لم يشكّ أحدٌ- كما لم تُنكر إسرائيل- في أنّ التطوّرات الميدانيّة الأخيرة في قطاع غزّة تعني فرض واقع سياسيّ وجغرافيّ جديد على القطاع بعد عام من حرب الإبادة الإسرائيليّة.
ففرض الحصار الأخير قبل ثلاثة أسابيع على الشّمال، وتنفيذ سياسة الأرض المحروقة، وتقطيع أوصاله بشكل تامّ مع مدينة غزّة والجنوب، فضلاً عن السيطرة على المعابر، لم يكن سوى تنفيذ مُحكم لـ"خطة الجنرالات" التي تقضي بحصار الشّمال وإخلائه والسيطرة عليه تمهيداً لاستيطانه.
وفي حين تفرض الخطّة واقعاً عسكريًّا وأمنيّاً على الشّمال، كان لا بدّ لإسرائيل أن تجهّز نفسها للمستوى السياسي، أو أن تُخرج الخطط المبيّتة في أدراجها. "ومن بدا له أنّ نتنياهو يميل إلى عدم النطق بخطّة منظّمة لليوم التالي، فذلك لا يعني غياب السياسة. على العكس تماماً، فإنّ سياسته تحدّدها دائماً الأفعال على الأرض، وليس الخطط أو التأييد"، كما تقول الكاتبة في هآرتس نوعا لانداو.
ونظراً إلى أنّ نتنياهو أقسم في وقت سابق بأنّه لن يقبل بأن "يحكم غزّة لا حماستان ولا فتحستان"، في إشارة إلى حكم حماس والسلطة، فكان لا بدّ من خطّة لإدامة الاحتلال وتغيير معالمه الجيوسياسية وفرض مشروع احتلالي يتطابق مع المشروع الأمريكي لما يسمى اليوم التالي للحرب في قطاع غزة.
وبعد أيّام من الحصار، تكشّفت تفاصيل الخطّة. إذ ذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية أنّ ملامح رؤية نتنياهو تتجلى في الاحتلال العسكري والاستيطان والمرتزقة، وسيتم تنفيذ هذه الخطة من خلال احتلال مساحات من قطاع غزة وطرد السكان منها وتدمير منازلهم وتعبيد طرق جديدة وبناء مواقع عسكرية، ثم الدفع بخطة سياسية لنقل السيطرة المدنية على غزة إلى شركات خاصة.
مقاولون سيحكمون غزّة
وبحسب الصحيفة، فإنّ الخطة ستمنح مقاولين من القطاع الخاص مفاتيح السيطرة المدنيّة على القطاع، بالتالي تحويله إلى نموذج أشبه بالعراق وأفغانستان بعد الاحتلال الأمريكي. أمّا الشركة التي أتت الخطّة على ذكرها، فهي شركة (GDC) الأمريكية التي يمتلكها رجل الأعمال الأمريكي اليهودي موتي كهانا. وهي شركة مقاولات عسكريّة من النوع الذي عمل في العراق وأفغانستان في أثناء الاحتلال الأميركيّ. وهذا يشكل نوعاً من خصخصة الحكم العسكري في غزة من خلال تسليمها لشركات خاصة ذات مصالح مالية، بهدف نقل "المسؤولية الأخلاقية والقانونية" من إسرائيل إلى تلك الجهات.
من بدا له أنّ نتنياهو يميل إلى عدم النطق بخطّة منظّمة لليوم التالي، فذلك لا يعني غياب السياسة. على العكس تماماً، فإنّ سياسته تحدّدها دائماً الأفعال على الأرض، وليس الخطط أو التأييد
وبحسب صحيفة يديعوت أحرنوت فإن هناك "خطّة اليوم التالي للحرب تتمثل في "عمدة" جديد و"غيتوات" في قطاع غزة. "إنها ليست غيتوات، لكنها "أحياء محمية تحيطها جدران"، يقول موتي كهانا، اليهودي الأمريكي مالك شركة (GDC) التي اختارتها الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية لتولّي توزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة، في حديثه لصحيفة "يديعوت أحرونوت".
