم معرفته بوحشيتها.

الشخصيات الثانوية في الرواية، مثل أهل الجزيرة الذين يخضعون للأعراف والتقاليد، تشكل خلفيةً مهمةً للصراع الرئيسي. يظهر المجتمع ككل وكأنه كائن جماعي، يخضع للتقاليد والطقوس التي تفرض قرارات قاسيةً على الأفراد. شخصيات مثل الكاهنات أو الخدم الذين يديرون الطقوس تلعب دوراً في توسيع فهمنا للهيكل الاجتماعي الذي يخنق الأفراد ويدفعهم لاتخاذ قرارات مدمرة.

أمّا شخصية الخرنق فتمثّل الوجه الآخر للمرأة في الرواية. فبدلاً من أن تكون حليفةً لسليمة، تجسّد العداء الأنثوي الذي ينشأ في ظل مجتمعٍ يفرض على النساء التنافس. الخرنق، التي تطارد سليمة، تعكس عمق القسوة التي يمكن أن تتحول إليها المرأة عندما تواجه مجتمعاً ذكورياً. هذا الصراع لا ينحصر فقط في الغيرة بين النساء، بل هو تعبير عن معركة النساء أنفسهن ضد التقاليد التي تسلبهنّ حقوقهنّ، وتدفعهنّ للصراع على مكانة واعتراف داخل مجتمع يحكمه الذكور. هذا العمق يبرز كيف أن الخرنق، على الرغم من عدائها، تمثّل ضحيةً أخرى للنظام الاجتماعي القاسي.

الكاتبة ليلى المطوّع

اللغة في "المنسيون بين ماءَيْنِ"، تشكل جزءاً كبيراً من جماليتها وسحرها. المطوّع تُلبس الرواية طابعاً شعرياً، حيث الأمواج ليست مجرد عنصر بيئي، بل هي رمزية نفسية وروحية. في مشاهد البحر، تعكس الأمواج أحاسيس الشخصيات: تارةً تكون هادئةً مثل الأمل، وتارةً تكون غاضبةً مثل الصراع الداخلي. عندما تسير سليمة نحو البحر، يبدو وكأن المياه تحتضن مخاوفها وهمومها: "أدارت البحر، ووقفت. اعتدلت ببطء، تغوص في أعماق تيار لا يهدأ، وهي تتلمس القاع المجهول". هذا الوصف يُجسّد كيف تتحول الطبيعة إلى مرآة تعكس القلق والألم الذي تعيشه الشخصيات.

الأسلوب السردي يُظهر تلاعباً رائعاً بالزمن، حيث تمتزج اللحظات الماضية مع الحاضر، ما يُشعر القارئ بجسامة الأحداث وتأثيرها على الذاكرة الفردية والجماعية. هذا التلاعب يُبرز كيف أن الأفعال والقرارات تحمل أعباء الماضي، وكيف أن تركة الآباء تؤثر بشكل عميق على الأبناء. تفاصيل الحياة اليومية، مثل زراعة النخيل أو عمليات الصيد، تتداخل مع الحكايات والأساطير التي تحملها الأجيال، ما يعكس حياة مجتمع يعاني من القحط والتضحية.

تُعَدُّ "المنسيون بين ماءَيْنِ" نصاً سردياً عميقاً يلتقط جوهر الصراع الإنساني مع قسوة الحياة. تجتمع رمزية البحر واليابسة لتجسد المعاناة والأمل، ما يجعلنا نشعر بعمقِ تجاربِ الشخصيات ونشعر بالتواصل مع آلامهم وآمالهم

تعكس الرواية المشاعر الإنسانية بشكل عميق، فكل شخصية تحمل آلامها وآمالها، ما يجعلها قريبةً من القارئ. في مشهد مؤثر، تصف الرواية معاناة سليمة حين تراقب الآخرين يمضون في حياتهم بينما تجد نفسها عالقةً في صراعها: "بينما كانت الطيور تغرد في الأفق، كانت تفكر في كيف يمكن للروح أن تعيش وسط هذا الخراب". هنا، يُظهر النص إحساس العزلة والحنين إلى الحياة الطبيعية، ما يضفي لمسةً إنسانيةً قويةً على العمل.

في النهاية، الرواية لا تكتفي بطرح الصراعات الشخصية والاجتماعية، بل تحمل في طياتها صراعاً وجودياً حول المصير البشري، فالشخصيات تجد نفسها عالقةً بين الحياة والموت، ولا تملك دائماً القدرة على تحديد مصيرها، ما يفتح الباب أمام تساؤلات فلسفية حول الغاية من هذه المعاناة المستمرة. الرواية تتجاوز السرد التقليدي لتطرح تساؤلات عميقةً حول الإنسان ومكانته في هذا الكون المليء بالعنف والفوضى.

تُعَدُّ "المنسيون بين ماءَيْنِ" نصاً سردياً عميقاً يلتقط جوهر الصراع الإنساني مع قسوة الحياة. تجتمع رمزية البحر واليابسة لتجسد المعاناة والأمل، ما يجعل القارئ يشعر بعمق تجارب الشخصيات ويشعر بالتواصل مع آلامهم وآمالهم. الرواية لا تعرض فقط الأحداث، بل تُقدّم رؤيةً عميقةً للمجتمع، لتفتح الأبواب أمام تساؤلات حول الهوية والقدرة على النجاة. تبقى "المنسيون بين ماءَيْنِ" روايةً تثير التأمل وتدعو إلى التفكير في قضايا معاصرة حول المعاناة والأمل، ما يجعلها تلامس القلوب وتبقى راسخةً في الذهن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image