تخيل مشهداً يشبه لعبة شطرنج ضخمة، حيث تتحرّك القطع ببطء وحذر عبر لوحة قديمة متقلبة، تمثل فيها غزة الأرض التي يحاول الجميع إحكام قبضتهم عليها. في هذه اللعبة، لا تتمثل الخطوة التالية في جنود أو دبابات، بل في ممرّات استراتيجية تمتد عبر القطاع، مصمّمة بعناية فائقة، لتحكم السيطرة على كل حركة وكل نفس يُأخذ داخل هذا المكان المليء بالتوترات.
في ظل هذه اللعبة، تقف القوات الإسرائيلية عند "ممرّ فيلادلفيا"، الذي يمتد على طول الحدود بين غزة ومصر. تدّعي إسرائيل أن استعادة السيطرة على هذا الممرّ كانت لحظة محورية في الاستراتيجية الإسرائيلية، وهي المزاعم التي نفتها مصر، وهي متعلقة بأن الممرّ يمثل شريان الحياة لحركة حماس، حيث استخدمت أنفاقاً تحت الأرض لتهريب الأسلحة والبضائع إلى القطاع. ولكن الآن، مع سيطرة إسرائيل المتجدّدة، تبدو الأنفاق كجزء من الماضي. القوات الإسرائيلية تعمل على منع إعادة بناء هذه الأنفاق بأي ثمن، مؤكدةً أنها لن تسمح لحماس بإعادة بناء قوتها العسكرية، وهي ادعاءات غير مؤكدة، ولا يمكن تصديق الطرف الإسرائيلي فيها على أي حال.
ومع مرور الوقت، لم تكتفِ إسرائيل بممرّ فيلادلفيا فقط. بدأت بمد سيطرتها عبر ممرّات أخرى، مثل ممر "نيريم" الذي يقسم مدينة غزة إلى نصفين، ويعزل شمال القطاع عن جنوبه. هذا الممرّ، المليء بأبراج المراقبة والقواعد العسكرية، يمنح القوات الإسرائيلية السيطرة الكاملة على كل شبر من الأرض. الهدف؟ ليس فقط منع حماس من التحرّك بحرية، بل أيضاً تقسيم غزة إلى جيوب معزولة. المدنيون الفلسطينيون يجدون أنفسهم في هذه الجيوب الضيقة، محاصرين تحت عين إسرائيل الحارسة، بينما القوات جاهزة للتحرك في أي لحظة للرد على أي تهديد محتمل.
وفي مشهدٍ أكثر تعقيداً، تقف القوات الإسرائيلية في شمال القطاع بينما تمتد جبهة الصراع إلى لبنان، حيث تدخل القوات الإسرائيلية الأراضي اللبنانية، وتردّ إيران بإطلاق الصواريخ. مع توسع دائرة الصراع إلى الشمال، لا تزال إسرائيل ماضية في تنفيذ خططها في غزة. ربما يكون التركيز الدولي في مكان آخر، لكن العمل جارٍ على قدم وساق على الأرض.
إلى جانب ممرات فيلادلفيا ونيريم، يتم بناء ممرّ آخر في خان يونس، ممر "كسوفيم". هو دليل آخر على نية إسرائيل تقسيم القطاع إلى أجزاء أصغر، لتتمكن من إحكام قبضتها على حركة الفلسطينيين بشكل أكبر
إلى جانب ممرات فيلادلفيا ونيريم، يتم بناء ممرّ آخر في خان يونس، ممر "كسوفيم". هو دليل آخر على نية إسرائيل تقسيم القطاع إلى أجزاء أصغر، لتتمكن من إحكام قبضتها على حركة الفلسطينيين بشكل أكبر. المباني المدمّرة والأراضي المجرّفة تشير إلى أن هذا الممر سيكون جزءاً دائماً من الاستراتيجية الإسرائيلية. خطة تقسيم غزة إلى ثلاثة أجزاء رئيسية بدأت تتشكل بوضوح، وبهذا الشكل، تضمن إسرائيل السيطرة الكاملة على الحركة داخل القطاع، دون الحاجة إلى احتلال الأرض بشكل دائم .
لكن خلف هذا التحكم العسكري، هناك أثر إنساني كارثي يتفاقم يوماً بعد يوم. المدنيون الفلسطينيون يعانون من انقطاع الإمدادات الأساسية مثل الغذاء والماء والكهرباء. الممرات العازلة تجعل الحياة اليومية أكثر صعوبة، حيث تفرض على الناس العيش في مناطق معزولة، حيث يكون التنقل بين هذه المناطق شبه مستحيل وخاضعاً للمراقبة الإسرائيلية المستمرة. ومع هذا الحصار الخانق، يبدو أن الأوضاع الإنسانية في غزة تزداد سوءاً كل يوم.
في الوقت ذاته، هذه الممرّات ليست فقط قضية فلسطينية. مصر أيضاً تشعر بالقلق إزاء الوجود الإسرائيلي المستمر في "ممر فيلادلفيا"، وتعتبره انتهاكاً لاتفاقية السلام الموقعة في عام 1979. مع تصاعد التوترات، تبقى الجهود الدولية قائمة للتوسّط وإيجاد حلول مرضية لجميع الأطراف، لكن الممرّات العازلة تقف كعقبة رئيسية أمام أي محاولات لتحقيق هدنة دائمة.
على الأرجح فإن تقسيم غزة إلى جيوب معزولة سيزيد من حدّة الصراع على المدى الطويل.
الممرّات العازلة: استمرارية لسياسات قديمة
السياسة الإسرائيلية القائمة على "التحكم عن بعد" تسعى منذ البداية إلى تقليل الحاجة لتواجد مادي دائم في المناطق الفلسطينية، ومع مرور الوقت تطورت هذه الاستراتيجية لتشمل بناء المستوطنات والجدران العازلة والممرّات الأمنية. هذه السياسة لا تعكس فقط رؤية إسرائيل لتعزيز أمنها القومي، بل أيضاً تؤثر بشكل مباشر على الحياة اليومية للفلسطينيين في تلك المناطق، وخاصة في غزة.
في الضفة الغربية، لعب بناء الجدار العازل دوراً رئيسياً في تقليص حرية التنقل للفلسطينيين وفصلهم عن أراضيهم الزراعية ومواردهم. الجدار العازل، الذي يدّعي الإسرائيليون أنه يهدف إلى الحماية من الهجمات، يُنظر إليه من قبل الفلسطينيين كأداة للضم غير الشرعي لمزيد من الأراضي، حيث تمّ بناء أجزاء كبيرة من الجدار داخل الضفة الغربية وليس على حدود 1967 المعترف بها دولياً. وبهذا، يُعد الجدار أداة لتعزيز السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية وتقليص فرصة إقامة دولة فلسطينية مستقلة في المستقبل.
في قطاع غزة، تُعد الممرّات العازلة والحصار جزءاً من هذه الاستراتيجية الأكبر. ومنذ بدء الحصار الإسرائيلي في عام 2007، تدهورت الأوضاع الاقتصادية في غزة بشكل ملحوظ. يعاني القطاع من نقص حاد في المواد الأساسية مثل الغذاء والدواء، ويعتمد أكثر من 80% من السكان على المساعدات الإنسانية. وفقاً لتقارير البنك الدولي، تجاوزت نسبة البطالة 50%، حيث تلاشت فرص العمل بشكل كبير نتيجة الحصار والانهيار الاقتصادي.
الممرّات العازلة التي يتم إنشاؤها في غزة لا تؤثر فقط على الجانب الأمني، بل تعزل الفلسطينيين في "جيوب" صغيرة تجعل التنقل بين المناطق صعباً للغاية. هذا الأمر يعمّق الانقسام الاجتماعي والجغرافي، حيث يصبح من الصعب على الفلسطينيين الوصول إلى أعمالهم أو مزارعهم، أو حتى تلقي العلاج الطبي المناسب
الممرّات العازلة التي يتم إنشاؤها في غزة لا تؤثر فقط على الجانب الأمني، بل تعزل الفلسطينيين في "جيوب" صغيرة تجعل التنقل بين المناطق صعباً للغاية. هذا الأمر يعمّق الانقسام الاجتماعي والجغرافي، حيث يصبح من الصعب على الفلسطينيين الوصول إلى أعمالهم أو مزارعهم، أو حتى تلقي العلاج الطبي المناسب. هذا التقييد الجغرافي يشكل عقبة إضافية أمام محاولات تحسين الوضع الاقتصادي في غزة، حيث تعتمد العديد من الأنشطة الاقتصادية على حرية التنقل والوصول إلى الموارد الطبيعية.
