شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"تبقبق على صفيح ساخن" ... قبائل الطوارق والعرب في رواية "منّا"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 8 مايو 202302:10 م

ليس من السهل الخوض في الرواية التاريخية، فهي وإن كانت تعتمد المعلومة الجاهزة إلا أنها تضع الكاتب في مهمة اجتراح التخييل للعناية بتلك التفاصيل المنسية، والتي تتجاوزها كتب التاريخ، مع الالتزام بالحقائق وإعادة تشكيل السرد على ضوء الخط الزمني، بالإضافة إلى صعوبة تناول القضايا الشائكة والمعاصرة، خاصةً في الجغرافيا المتنازع عليها وإعادة كتابة تاريخها بعين مختلفة.

في روايته "منّا"، يتناول الكاتب الجزائري الصدّيق حاج أحمد الزيواني، تاريخ قبائل الطوارق والعرب ومعاناتهم في الصحراء الكبرى، تلك التي سُمّيت بالأزواد في إقليم شمال مالي، وذلك منذ الاستعمار الأوروبي للمنطقة وتقسيمه دولها، وحتى وقت قريب إذ بقيت المنطقة كما يقول الصدّيق "تبقبق على صفيح ساخن".

يتّخذ الزيواني من سنوات القحط التي بدأت عام 1973، نقطة انطلاق، في سردٍ روائي لا يقع تحت وطأة التسلسل الزمني، إذ يلعب على محور زمن الحدث تاركاً للقارئ مهمة الربط، مستخدماً أكثر من راوٍ وأصواتاً عدة له، من الراوي العليم المطّلع على التفاصيل، إلى ألسنة شخصيات الرواية، وما يميز هذا الأسلوب من تنوّع، متنقلاً بين التهكم واللغة الشاعرية.

عام "يا لطيف"

يذيّل الكاتب عنوان روايته اللافت للانتباه، بقيامة شتات الصحراء، ثم "إلى شتات صحراء شمال مالي في ذكرى وجيعة الجفاف"، ليضع القارئ ومنذ البداية في البيئة العامة للرواية، موضحاً ما قد يلتبس من العنوان كعتبة أولى. فـ"منّا" كلمة متداولة في اللغة المحلية لقبائل الطوارق وتُستخدم للإشارة إلى سنوات القحط والجفاف التي تطال البشر والشجر والحيوانات وتقضي على كل كائن حي.

"منّا" رواية عن الأوطان الضائعة التي طالها النسيان أو التناسي من صنّاع التاريخ: الدول الاستعمارية التي فرضت إرادتها ورؤيتها على الجغرافيا وشعوبها، كما حدث في وعد بلفور بالنسبة إلى القضية الفلسطينية

يعود بنا إلى ما يُسمّى عام "يا لطيف"، من باب وصف الشدة التي بدأت فيه، وما سبقها من دلائل ومؤشرات مناخية التمسها الكبار وتنبّأ بها الخبيرون، وقاموا بإنذار السكان بطريقة تهكمية: "يوقي... يوقي... يا قروني!"، في إشارة إلى ما سيصيب القطعان، إلا أن السكان عدّوا ذلك طارئاً ولا بد أن تعود الأرض للاخضرار، لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن.

وتبدأ النبوءات بالتحقق، ويصف حجم الكارثة "المذبحة"، التي وقعت آنذاك حيث ماتت المواشي، وشكاء اللبن تكلست جلودها، ولم ينفع البشر مضغها لإسكات الجوع الذي دفعهم إلى ما لم يتخيلوه يوماً، وهو أكل المواشي المتهالكة، وصولاً إلى حرق الجلود وطحنها ثم اتخاذها طبيخاً، أو أكل مرّ النبات وقد وصل الأمر بالبعض إلى أكل روث الحيوانات.

الخروج الجنائزي "تغريبة الطوارق"

لم يكن تمهّل الجميع في الرحيل خوفاً من المصير، بل هو التمسك بالموطن، فمن الصعب على ساكن الصحراء مغادرتها لولا أن الأمر جلل، إذ يقول السارد الكاتب إن هذه الجمال لم تكن تحمل متاعهم على سنامها، وإنما وطنهم المتأرجح عليه، مسترسلاً في المجاز والوصف المشبع بالأسى.

