"أضحت المرأتان زوجتين لإيل... انحنى عليهما ولثم شفتيهما. شفتان حلوتان كالرمّان. عندما تبادلا القبل حملت المرأتان. عندما عانقتاه أصبحتا حبلاوين. جاءهما المخاض، ولدتا الغسق والفجر".
يجسد الإله الكنعاني إيل إحدى قصص الحب والعشق بين الآلهة والبشر في الميثولوجيا القديمة، التي تسربت تدريجياً إلى الأديان الإبراهيمية أو التوحيدية في ما بعد.
اتخذت العلاقة بين الإله بوصفه فكرةً للوجود المطلق، وبين البشر ككائنات ضعيفة تحتمي بالقوى الكلية للكون، منحنيات عدة، بدءاً مما يمكن تسميته "لاهوت الخوف"، الذي يحدد العلاقة بين الإنسان وذلك الكائن الجبار الهائل الغامض الواجب استرضاؤه بمجموعة من الأفعال شكلت فكرة الطقوس، مروراً بمفهوم العناية الإلهية الذي ظهر في حضارات وأديان عدة، وتجلّى في الدين اليهودي، وصولاً إلى "لاهوت المحبة" والتصور المسيحي حول تضحية الرب بابنه محبّةً بالبشر، وجاءت ذروتها مع العشق الحسي الصوفي في الإسلام والمسيحية، الذي تحول إلى حالة شبقية مرضية عصابية.
في كتابه "مفاهيم إشكالية في الحب والتصوف والسياسة"، الصادر عن دار العين في القاهرة (2024)، يتتبع المفكر المصري عبد الجواد ياسين، هذه العلاقة المتوترة بين الله والبشر، من الخوف إلى الرعاية إلى الحب الحسي الإيروسي، بدايةً من عصور الأساطير، وما قبل الأديان التوحيدية، وانتهاءً بالعشق الصوفي الذي تجلّت ذروته في القرن السابع على يد ابن عربي.
يبحث كتاب "مفاهيم إشكالية في الحب والتصوف والسياسة"، العلاقة المتوترة بين الله والبشر، من الخوف إلى الرعاية إلى الحب الحسي الإيروسي، بدايةً من عصور الأساطير، وما قبل الأديان التوحيدية، وانتهاءً بالعشق الصوفي
في عصر الأنثربولوجيا الطبيعية (العصر الحجري الجديد)، كانت التصورات الدينية تربط بين الآلهة والإنسان والجنس بطريقة سلسة قبل ظهور ثقافة التحقير من الغريزة الجنسية، فكان يُنظر إلى الجنس بوصفه فضيلةً ترمز إلى الخصب. يرصد الكاتب أكثر من حالة في هذا الصدد، منها الاعتقاد السائد في جزيرة جاوة بالقدرة الإخصابية للطبيعة عن طريق الجنس، فيمارس الرجل الجنس مع امرأته في حقول الأرز ليساعد شتلات الأرز على النمو، ويشير أيضاً إلى الجنس الجماعي في الأعياد ضمن الطقوس العشتارية بهدف تحفيز الطبيعة على الإخصاب والإنبات والتكاثر، وكذلك كان الرجل في الديانة الطاوية؛ إذا نام مع عشر سيدات في ليلة واحدة يحقق الخير ويدخل الانسجام المنشود مع قوى العالم.
يتتبع الكتاب رؤية ابن عربي الحسية والإيروسية للحب والجنس باعتبارهما تجليين من تجليات الحضور الأسمى والصفاء الروحي والتوحد مع مفردات الكون التي تمثل الفكرة الكبرى للوجود الإلهي.
ويذكر أن الجنس في المعابد كان يعبّر عن الرغبة في الاتصال بالآلهة ، وفي الحضارات المصرية والبابلية واليونانية كانت الآلهة تتزاوج وتمارس الجنس مع الرجال والنساء، ومن بين ما ورد في الميثيولوجيا اليونانية، أن آلهة الأولمب جاءت من الاتصال بين البحر "بنتوس"، والأرض "غيا" ذات الأثداء الراسخة.
يرصد الكتاب علاقة يهوه، بشعب إسرائيل، من الحب الأبوي إلى الزواج إلى الخيانة والطلاق، وحتى التزلف للمرأة الخائنة ومحاولة مسامحتها.
تتطور العلاقة بين يهوه "إله إسرائيل"، وشعبه؛ فبعد أن كان الأب الحامي الذي تعرّض للعصيان من أبنائه بعد أن تركوه وراحوا يعبدون "بعل" إله الكنعانيين، وآلهة أخرى من آشور وبابل ومصر، تحول الرب إلى الزوج الذي تخونه زوجته مع تلك الآلهة الأخرى، فيتهمها صراحةً بالزنا، ويستخدم لغةً إيروسيةً صريحةً ويقول في العهد القديم: "قال الرب لهوشع: اذهب خذ لنفسك امرأة زنا وأولاد زنا لأن الأرض قد زنت تاركةً الرب".
خيانة شعبَي إسرائيل ويهوذا ليهوه مع الإله بعل، تأخذ طابعاً حسياً إيروسياً عنيفاً، وتقابلها على أرض الواقع قصة هوشع الذي يعلن انفصاله عن زوجته كما يعلن الرب انفصاله عن بني إسرائيل؛ "حاكموا أمّكم لأنها ليست امرأتي، وأنا لست رجلها لكي تعزل زناها عن وجهها وفسقها بين ثدييها، لئلا أجرّدها عريانةً وأوقفها كيوم ولادتها وأجعلها كقفر، وأصيّرها كأرض يابسة، وأُميتها بالعطش، ولا أرحم أولادها لأنهم أولاد زنا".
وبرغم ذلك، تظهر مؤشرات كثيرة على أن هذا الزوج "يهوه"، كان مستعداً على الدوام لمسامحة زوجته الخائنة "إسرائيل"، واستعادتها من أحضان عشيقها "بعل" والآلهة الأخرى.
وتنتقل العلاقة بين الرب وشعب إسرائيل من مفردات "الزوج – العشيق – الخطيب – العريس"، في العهد القديم، لتنحصر في أن يصبح الرب عريساً للكنيسة في العهد الجديد (المسيحية)، ولكن هذه المرة شعب الله يتسع نظرياً لجميع البشر، بينما العروس طاهرة مؤيدة بعناية الرب لا عيب فيها، وتبقى علاقة الزواج بين الرب والكنيسة في حالة من العرس الدائم المليء بالمسرّات والأفراح.
تنبني فلسفة الحب المسيحي على فكرة "الكمال الإلهي"، وفقاً لفلاسفة القرون الوسطى، فالله يحب نفسه بنفسه لكماله الخاص، وكل حب بشري هو مماثلة لحب الله نفسه لنفسه.
ينقلنا الكتاب إلى فكرة الحب الإلهي الذي ظهر كنظرية شائعة لدى المتصوفة الإسلاميين في القرن الثالث، ورفضها الفقه الإسلامي، في سياق جدلي يرى أن أصل العلاقة بين الله وعبده هي الخوف، واعتبر القول بمحبة الله بدعةً، وإن كان الفقه قد توصل إلى معادلة متوازنة تضع الخوف والمحبة كأصلين متجاورين في علاقة الله بالعبد، فقد قصر الحب على المنحى الصوفي الذي نهل من مفردات العشق والهوى العذرية والحسية على السواء. وإن كان الطابع العذري قد ظهر على يد رابعة العدوية (100-180هـ)، والحسين بن منصور الحلاج (244-309هـ)،
وغيرهما من المتصوفة الأوائل في القرنين الثاني والثالث الهجريين، فقد تجلى الطابع الحسي والإيروسي في الكتابات المتأخرة نسبياً، تحديداً في القرن السابع الهجري على يد المتصوف الفارسي بهاء الدين ولد (542-628هـ)، والأندلسي محيي الدين بن عربي (558-638هـ).
ينقلنا الكتاب إلى فكرة الحب الإلهي الذي ظهر كنظرية شائعة لدى المتصوفة الإسلاميين في القرن الثالث، ورفضها الفقه الإسلامي، في سياق جدلي يرى أن أصل العلاقة بين الله وعبده هي الخوف
فالوعي الصوفي وصل إلى درجة من إدراك وحدة الوجود والمجازات الحلولية، أن جعل من العشق بمفهومه الروحي والإيروسي على السواء نوعاً من العبادة، وبحسب ما يذكر بهاء الدين ولد (والد جلال الدين الرومي) فإن "الرب يلتبس شكل النساء وشهوة الرجال". ويتابع الكتاب في هذا المنحى دليلاً على الحلولية ووحدة الوجود؛ "ليس ثمة إلا الله الذي يتجلى في صور الموجودات جميعاً، فحين يحب الرجل المرأة ينصب حبه في الحقيقة على الله الذي يلتبس شكل النساء، وحين تحب المرأة الرجل فهي في الحقيقة تحب الله الذي يلتبس شهوة الرجال. ويسري ذلك على كل مفردات الطبيعة التي تتزاوج بدورها في نكاح إلهي دائم لا أحد يعلم هيئته ولا طريقته".
المنظور نفسه يتبناه ابن عربي في ديوانه "ترجمان الأشواق" وشروحه، حيث الألفاظ والتشبيهات والصور الحسية الصريحة للمحبوبة، والكتابة الإيروسية شبه المكشوفة تماماً، ويبرر ذلك في أكثر من موضع في فصوص الحكم وغيره، استناداً إلى إدراكه الكلي لوحدة الوجود، معتبراً أن "التعبير عن الحب الإلهي يبلغ ذروته في الاتصال الجنسي"، "فشهود الحق (الله) في النساء أعظم الحق وأكمله"، كما يعتبر في فصوص الحكم أنه "لم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح".
وعلى هذا المنوال يتتبع الكتاب رؤية ابن عربي الحسية والإيروسية للحب والجنس باعتبارهما تجليين من تجليات الحضور الأسمى والصفاء الروحي والتوحد مع مفردات الكون التي تمثل الفكرة الكبرى للوجود الإلهي.
جدير بالذكر أن المؤلف عبد الجواد ياسين، قاضٍ ومفكر مصري، وُلد عام 1954، وله مؤلفات في الاجتماع السياسي وفلسفة الدين، وتدور كتاباته حول نقد التراث الديني في أنساق التدين التوحيدي الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، وعلاقاتها بالظواهر الأصولية العنيفة.
ومن أهم مؤلفاته" تطور الفكر السياسي في مصر خلال القرن التاسع عشر"، و"السلطة في الإسلام"، و"نقد النظرية السياسية"، و"الدين والتدين"، و"اللاهوت".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...