كانت مصر حاضنة للكثير من الإمبراطوريات والحضارات، التي استضافتها مرغمة تحت وطأة القوة، أو مغرمة بشيء من قيمها الحضارية، أو كلاهما معاً، ونتيجة لموقعها الجغرافي الفريد، كانت فريسة بين المتصارعين الكبار منهم والصغار مثلها في ذلك مثل بلاد الجوار.
لكنها لا شك اختلفت وكانت لها شخصيتها الخاصة، التي كانت تمتزج بأية حضارة أخرى، لتُنتج مزيجاً فريداً، وحضارةً خاصة، فمثلما انبهر الإغريق بالحضارة القاطنة في وادي النيل حينذاك، انبهر كذلك الرومان، والعرب وغيرهم، وخلّف كلٌ منهم آثاره المادية والثقافية، وبين هؤلاء كان للفاطميين أثر جلي في نفوس المصريين وثقافتهم، وكان ذلك نتاجا ًلدعوتهم الشيعية الإسماعيلية، والصراع الذي خاضه المصريون دفاعاً عن معتقدهم السنّي في مواجهة ما اعتبروه غزواً شيعياً.
لم يكن الوضع قد استتب بعد للفاطميين، كان جوهر الصقلي يعمل بشكل متواصل، لتجهيز العاصمة الجديدة للإمبراطورية الفاطمية، وبناء قصر الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، والجامع الأزهر
الدولة الفاطمية التي انطلقت من بلاد المغرب العربي لتتخذ من مصر مركز قوتها وحكمها، وتبني القاهرة عاصمة الألف عام، خلقت نموذجاً حضارياً وثقافياً له خصوصيته.
يروي لنا كل أثر حكاية، عن أحداث مرّت من هنا، سواء كانت أحداث إنجاز ونهضة، أو صراع ودماء وكبوة، ويحمل كل أثر في القاهرة الفاطمية حكاية، ويُعد الجامع الأزهر أعرق وأبرز الآثار الفاطمية، يحمل بين أركانه وأحجاره الكثير من الأسرار التي يبثها بين حين وآخر.
بين هذه الآثار المهمة، صهريج صحن الجامع الأزهر، الذي اكتُشف للمرة الأولى بعد أكثر من 4 قرون من بناء الجامع، زمن دولة المماليك، واكتُشفت فيه ما يُشبه "المقبرة الجماعية" لأشخاص غير معروفي الهوية، وهو ما ذكره تقي الدين المقريزي، وابن تغري بردي عن اكتشاف "رمم أموات" أسفل صحن الجامع الأزهر، أثناء عملية الترميم التي قام بها الأمير تاج الدين الشوبكي، بأوامر من السلطان الأشرف برسباي. كان المصلّون والعلماء يمرون ويُصلّون فوق رمم الأموات طوال تلك القرون، دون أن يدري أحد بهم ودون أن يعرف أحد مَن هؤلاء، فكم من أبطال ظل في الماضي والحاضر طوى التاريخ صفحاته دون أي ذكر لهم.
لم يحدث أن كان في هذا المكان مقابر قبل بناء الجامع الأزهر، فكيف وصلت "رمم الأموات" تلك إلى مستقرها أسفل صحن الجامع؟ ومن يا ترى هؤلاء؟
اكتشاف صهريج الجامع الأزهر 2015
في مثل هذه الأيام من صيف العام 2015، كانت أعمال الترميم تجري على قدم وساق في الجامع الأزهر، ليخرج بعدها الجامع في حُلته الجديدة، وأثناء عملية الترميم في صحن الجامع، ظهرت فتحة تؤدي إلى صهريج كامل بمساحة 6 أمتار، أسفل الصحن، وذلك أثناء رفع القطع الرخامية من الأرضية، وفقاً لما ذكره حينها للصحافة المحلية الدكتور محمد عبداللطيف، رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية بوزارة الآثار، وذلك على غرار نمط صهريج جامع محمد علي في قلعة صلاح الدين الأيوبي، ورجّح حينها أن الصهريج كان مستخدماً كمصدر احتياطي للمياه حال ندرتها، حتى لا تعوق إقامة الشعائر الدينية.