تبدأ القبائل حركة نزوحها إلى أطراف الصحراء في ما يسمّيه الكاتب بالخروج الجنائزي، متجهين إلى النقاط التي تمدّها الدول المجاورة بالمعونات والغوث، إذ إن التقسيم الإداري الذي قامت به فرنسا إبان احتلالها للمنطقة، قسّم القبائل حسب الحدود التي رسمتها بين الدول، ولم يكن هذا النزوح إلا مؤشراً على ما لحق بالقبائل من ظلم وإهمال من قبل الدول التي ينتمون إليها إدارياً، حسب ذلك التقسيم، خصوصاً الأزواد في جمهورية مالي التي لم تقدّم لهم حتى الماء، ولعله عقاب متواصل على ثورتهم الأزوادية التي قامت عام 1963، مطالبةً بوطن مستقل للأزواد، فقامت باضطهادهم وقتالهم وتسميم آبارهم وإتلاف مواشيهم، لندرك أن المعاناة كانت دوماً مزدوجةً، ولتكمل "منّا" ما فعلته الدول الاستعمارية من ظلم هذه القبائل بحرمانها وطنها الخاص المستقل.

كانت أكبر الهجرات باتجاه الجزائر التي لم تبخل عليهم بتقديم الطعام والسكن والمدارس، على أن لا يستخدموا أراضيها مركزاً للعمل السياسي والعسكري ضد جمهورية مالي. الجزائر سلّمت قادة ثورة 1963، إلى حكومة مالي حين التجأوا إليها آنذاك، بينما اتجهت بعض الهجرات إلى موريتانيا وبوركينا فاسو والنيجر، والبعض الآخر اتجه إلى ليبيا وآخرون إلى الحجاز. وبرغم ذلك يموت الكثيرون إذ يخبرنا عن الشيخ الذي أنهكته صلاة الجنازة المتواصلة طوال اليوم في إحدى النقاط.

الديكتاتوريات تتاجر بقضايا الشعوب 

يلتقط القذافي دخولهم إلى ليبيا بغرض العمل ليجمعهم حول فكرة إعادة قيام الوطن الأزوادي. وقد أحدث لذلك معسكرين لتدريب المتطوعين على فنون القتال والعمليات العسكرية. وسنرى أن ذلك لم يكن حبّاً بالأزواد، وإنما رغبةً في جمعهم حوله لامتلاك قوة تفرض وجودها إقليمياً ودولياً، ولن يتردد في زجّهم واستغلالهم في حروبه التي تخدم رؤيته وسياسته الخاصة، فيرسلهم إلى جنوب لبنان للمشاركة في الحرب ضد إسرائيل، ثم يدفعهم إلى حربه مع تشاد، في مقايضة بوعد إقامة وطن لهم في شمال مالي، ما سيتحول إلى حلم يسعون إليه ولا يصلون.

يقول الكاتب في الصفحة 93: "من رغب بالعيش ورضي بالقسمة آثر البقاء في الجزائر أما من يتطلع لغدٍ جديد ويمنّي نفسه بالوطن فقد دوّخته مهلوسات القذافي حتى دخل إلى المعسكرات تلك".

في تلك المعسكرات، سنجد مجنّدين من شتى بقاع العالم؛ إنهم أصحاب الحركات الانفصالية التي تبنّاها القذافي ودعمها واحتضن مقاتليها ليكونوا ورقته الرابحة متى شاء للضغط على بلدانهم. وهناك انطلقت "الجبهة الشعبية لتحرير الصحراء العربية الوسطى"، وهو الاسم الذي سيشكل معضلةً في ما بعد، آن تذهب فرحة التأسيس. انتشر الخبر كالنار في الهشيم بين القبائل في ليبيا وشمال النيجر التي كانت ناقمةً أيضاً على تهميشهم واستخراج اليورانيوم من أرضهم من دون أن ينالوا شيئاً سوى الهلاك لهم ولمواشيهم، ومن الجزائر قَدِم الذين لا طاقة لهم على القيام بالأعمال الخدمية للاندماج في المجتمع الجزائري.

حين عبروا "البركت-سوق النخاسة" كانوا قد باعوا أنفسهم للقذافي مقابل الوعد

هكذا التقطهم القذافي وقادهم إلى معسكراته تحت تأثير "مهلوساته" والحلم القديم الذي أنعشه، من دون أن يتبيّنوا الدوافع ولا الإمكانية ولا التفاصيل التي يخبرنا عنها بادي، إذ يتسلم دفة السرد في فصول تالية من الرواية كشخصية رئيسية، فهو الفتى ابن العائلة التي بدأت الرواية بهجرتها خروجاً إلى الحدود الجزائرية، يذهب للعمل في ليبيا من أجل عون أسرته والزواج بابنة خاله هكتا، التي يحب. وما أن يلتقي بدعاة القذافي ومناصريهم حتى يذهب طائعاً إلى المعسكر.

وفي تلك الرحلة إلى ليبيا عبر الجبال، بعناية المهربين، يخبرنا بادي عن توقفهم في نقطة اسمها "البركت"، وهي ليست سوى سوق إقليمية للنخاسة عبر التاريخ، كانت تلتقي فيها القوافل الشمالية التجارية بالقوافل الجنوبية للإتجار بالبشر. إنه المكان نفسه الذي سيعبر منه بادي ورفاقه إلى ليبيا، حيث اللون الأخضر يصبغ كل شيء، ثم إلى معسكرات القذافي في عبور رمزي للشباب الأزوادي للاسترقاق الذي "يتزيّى" بلباس الكفاح من أجل الوطن. الفارق هنا أنه لن يكون بالإمكان الاستزادة في الثمن، وهو المعنى اللغوي لكلمة "البركت"، فقد اشتراهم القذافي بما لا يساوم عليه، وهو وعد الوطن.

يذيّل الكاتب عنوان روايته اللافت للانتباه، بقيامة شتات الصحراء، ثم "إلى شتات صحراء شمال مالي في ذكرى وجيعة الجفاف"، ليضع القارئ ومنذ البداية في البيئة العامة للرواية.

لم يدركوا أن طريق حلمهم في قيام وطنهم الخاص عليه أن يمرّ بالتواء قضية فلسطين في معسكر أنصار، وتحت هذا الوعد أرسلهم إلى جنوب لبنان عبر دمشق، حيث يتم أسرهم هناك. يا للسخرية أن يأتي الأزواد للدفاع عن وطن الفلسطينيين، وهم الذين بلا وطن.

يحدثنا بادي، عن معسكر أنصار وقاطنيه شركاء القضية والمبادئ، وعن ابتكار طرق جديدة للحفاظ على الذات والصمود والتحمل عبر الحكايات، وعن نفق الحرية الذي نفّذه السوري عاطف الدنف، وعن رسوم الكاريكاتير، وعن حالات الاكتئاب، وعن الإصابة بالصرع وفقدان الذاكرة جراء التعذيب وعن شاش البوكار الذي منحته له أمه قبل الهجرة إلى ليبيا، وهو الشيء الوحيد من رائحة الوطن حتى أنه ورفاقه يقومون بوضع دور للتلفح به وشمّه ليبدد وحشتهم كما تفعل قيثارة "أخمنو، وهو أحد المتطوعين". ففي أنصار كانوا في مواجهة وحشتين؛ وحشة الأسر التي يعاني منها الجميع في المعتقل، والثانية وحشتهم الخاصة هم العجم بين عرب الشرق. إنهم غريبو اللغة والجهة والقضية والذين لم يدركوا أن طريق حلمهم بقيام وطنهم الخاص عليه أن يمر بالتواء قضية فلسطين، ولم يدركوا كيف حوّلتهم الأنظمة إلى مرتزقة، وهي التي تحمل لواء القضية.

يتم الإفراج عنهم بمقايضة 7 جنود إسرائيليين مقابل 47 أسيراً عربياً.

تصفية الحسابات بين صدام حسين والقذافي على أرض تشاد

بعد عودتهم من معسكر أنصار، كان الرهط الأزوادي يريد عودةً نهائيةً إلى وطن مستقل جغرافياً له عاصمة "كيدال"، وعلم يرفرف عالياً وعملة خاصة عليها صورة أحد مجاهدي ثورة 1963، وهو زيد آغ الطاهر الأفوغاسي.

قلّب الطوارق الأزواديون اسم الجبهة التي جُنّدوا تحت لوائها، فكلمة الوسطى تثير حفيظة دول الجوار وتستعديها، وكلمة العربية جاءت مع تغييب كلمة الأزواد أو الطوارق، وهذا أثار حفيظة الأزواد أنفسهم.

يقول بادي لصديقه: "وطننا شبح مخيف، كل الجيران يعافونه ولا يريدونه".

في تلك الفترة نشطت حركة ريفولي، وهي إعادة الأزواد إلى مناطقهم، وتم تجميعهم في مخيم تجريت، وبدأت حرب ليبيا وتشاد على خلفية النزاع حول إقليم أوزو الذي تنازلت عنه فرنسا لإيطاليا سابقاً. وكان على المقاتلين الأزواد الذهاب كبدلاء لمجموعات عسكرية حان وقت عودتها ودائماً مقابل الوعد بالوطن، الذي صار "سمكة أبريل"، كنايةً عما نتداوله بأكذوبة نيسان الخاصة بالقذافي.

أمام فقدان الحلول البديلة، وتحت تأثير "مهلوسات" القذافي، يسافر بادي ورفاقه إلى تشاد حيث يلتقون هناك شباباً ليبيين أُخذوا بالحيلة إلى الحرب بحجة المشاركة في حملة تشجير، ليجدوا أنفسهم مقاتلين على أرض غريبة. يخبرنا الكاتب عن تفاصيل تلك الحرب وعن صراع الديكتاتوريات وتصفية الحساب بينها في الحروب المحدثة حيث يدعم صدام حسين، فصيلاً تشادياً ضد القذافي، وذلك لأن الأخير دعم إيران في حربها على العراق.

يسأل المحقق العراقي بادي بعد أن تم أسره ورفاقه: هل تعتقد أن مشاركتكم بالحرب هنا بالوكالة ستجعل القذافي يحقق لكم وطن الأزواد كما تشتهون؟

يجيبه بادي بـ"ربما"! وتعانده اللغة لتصبح كلمة ربما نطقه الوحيد، إشارةً إلى العجز الكامل حتى أطلقوا عليه اسم ربما. ولا يستعيد قدرته على الكلام إلا بعد إطلاق سراحهم وعودتهم إلى ليبيا، لتبدأ فكرة احتجاجهم على استغلال القذافي بالنضوج، إذ أدرك الجميع الفاتورة الغالية التي يدفعونها في حروب لا تعنيهم ولا تخصهم مقابل لا شيء، لينادوا طوارق الشمال، بعد أن توارى عن ذلك الهدف عرب مالي والنيجر وطوارق النيجر، بالصحوة الكبرى، لإقامة الوطن الأزوادي متخذين من تجريت نقطة انطلاق حيث يتجمع الأزواد العائدون في حملة ريفولي مع المقاتلين القادمين من معسكرات القذافي بغية إعلان الثورة على أرضهم وتحقيق وطنهم الذي يريدون، ولكن بأيديهم.

يقول الكاتب: "دخل الأزواد بعد هذا في دوامة من الحروب المجهولة تخللتها هدنات واتفاقات سلام مع دول الجوار، كما تناسلت بينهم الجماعات الدينية والإثنية المسلحة ودخل قطّاع الطرق على الخط".

رواية تاريخية كثيفة لا يمكن تغطية أحداثها السياسية المتواصلة، استطاع الكاتب أن ينسج خيوطها المتشابكة وتوثيق تاريخ هذه الجغرافيا السياسي والاجتماعي مع الإسهاب في خصوصية الشعب الأزوادي، ساكني الصحراء المهمشين  

تتكاثف الأحداث في الجزء الأخير من الرواية، لنصل إلى نقطة فاصلة ونهاية مفتوحة حيث يبقى العمل برغم كل المعوقات في أمل جديد نلمسه في حلم بادي الذي تنتهي به الرواية، حيث يرى علم وطنه يرفرف عالياً، لكنه محمولٌ على سنام جمل.

في القائمة القصيرة للبوكر العربية

رواية تاريخية كثيفة لا يمكن تغطية أحداثها السياسية المتواصلة، استطاع الكاتب أن ينسج خيوطها المتشابكة وتوثيق تاريخ هذه الجغرافيا السياسي والاجتماعي مع الإسهاب في خصوصية الشعب الأزوادي، ساكني الصحراء المهمشين والحديث عن لغتهم وطريقة تعبيرهم وتفكيرهم وأحلامهم وظروف حياتهم الصعبة، ولعل هذا ما يُحسب للرواية، إذ وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لهذا العام. يحكم الواقع حركة الشخصيات المسلوبة القدرة تجاهه، وهذا ما حكَم الفضاء الروائي بالحدث السياسي العام.

"منّا" رواية عن الأوطان الضائعة التي طالها النسيان أو التناسي من صنّاع التاريخ: الدول الاستعمارية التي فرضت إرادتها ورؤيتها على الجغرافيا وشعوبها، كما حدث في وعد بلفور بالنسبة إلى القضية الفلسطينية. والديكتاتوريات التي تتحكم بمصير الشعوب، لكنها أيضاً عن الأمل، وعن القضايا التي لا تموت برغم كل الضحايا وكل الظروف.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard