شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
فاغنر والذهب السوداني... كيف تتحوّل ثروات السودان إلى وقود للحروب الروسية؟

فاغنر والذهب السوداني... كيف تتحوّل ثروات السودان إلى وقود للحروب الروسية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتنوّع

الأربعاء 23 أكتوبر 202411:14 ص

بينما كانت روسيا تواجه تحديات دولية كبرى، مع انطلاق حربها في أوكرانيا في فبراير 2022، كانت هناك عملية أخرى تُنسج بعيداً عن الأنظار، في القارة الإفريقية، تحديداً في السودان، بعد زيارة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، إلى موسكو في 23 شباط/فبراير 2022.

زيارة حميدتي إلى موسكو لم تكن مجرّد خطوة لتعزيز العلاقات بين روسيا والسودان على المستوى الاقتصادي فقط، بل كان لحميدتي أيضاً أهداف عسكرية واضحة. في مقابل منح روسيا حق الوصول إلى مناجم الذهب السودانية، سعى حميدتي إلى الحصول على دعم عسكري مباشر.

خلال الزيارة، طلب حميدتي من المسؤولين الروس تزويد قوات الدعم السريع التي يقودها بمعدات عسكرية متطوّرة لتعزيز قدراته في السودان، خاصة في ظل تزايد التوترات الداخلية والصراع على السلطة بينه وبين الجيش السوداني.

بالإضافة إلى المعدات العسكرية، كان حميدتي يأمل في الحصول على دعم سياسي من موسكو، خاصة فيما يتعلق بالصراعات الداخلية في السودان، والتي تفاقمت بعد الإطاحة بعمر البشير. هذا الدعم السياسي والعسكري من روسيا كان سيعزّز من موقف حميدتي في مواجهة خصومه المحليين، ويمنحه القوة الكافية للحفاظ على نفوذه داخل السودان.

دخلت قوات فاغنر الروسية السودان، بناءً على دعوة من البشير نفسه، الذي كان يبحث عن دعم خارجي لضمان بقائه في السلطة. أسفر هذا التعاون عن إبرام عدة اتفاقيات تجارية وأمنية، كان من أبرزها منح الشركات الروسية حقوق التنقيب عن الذهب في السودان

ذهب السودان: الثروة التي تحوّلت إلى وقود للحروب الروسية

بدأ التدخّل الروسي في السودان خلال حكم الرئيس السوداني السابق عمر البشير. في عام 2017، دخلت قوات فاغنر البلاد، بناءً على دعوة من البشير نفسه، الذي كان يبحث عن دعم خارجي لضمان بقائه في السلطة. أسفر هذا التعاون عن إبرام عدة اتفاقيات تجارية وأمنية، كان من أبرزها منح الشركات الروسية حقوق التنقيب عن الذهب في السودان.

قوات فاغنر هي منظمة شبه عسكرية ترتبط بالكرملين بشكل غير رسمي، كان يديرها يفغيني بريغوجين، أحد المقرّبين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. استخدمت قوات فاغنر لتعزيز النفوذ الروسي في مناطق النزاع دون الارتباط الرسمي بالدولة الروسية، ما يتيح لموسكو التهرّب من المساءلة الدولية المباشرة. في السودان، كانت هذه القوات تعمل تحت غطاء شركات مدنية، مثل "ميرو جولد"، والتي حصلت على امتيازات التنقيب عن الذهب بشكل واسع.

يفغيني بريغوجين، الذي يُنسب إليه قيادة هذه المجموعة حتى اغتياله في حادث تحطم طائرة في آب/أغسطس 2023، كان شخصية مركزية في توسع فاغنر في إفريقيا. تشير التقارير إلى أنه لم يمت بشكل عرضي، بل إن وفاته كانت بتوجيه من الرئيس الروسي بوتين، كرد فعل على تمرّد فاغنر في يونيو 2023. يُعتقد أن بوتين أمر بالتخلص من بريغوجين بسبب تهديده لاستقرار السلطة داخل روسيا، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها بريغوجين ضد القيادة العسكرية الروسية.

رغم وفاة بريغوجين المفاجئة، تبقى تداعيات وجود قوات فاغنر في السودان مستمرة. القوة التي أسسها بريغوجين لعبت دوراً رئيسياً في تهريب كميات كبيرة من الذهب السوداني إلى خارج البلاد، ما ساهم في دعم الاقتصاد الروسي المترنّح تحت وطأة العقوبات الدولية.

تشير التقارير إلى أن روسيا نجحت في تهريب كميات ضخمة من الذهب السوداني إلى خارج البلاد، حيث أُرسل الذهب إلى روسيا لدعم احتياطياتها، وتجنّب آثار العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة عليها بسبب تدخلها في أوكرانيا

فاغنر وحميدتي: تحالف الذهب والميليشيات

لم يكن دخول قوات فاغنر إلى السودان لأغراض عسكرية بحتة، بل كان هناك اهتمام خاص بثروات البلاد الطبيعية، خاصة الذهب. يُعد السودان ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا، وهذه الموارد الطبيعية كانت هدفاً رئيسياً لروسيا. الذهب السوداني لم يكن مصدراً اقتصادياً مهماً فقط للسودان، بل أصبح يُستخدم من قبل روسيا كوسيلة لتمويل حربها في أوكرانيا.

تشير التقارير إلى أن روسيا نجحت في تهريب كميات ضخمة من الذهب السوداني إلى خارج البلاد، حيث أُرسل الذهب إلى روسيا لدعم احتياطياتها، وتجنّب آثار العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة عليها بسبب تدخلها في أوكرانيا. في عام 2021 وحده، يُقدَّر أن حوالي 32.7 طناً من الذهب السوداني تم تهريبها إلى خارج البلاد، بقيمة تصل إلى 1.9 مليار دولار. تلك الثروة الهائلة كانت تُنقل في رحلات جوية خاصة تحت غطاء تجاري وهمي، حيث تم تهريب الذهب عبر رحلات جوية تحت تصنيفات مثل "كوكيز" للحفاظ على السرية.

لم تكن قوات فاغنر تعمل بمفردها في السودان، بل نسّقت عن كثب مع قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي. منذ البداية، كانت روسيا تُدرك أهمية توثيق العلاقات مع القوات المحلية لضمان استمرار نفوذها، لذلك، قامت قوات الدعم السريع بحماية عمليات التنقيب الروسية، ووفرت للقوات الروسية الدعم اللوجستي والتأمين في مناطق التعدين مثل "العبيدية".

تعززت هذه العلاقة بعد الإطاحة بعمر البشير في عام 2019، حيث ظلت روسيا على اتصال وثيق مع القوات المحلية رغم التغيرات السياسية، بل إن روسيا دعمت قوات الدعم السريع أثناء انقلاب 2021 الذي أدى إلى تعزيز سيطرة الجيش السوداني.

إلى جانب الاستغلال الاقتصادي، تطمح روسيا منذ سنوات إلى إنشاء قاعدة بحرية على ساحل البحر الأحمر، ما يمنحها نفوذاً استراتيجياً كبيراً في المنطقة. بعد اتفاقية أبرمت في عام 2020 بين موسكو والخرطوم، سعت روسيا إلى ترسيخ وجودها العسكري في ميناء بورتسودان، حيث سيمكنها هذا الموقع من التأثير على حركة التجارة الدولية في البحر الأحمر.

رغم أن الاتفاق لم يتم تنفيذه بعد بشكل كامل، إلا أن زيارة حميدتي إلى موسكو في فبراير 2022 كانت خطوة هامة لتعزيز هذا التعاون. تشير تقارير إلى أن حميدتي حمل معه شحنة من الذهب أثناء رحلته إلى موسكو، ما يعزّز الشكوك حول العلاقات التجارية غير المشروعة بين قوات فاغنر وقوات الدعم السريع.

التدخل الروسي في السودان عبر قوات فاغنر لم يكن بلا ثمن، فقد أدت عمليات التنقيب غير القانونية والتهريب إلى استنزاف موارد البلاد الاقتصادية. السودان، الذي يعاني من أزمات اقتصادية متعددة، حُرم من عائدات ضخمة كان يمكن أن تسهم في تحسين أوضاعه الاقتصادية، بدلاً من ذلك، تم استغلال هذه الموارد لدعم عمليات روسيا العسكرية.

من جهة أخرى، أدت هذه العمليات إلى تأجيج الصراع الداخلي في السودان. فقد تم استخدام عائدات الذهب لتمويل الميليشيات المحلية وزيادة نفوذها، ما أدى إلى تفاقم الصراعات المسلحة بين مختلف الفصائل في البلاد. كما أن القمع العنيف للاحتجاجات الشعبية التي ندّدت بالتدخل الأجنبي زاد من حالة الفوضى وعدم الاستقرار.

رغم الهيمنة الروسية المتزايدة، هناك محاولات من قِبل دول أخرى للتصدي لهذا النفوذ. الولايات المتحدة فرضت عقوبات على الشركات الروسية المرتبطة بفاغنر والتي تعمل في مجال التنقيب عن الذهب في السودان، وتهدف هذه العقوبات إلى إضعاف قدرة روسيا على تمويل عملياتها العسكرية، وتقويض نفوذها في المنطقة.

لم تأت قوات فاغنر إلى السودان فقط لأسباب اقتصادية، بل لعبت دوراً هاماً في تعزيز النفوذ الروسي في المنطقة الإفريقية بشكل عام. بينما تسعى روسيا إلى استخدام السودان كنقطة انطلاق لتحقيق أهدافها الجيوسياسية، يبقى الشعب السوداني هو الخاسر الأكبر في هذا الصراع

السودان: ساحة صراع القوى العالمية وسط فوضى داخلية

السؤال الذي يظل مطروحاً هو: هل سيتمكن السودان من استعادة سيطرته على موارده الطبيعية في مواجهة التدخلات الروسية؟ في الوقت الذي تسعى فيه روسيا إلى ترسيخ وجودها العسكري والاقتصادي في السودان، تواجه البلاد تحديات كبيرة تتعلق بالصراعات الداخلية والانقسامات السياسية التي عمّقتها الحروب الأهلية المتكرّرة. منذ الإطاحة بعمر البشير في 2019، دخل السودان في فترة مضطربة من الصراع على السلطة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي. هذا الصراع أدى إلى انقسامات حادة في مؤسسات الدولة وتفاقم الأوضاع الأمنية.

تسعى روسيا ودول أخرى إلى استغلال حالة الفوضى لتحقيق مصالحها الخاصة، معتمدين على تحالفاتهم مع الفصائل المتصارعة في البلاد. قوات فاغنر، التي دعمت عمليات روسيا في التنقيب عن الذهب واستغلال الموارد السودانية، وجدت في هذا الصراع فرصة لتعزيز نفوذها، وهو ما يضع السودان في مأزق أمام التدخلات الخارجية التي تستهدف استغلال موارده في ظل ضعف السيطرة الحكومية.

إضافة إلى ذلك، يعاني السودان من مشاكل اقتصادية حادة، بما في ذلك الفقر، وتدهور البنية التحتية، وانهيار مؤسسات الدولة، ما جعل الوضع مهيأً لاستغلال خارجي. التدخل الروسي ليس الوحيد، فهناك قوى أخرى إقليمية ودولية تحاول السيطرة على البلاد، ما يجعل مستقبل السودان أكثر غموضاً وخطورة.

لم تأت قوات فاغنر إلى السودان فقط لأسباب اقتصادية، بل لعبت دوراً هاماً في تعزيز النفوذ الروسي في المنطقة الإفريقية بشكل عام. بينما تسعى روسيا إلى استخدام السودان كنقطة انطلاق لتحقيق أهدافها الجيوسياسية، يبقى الشعب السوداني هو الخاسر الأكبر في هذا الصراع. مع استمرار التدخلات الدولية وتهريب الموارد، يصبح السودان ساحة لتنافس القوى العالمية، ويبقى السؤال حول ما إذا كان يمكنه الخروج من هذا الصراع بكامل سيادته.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image