حينها أصدر رئيس الوزراء حينذاك المهندس إبراهيم محلب توجيهاتِه بأن يكون الصهريج موضعَ زيارة، فأنشأت الوزارة "مداميك" صغيرة لتحديد مكان الصهريج، وغُطي المكان بسطح زجاجي من أعلى وزُوّد بشبكة إضاءة لإنارته وتوضيح معالمه للزائرين نهاراً وليلاً.
أموات أسفل الجامع الأزهر
بالعودة إلى التاريخ، نرى أن الكشف الأخير، كان دليلاً على الكشف أو مجرّد إعادة اكتشاف لما يُمكن أن نسميه "مقبرة جماعية" أسفل الجامع الأزهر تعود إلى نحو ألف عام مضت؛ إذ تحدّث المؤرخ تقي الدين المقريزي عن الأثر في كتابه "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" (ص 54)، عندما تحدّث عن أعمال الترميم والتجديد في الجامع الأزهر سنة 827 هـ (1423 م)، أي بعد أكثر من 4 قرون من بنائه، بأوامر السلطان الأشرف سيف الدين برسباي، سلطان دولة المماليك، على يد والي القاهرة حينها الأمير تاج الدين التاج الشوبكي، قائلاً: "وفي شوال منها ابتُدِئ بعمل الصهريج الذي بوسط الجامع فوُجد هناك آثار فسقية ماء، ووُجد أيضاً رمم أموات، وتم بناؤه في ربيع الأول".
تكرر الأمر مع ابن تغري بردي، في كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" (الجزء 14، ص 268)، ضمن ذكره لأعمال السلطان الملك الأشرف برسباي قائلاً: "ثم في يوم الثلاثاء رابع شوّال أمر السلطان بحفر صهريج بوسط صحن جامع الأزهر، فابتدأوا فيه من هذا اليوم وحفروا بوسط صحن الجامع المذكور فوجدوا فيه آثار فسقية قديمة وبها عدة أموات، ثم شرعوا في بنائها حتى كملت وعُمّر فوقها مقعد لطيف على صفة السبيل، وانتُفع أهل الجامع به، ودام سنين إلى أن أمر السلطان الملك الظاهر جقمق بهدمه فهُدم ورُدم".
مرّ كلٌّ من المقريزي وابن تغري بردي مرورَ الكرام على كلمة "رمم أموات" و"عدة أموات"، دون أن يوضّحا كيف حدث ذلك، وربما يرجع ذلك لسببين؛ أولهما موضوع الكتابين نفسيهما، إذ يتحدث الأول عن ذكر الخطط والآثار، ووصف البناء والمعمار، كما يُعد الكتاب الثاني من كتب السيَر والتراجم. أما السبب الثاني ربما يكون بداهة المسألة أو كونها من الأمور المعروفة أو المفهومة دون حاجة لشرح أو توضيح، ما جعل منها معلومة عابرة لا تُمثل مفاجأة أو صدمة حينذاك.
الأزهر... القوة الناعمة
كل حاكم تَلزمُه قوّة تُمكنه من السيطرة، وإلا انفلتت من بين يديه الأمور لغيره، خاصة إن كان غازياً جاء من بلاد بعيدة، بعقيدة جديدة غير عقيدة أهل البلاد، فضلاً عن نيته فرض هذه العقيدة عليهم. ولزاماً لذلك كان لا بد من أدوات ناعمة تتمثل في الدعوة بالحسنى، وأدوات خشنة تتمثل في استخدام القوة المفرطة ضد كل من تسول له نفسه الخروج على الدعوة الجديدة.
في حالة الدولة الفاطمية، نرى أن القائد الفاطمي جوهر الصقلي، كان يسير في الاتجاهين بتوازن شديد، إذ سعى بكل ما أوتي من أدوات إلى نشر العقيدة الفاطمية الإسماعيلية في مصر، ولا يخفى دور الجامع الأزهر في ذلك، عن طريق تحوله تدريجياً إلى منارة للمذهب الشيعي الإسماعيلي، بتدريس الدروس، وإلقاء الخطب والمواعظ وتعليم رجال المذهب الدعوة لمذهبهم ليس في مصر وحدها، بل في جميع أرجاء الدولة الفاطمية.
وقد تحدّث عن ذلك الدكتور محمد البهي، وزير الأوقاف وشؤون الأزهر الأسبق، في كتابه "الأزهر… تاريخه وتطوّره"، قائلاً: "بعد أن أسس جوهر مدينة القاهرة لم ير أن يُفاجئ السنيين في مصر بإقامة شعائر المذهب الفاطمي حتى لا يُثير غضب المصريين، لذلك وضع أساس الجامع الأزهر في 14 من رمضان سنة 359 هجرياً، الموافق يوليو 970 ميلادياً، وتم بناؤه في سنتين تقريباً، وأقيمت الصلاة فيه لأول مرة في 7 من رمضان سنة 361 هجرياً الموافق 26 يونيو 972 ميلادياً".
وأوضح كيف خُصصت للأزهر الأموال والأوقاف والكتب، للإنفاق على الدعوة الشيعية الإسماعيلية، إذ أصبح منذ إنشائه مسجد الدولة الفاطمية الرسمي، فكانت تُقام فيه صلاة الجمعة وعيدا الفطر والأضحى، وكان الخليفة يؤم الناس بنفسه، بل وأصبح جامعة تُدرس فيها العلوم المختلفة، فلم يكن يُضاهي الأزهر مكان آخر حينذاك كقوة ناعمة.
الأزهر… مقبرة المتمردين
أما عن القوة الخشنة، فلم يخطر على بال أحد ممن درسوا وتعلموا في الجامع الأزهر، طوال ما يزيد على 4 قرون ونصف، أنهم كانوا يُصلّون يمشون ويتلقون دروس العلم فوق رمم ورفات أموات.
بالقطع لا يجوز تصوّر دفن أموات في صحن الجامع الأزهر بعد بنائه دون أن يعلم بالحادث أحد أو يُخبر به، وذلك لكون الجامع منذ بنائه وحتى يومنا هذا مكاناً عامراً بالناس، سواءً المصلين أم الدارسين أم العلماء أو العامة الذين كانوا يعبرون منه، كما ذكر المقريزي. وكذلك لم تكن الأرض التي بُني فوقها الجامع مقبرةً في يوم من الأيام، ولم يُذكر أي حديث عن وجود مقبرة في المكان قبل البناء.
في حالة الدولة الفاطمية، نرى أن القائد الفاطمي جوهر الصقلي، كان يسير في الاتجاهين بتوازن شديد، إذ سعى بكل ما أوتي من أدوات إلى نشر العقيدة الفاطمية الإسماعيلية في مصر، ولا يخفى دور الجامع الأزهر في ذلك، عن طريق تحوله تدريجياً إلى منارة للمذهب الشيعي الإسماعيلي.
يقول الدكتور علي إبراهيم حسن المفتش في كتابه "تاريخ جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله الفاطمي" إن جوهر الصقلي بدأ في تأسيس القاهرة، في نفس الليلة التي دخل فيها مدينة مصر، والمقصود هنا "الفسطاط والعسكر"، لتكون أشبه بمدينة حصينة، ومعقلًا له ولجنده وأنصاره من المغاربة ولتقيه شرَّ القرامطة، أو أي تمرّد من أهل مصر، خاصة مع محاولة فرضه للمذهب الإسماعيلي، إذ أبطل الخطبة للخليفة العباسي، وبدأ في الدعوة للخليفة الفاطمي المعز لدين الله، كما حرم على الناس لبسَ السواد شعار العباسيين، وزيد في الخطبة عبارة "اللهم صلّ على محمد النبي المصطفى، وعلى علي المرتضى، وعلى فاطمة البتول، وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول، الذين أذهبتَ عنهم الرِّجسَ وطهّرتهم تطهيراً. اللهم صلّ على الأئمة الراشدين آباء أمير المؤمنين الهادين المهديين"، كما زاد على الأذان عبارة "حي على خير العمل"، ورفع الأذان الشيعي في المساجد الجامعة وعلى رأسها مسجد ابن طولون، ومسجد عمرو بن العاص.
كان الفاطميون يتخذون من القاهرة قلعة محصنة، بأسوارها وحراسها من عامة أهل مصر أصحاب العقيدة السنية، وكانوا يعتمدون على المغاربة الشيعة وأهل الكتاب من ورائهم في إدارة الدولة، وظهرت عبارات مثل "امشي جنب الحيط" بين المصريين والمقصود بها أسوار القاهرة، المدينة الممنوع عليهم دخولها بسهولة، والتي ربما يفقدون حياتهم إذا ابتعدوا قليلًا عن السور وكُشفوا أمام الحرّاس.
كانت الفترة الأولى من العهد الفاطمي، فترة بناء القاهرة وبناء الجامع الأزهر، فترة انتقالية خطيرة، لم يكن الوضع قد استتب بعد للفاطميين، كان جوهر الصقلي يعمل بشكل متواصل، لتجهيز العاصمة الجديدة للإمبراطورية الفاطمية، وبناء قصر الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، والجامع الأزهر، وحتى بعد بنائهما، كانت القاهرة عبارة عن ثكنات للجنود ودور للمغاربة ورجال الحاشية وحرس الخليفة، وكان جميع سكانها من الشيعة، وأهل الكتاب، ثم ظلت تتدرج في العمران شيئاً فشيئاً طوال العهد الفاطمي وبعده.
كانت المدينة ذات طابع عسكري بامتياز طوال عامين، هما فترة بناء الجامع الأزهر، وهما كذلك فترة اضطرابات واسعة حدثت جرّاء تمرّدات وثورات المصريين على الحكم الفاطمي، والتي واجهها القائد جوهر الصقلي بقوة.
يقول وزير الأوقاف وشؤون الأزهر الأسبق: "بعد أن أسس جوهر مدينة القاهرة لم ير أن يُفاجئ السنيين في مصر بإقامة شعائر المذهب الفاطمي حتى لا يُثير غضب المصريين، لذلك وضع أساس الجامع الأزهر وتم بناؤه في سنتين تقريباً"
في كتابه "ثورات المصريين في العصر الفاطمي" يوضح الدكتور محمود محمد خلف، كيف كان المصريون ثائرين على الحكم الفاطمي، فلم تكن تهدأ ثورة حتى تندلع أخرى، بداية من انتفاضة جموع الجند الإخشيدية تحت قيادة نحرير الشويزاني، مروراً بثورة تبر الإخشيدي والي البشمور، الواقعة اليوم في محافظة الدقهلية، سنة 969، وثورة أهل تنيس، قرب بورسعيد اليوم، سنة 970، وثورة الصعيد بزعامة عبدالعزيز بن إبراهيم الكلابي سنة 971، إضافة إلى العديد من الاشتباكات والمناوشات التي كانت تحدث بين حين وآخر، خاصة في المناسبات الدينية الشيعية مثل يوم عاشوراء، وعيد غدير خُم، ومن أبرزها أحداث العنف يوم عاشوراء سنة 973، بين المصريين السنّة، والمغاربة الشيعة، التي خلّفت الكثير من القتلى والجرحى، وغيرها من احتجاجات وأحداث عنف خاصة في السنوات الأولى من العهد الفاطمي.
خلّف كل حدث مما سبق وغيره مما لم يرد ذكره هنا، أعداداً من القتلى، وكان القائد جوهر الصقلي، يُنكّل بقادة تلك الثورات أو الانتفاضات، فكان يُطاف بهم في أقفاص حديدية في القاهرة، وتُعلّق رؤوسهم أو جثامينهم على أسوار المدينة.
في رحلتنا للبحث عن هوية "الأموات" أسفل الجامع الأزهر، لم نصل تحديداً إلى أشخاصهم، أو أسمائهم، لكنهم على الأرجح دُفنوا في هذه الأرض أثناء فترة بناء الجامع بين عامي 969 و972، وهي الفترة التي شهدت كل تلك الثورات وأعمال العنف والعنف المضاد إن جاز التعبير، حيث كانت القاهرة أشبه بقاعدة عسكرية محصنة مغلقة لا يعلم ما يدور داخلها إلا عساكرها، وحراسها، وبُناتها.
ليس هؤلاء وحدهم من ماتوا ودُفنوا في قبور ليست بالقبور، لكي يغيب ذكرهم عن التاريخ، ولا يعلم قصتهم أحد، بالتأكيد شهدت وتشهد القاهرة الكثير من الجثامين المجهولة الهوية، لأبطال لم ولن تذكرهم صفحات التاريخ، ولا أحد يعلم كم جثة مات صاحبها ودُفن دون قبر ودون خبر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...