إلى جانب التأثير المباشر على الحياة اليومية، تعكس هذه الممرّات نوعاً من السيطرة "عن بُعد" الذي يسمح لإسرائيل بمراقبة وضبط المناطق الفلسطينية دون الحاجة إلى التواجد الدائم في الأراضي المحتلة. هذا يعكس انتقالاً من شكل الاحتلال التقليدي إلى شكل أكثر تعقيداً يعتمد على التكنولوجيا والمراقبة عن بُعد.
تعقيد حل الدولتين
هذه السياسات الإسرائيلية، سواء في الضفة الغربية أو غزة، تزيد من تعقيد حل الدولتين الذي طالما كان هدفاً للجهود الدبلوماسية الدولية. فكرة إنشاء دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة تصبح أقلّ احتمالاً مع كل مستوطنة جديدة أو ممرّ عازل يُبنى. الحدود التي ترسمها إسرائيل بشكل فعلي على الأرض تقلّل من مساحة الأراضي التي يمكن أن تكون جزءاً من الدولة الفلسطينية المستقبلية، وتجعل أي محاولة للتوصل إلى اتفاق سلام أكثر صعوبة.
تعد هذه الممرّات تجسيداً عملياً لرؤية إسرائيل الأمنية على المدى الطويل، حيث تركز على منع التواصل بين المناطق الفلسطينية وإضعاف حماس، ولكن في المقابل، يثير العديد من المحلّلين تساؤلات حول ما إذا كانت هذه السياسات تعزّز الأمن بالفعل على المدى الطويل أم أنها ستؤدي إلى زيادة التوترات وتفاقم الصراع. تعتبر غزة اليوم أشبه ما تكون بجزيرة معزولة، محاطة بممرّات عازلة ومعتمدة على الإمدادات الدولية، وهذا الوضع يجعل من أي جهد لتحسين الوضع الإنساني تحدياً ضخماً يتطلّب جهوداً دولية مستمرة.
هل ستتمكن إسرائيل من تحقيق أمنها من خلال بناء هذه الممرات وتقليص حرية الفلسطينيين، أم أن هذه السياسات ستؤدي إلى زيادة العنف والتوتر؟ على الرغم من أن هذه الإجراءات قد تقدم حلاً أمنياً على المدى القصير، إلا أن التحديات طويلة الأمد، المتعلقة بالحقوق الإنسانية الأساسية للفلسطينيين وحقهم في تقرير مصيرهم، تجعل من الصعب تصور استقرار دائم في المنطقة دون حل عادل وشامل.
تشير منظمات حقوق الإنسان مثل "هيومن رايتس ووتش" و"أمنستي إنترناشونال" إلى الأثر المدمر لإنشاء هذه الممرّات على الحياة اليومية للفلسطينيين. غزة، المزدحمة أصلاً، تتحوّل تدريجياً إلى شبكة متقاطعة من الممرات العسكرية، تعيق حركة البضائع والأشخاص. يمكن تخيل الناس وهم ينتظرون لساعات في نقاط التفتيش، أو يقفون في طوابير طويلة للحصول على المياه أو الكهرباء، في ظل ظروف إنسانية حرجة.
يرى العديد من المحللين أن هذه الخطوات قد تؤدي إلى تحويل غزة إلى كيان معزول بشكل دائم، بعيداً عن باقي الأراضي الفلسطينية، وعلى المدى البعيد، قد تكون هذه الاستراتيجية قنبلة موقوتة بانتظار الانفجار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين
Jack Anderson -
منذ أسبوعشعور مريح لما اقرا متل هالمقال صادر من شخصك الكريم و لكن المرعب كان رد الفعل السلبي لاصحاب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعانا بشكُر حضرتك جدا جدا جدا جدا علي المقاله المهمه والرائعه دي
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعمقال قوي. أحييك عليه.