ويلوّح كهانا باستخدام القوة والرصاص ضد سكان غزة، من أجل بسط السيطرة على الأحياء، قائلاً: "نحن لا نأتي من أجل استبدال الجيش الإسرائيلي، والبحث عن عناصر حماس وقتلهم، وإنما لحماية المساعدات الإنسانية والحرص على أن تصل إلى المدنيين الغزيين"، زاعماً أن "هذا سيشكل مستقبلاً أفضل لسكان غزة".
ويضيف مالك الشركة أنه "سيتيح لإسرائيل التركيز في حربها على الإرهاب، مبرراً الاستعانة بشركته بأن "الجيش الأميركي قد استعمل ذلك سابقاً، في سبيل تأمين "فقاعات إنسانية"، ستكون "أشبه بأحياء محمية محاطة بجدران، ومعقّمة من الإرهابيين"، على حد وصفه.
وفي تصريح للصحافي الإسرائيلي شلومو ألدار في مقابلة عبر إذاعة الشمس، قال: "هناك اتفاق بين الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية على خطة اليوم التالي للحرب. إذ تبدأ تلك الخطة بالتنفيذ في حي العطاطرة في بيت حانون شمال قطاع غزة، وإذا نجحت التجربة، فستنتقل لمناطق أخرى داخل القطاع".
وأشار إلدار إلى أن "الخطّة ستقوم على تجنيد نحو 1000 عنصر أمن أمريكي لتنفيذها، وتتضمن إعادة البناء في المنطقة وتسليم السلطة المدنية للنخب الاقتصادية والاجتماعية والعشائرية الذين يحظون باحترام وإجماع من الأهالي".
وأضاف الصحافي أنّ "هناك خمسة تجار فلسطينيين مقيمين في القاهرة أبلغوا الإدارة الأمريكية استعدادها لتولي إدارة شؤون غزة إذا تم توفير الحماية والدعم لهم و لعائلاتهم. إذ التقى أحدهم منذ شهور مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان، وناقش معه الخطة التي تقضي بتولّي شيخ من حي العطاطرة رئاسة المجلس وإدارة الأمور الخاصة بالمدارس والمستشفيات والقضايا الاجتماعية والمدنية، على أن تُدفع الرواتب والأجور والالتزامات المالية عبر بعض التبرعات من الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تمّ تجنيد جزء كبير من هذا المال لتحقيق ذلك".
سيناريوهات نجاح الخطّة
يرى الباحث في قضايا الصراع والمحاضر في الجامعة العربية الأمريكية، نزار نزال، في حديثه لرصيف22 أن "سيناريو تولي شركة أمنيّة أو قيادات عشائرية محليّة إدارة القطاع لن ينجح إطلاقاً وسيكون مصيره الفشل الحتمي".
ويدعم نزّال رؤيته هذه بلحظة تجريب سيناريو مشابه في ثمانينيّات القرن الماضي، فيما عُرف بمخطّط "روابط القرى" (لإقامة تشكيل مسلّح متعاون مع إسرائيل في الضفّة وغزّة) وقد أفشلتها في حينه انتفاضة شعبيّة عام 1981.
"وفي هذه المرة سيفشل المخطّط أيضاً، وأعزو ذلك لسببين، الأول وجود حوالي مليونيّ فلسطيني في قطاع غزة يشكّلون تحديات فيما يتعلق بالجانب الإنساني والأمني، والثاني هو وجود المقاومة الفلسطينية التي ما زالت حاضرة في المشهد الميداني والشعبي في القطاع"، يضيف نزّال.
خطّة اليوم التالي للحرب تتمثل في "عمدة" جديد و"غيتوات" في قطاع غزة. "إنها ليست غيتوات، لكنها "أحياء محمية تحيطها جدران"، يقول موتي كهانا، اليهودي الأمريكي مالك شركة (GDC) التي اختارتها الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية لتولّي توزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة
ويؤكد أنّ "أفراد هذه الشركات ستُعتبر قوّة احتلاليّة ذات تسليح "خفيف"- لن تكون لديهم طائرات أو دبابات- وسيكون من السهل استهدافهم. إسرائيل لا تزال في حيرة من أمرها في هذا الصدد نتيجة الإغراءات الأمريكيّة في مسألة حلّ الدولتين مقابل اتفاقيّات التطبيع. لكنّها تبدو مصمّمة على إعادة احتلال قطاع غزّة وإخضاعه للحكم العسكري المباشر وإقامة المستوطنات فيه. وربّما يكون خيار الشركات الأمنية محاولة لجسّ نبض الشارع".
ولا يمكن عزل ما يرمي إليه نتنياهو في غزّة عن مخطّط الضمّ في الضفّة الغربيّة، إذ يشكّل فرض السيطرة على المنطقتين واقعاً جديداً بالنسبة لإسرائيل. إذ تقول الكاتبة لانداو: "لقد تمتّع نتنياهو طوال سنوات وجوده في السلطة بنشر متعمّد للغموض، ولرسائل متناقضة باللغتين العبريّة والإنجليزيّة. لكن الواقع لا يكذب. هكذا يتمّ ضمّ أجزاء كبيرة من الضفة ببطء ودون تشريع رسميّ، بحكم الأمر الواقع. وهذا ما يحدث الآن في قطاع غزّة".
الإمارات تلعب دوراً أيضاً
تزامن الكشف عن خطّة نتنياهو، مع مقترح قدمته دولة الإمارات العربية المتحدة "لليوم التالي"، والتي تتمثل في عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة وإتمام المصالحة الفلسطينية من خلال بدء حوار بين فتح وحماس وإصدار مرسوم رئاسيّ لتشكيل حكومة تكنوقراط جديدة للسلطة الفلسطينية، وتعيين رئيس وزراء جديد وقيام السلطة الفلسطينية بإصلاحات داخلية لاستعادة ثقة الشعب الفلسطيني والشركاء الدوليين بها.
وتنصّ الخطّة على أن يضمن ذلك الاعتراف بالسلطة كهيئة حاكمة شرعية وحيدة لغزة، على أن تتولى إعادة إعمار غزة، بدعم مالي من السعودية والإمارات العربية المتحدة وجهات مانحة دولية. كما تتضمّن الخطّة في البداية وجود قوّات أمنيّة عربيّة ومرتزقة في غزّة. لكن السلطة الفلسطينية رفضت هذه الخطة مؤكدة على رفض أي دور للإمارات في قطاع غزة على اعتبار الأخيرة شأناً داخليّاً فلسطينيّاً.
يرى نزّال أنّ "إسرائيل تريد إطالة أمد الاحتلال والسيطرة المباشرة على قطاع غزة، ولا تريد عودة السلطة إليه، لأن ذلك سيوحد الكل الفلسطيني تحت سلطة واحدة. إسرائيل ماضية في تقويض السلطة الفلسطينية وتدمير أي كيان سياسي فلسطيني. لذلك لن توافق إسرائيل على توحيد جناحي الوطن تحت قيادة السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية".
من جانبه، يشير الباحث في الشأن السياسي الفلسطيني أحمد علي حسين في مركز الجزيرة للدراسات أن "الحكومة الإسرائيلية ترفض عودة السلطة الفلسطينية لتحكم غزة، وهذا الموقف يصطدم مع الموقف الأميركي الذي يعارض بقاء إسرائيل في القطاع على المدى البعيد، ومع الموقف الأوروبي الذي يؤيد عودة السلطة إلى غزة على المدى المتوسط، ومع الموقف العربي الذي يطالب بعودة السلطة الى قطاع غزة وتحقيق وحدة التمثيل السياسي الفلسطيني".
لكنّ ثمّة أسئلة جوهريّة حول الموقف الأمريكي الرافض لاحتلال القطاع، في ضوء الدعم الأمريكي الذي لا يبدو مشروطاً لإسرائيل، سيّما في حرب الإبادة الحاليّة.
يقول د. صقر الجبالي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية، لرصيف 22: "إن إسرائيل ترفض عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة بسبب عدم ثقتها بأيّ طرف فلسطينيّ، وقد تجلّى ذلك في مسيرة السلام بين الجانبين. حتى أن ياسر عرفات، الذي وقع اتفاق أوسلو، لم يجد ثقة إسرائيل وقامت باغتياله. ثمّ جعلت إسرائيل السلطة الفلسطينية بلا سلطة، ومن الضفّة احتلالاً بلا كُلفة".
السلطة الفلسطينية رفضت هذه الخطة مؤكدة على رفض أي دور للإمارات في قطاع غزة على اعتبار الأخيرة شأناً داخليّاً فلسطينيّاً
ويردف: "أصدرت الاستخبارات الإسرائيلية مذكرة تتحدث عن الخيارات التي تم التعامل بها مع قطاع غزة؛ أولاً إقامة سلطة فلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية بعد توقيع اتفاق أوسلو. لكن إسرائيل رأت أن هذه السلطة لم تقوم بواجباتها الأمنية اتجاه الإسرائيليين. ثانياً إنّ إسرائيل، وبعد أن انسحبت من قطاع غزة عام 2005 ولحقه إنشاء كيان فلسطيني في غزة- واجهت هجوم السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023. وبالتالي فإن إسرائيل لن تكرر هذا الخيار ولن تخرج من القطاع، بل تودّ تنفيذ الخيار الثالث وهو طرد الفلسطينيين بالتهجير القسري والتطهير العرقي من قطاع غزة".
رؤية السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية "لليوم التالي"
يقول محمد علوش، عضو المكتب السياسي لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، لرصيف22: "قطاع غزة جزء لا يتجزأ من أراضي دولة فلسطين والولاية القانونية للدولة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وما يقوم به الاحتلال من إجراءات ومن تهجير وتدمير وجرائم حرب وإبادة جماعية تستهدف بالأساس خلق وقائع على الأرض في خدمة للمشروع الإسرائيلي الأمريكي وبداية للمشروع المتعلق بالشرق الأوسط الجديد".
ويضيف: "عنوان رؤية الإدارة الأمريكيّة، منذ بداية الحرب، هو تغيير طابع السلطة الوطنية الفلسطينية، والنظام السياسي الفلسطيني، في ظل ما أسمته "إصلاح السلطة". وهناك نية واضحة لتشكيل وصاية دولية على قطاع غزة وزعزعة دور ومكانة السلطة، والعمل على وجود قوات دولية وعربية، واستقدام مرتزقة للقطاع، بحيث لا يكون الأمن من مسؤولية أحد من الفلسطينيين".
ويرى علّوش، من جهة أخرى، أنّ الخطّة الإماراتيّة، التي وصفها "بالخطة الأمريكية- الإسرائيلية- الإماراتية"، "تتحدث عن تشكيل لجنة لتدير شؤون قطاع غزة بشكل انتقالي، حتى تتمكن السلطة، بعد إصلاحها- من وجهة النظر الأمريكية- من إدارة شؤون القطاع والضفة".
ويستدرك: "لكن من يقرر مستقبل الشعب الفلسطيني هو الشعب الفلسطيني وقيادته الشرعية، وليس الاحتلال أو الولايات المتحدة أو أية أطراف أخرى. الأولوية اليوم هي البحث عن كل السبل والخيارات وممارسة كل الضغوط على حكومة الاحتلال الإرهابية لوقف حربها التدميرية الشاملة ووقف إطلاق النار وضمان الانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع، والبحث في مستقبل القطاع وإعادة الإعمار من خلال الحكومة الفلسطينية بالتعاون مع الأطراف الدولية المختلفة".
يؤكّد علّوش أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، قائلاً: "نرفض من حيث المبدأ أي محاولة لفرض أي لجنة أو شركة أجنبية أو جهات محلية أو عشائرية. سيكون ذلك مقدّمة لفصل القطاع عن سائر الأراضي الفلسطينية، وللقضاء على مستقبل القضيّة الفلسطينيّة، وخطوة للاستحواذ على القرار الفلسطيني والمرجعية الوطنية الفلسطينية، من خلال خلق "واقع وظيفي" يخدم سياسات وأجندات إسرائيل".
وللتذكير، فقد اجتمعت حركتا فتح وحمّاس المرّة الأخيرة- من ضمن المرّات الكثيرة التي بات يصفها كثيرون بأنّها مسلسل من تخجيل الدول المضيفة للفلسطينيين بأن ينهوا انقسامهم- في بكّين. واتفقت على نقاط أبرزها الوصول إلى وحدة فلسطينيّة شاملة تضمّ جميع الفصائل في إطار منظّمة التحرير الفلسطينيّة. لكنّ هذه الوحدة لم تتحقّق على الأرض حتّى اللحظة، أو للأدق، حتّى في أحلك لحظة يمرّ بها الشّعب الفلسطينيّ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم