شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"انتفاضة الأساقفة" في مصر... من هو "أريوس" هذه المرة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتطرف

الاثنين 28 أكتوبر 202410:55 ص

منذ  1700 عام، وقف شاب صغير لا يحمل أي رتبة كهنوتية، اسمه "أثناسيوس"، أمام كبار الأساقفة في العالم، ليدافع عن إيمان ومعتقد كنيسته الأرثوذكسية، في أول مَجمع مقدس "مَجمع نيقية"، ونجح الشاب في ما فشل فيه جميع الأكليروس الكبار طول سنوات، في مواجهة ودحض أفكار "أريوس" المهرطق حول لاهوت المسيح، وتخطت الكنيسة هذه البدعة الكبيرة بفضل هذا الشاب.

لا أعلم ما كان سيحدث للكنيسة من انشقاق وحروب، لو كان الأساقفة الكبار، والبابا وقتها، رفضوا مشاركة "أثناسيوس" في المجمع ليقول كلمته، بحجة أنه ليس عضواً في المجمع ولا يحمل رتبة كهنوتية، فهو كان مجرد "شمّاس" شاب صغير في عمر الخامسة والعشرين.

تذكرت قصة "أثناسيوس" ومجمع نيقية بعد قراءة بيان منسوب لعدد من الأساقفة المصريين الأرثوذكس، يعترضون فيه على دعوة اثنين من أساتذة اللاهوت العلمانيين لحضور سيمنار المجمع المقدس، وهو أعلى سلطة دينية للمسيحيين، المزمع عقده في تشرين الثاني/نوفمبر القادم، برئاسة البابا تواضروس الثاني. وسبب الاعتراض أن المدعوين لا يتبعان تعاليم الآباء الأوائل، ويؤمنان بفكرة "اللا طوائفية" ولا يعترفان بالطوائف المسيحية، وأحدهم كان تلميذاً للأب "متى المسكين" ويروّج لأفكاره.

ظهر بيان منسوب لعدد من الأساقفة المصريين الأرثوذكس، يعترضون فيه على دعوة اثنين من أساتذة اللاهوت العلمانيين لحضور سيمنار المجمع المقدس، وهو أعلى سلطة دينية للمسيحيين، المزمع عقده في تشرين الثاني/نوفمبر القادم

وكان البابا تواضروس قد وجه الدعوة للدكتور جوزيف موريس، أستاذ علم الآباء واللغة اليونانية بالكلية الإكلريكية، وسينوت دلوار شنودة، الباحث القبطي الكبير بمعهد تاريخ الكنيسة والأستاذ بالجامعة الأمريكية، لحضور السيمنار وإلقاء عدة محاضرات للأساقفة عن اللاهوت، وهو ما دفع 19 أسقفاً لأصدار هذا البيان للاعتراض على هذه الدعوة، في خطوة غير مسبوقة لمعارضة البابا من بعض أعضاء المجمع بشكل علني عبر وسائل الإعلام، منذ توليه كرسي البابوية عام 2012.

وعلى مدار أيام وأنا أتابع ردّ الفعل الذي أحدثه البيان في المجتمع المسيحي الأرثوذكسي، سواء بين العامة أمثالي، من المسيحيين غير المتخصّصين في علم اللاهوت، أو بين المختصين والباحثين ورجال الدين والتيار المستنير في الكنيسة. وكأن البيان كان اختبار فرز لنوايا الجميع. فبمجرّد ظهور البيان على موقع فيسبوك، انتشر بسرعة عن طريق متابعين غير معروفين الذي وصفوا البيان بـ "انتفاضة الأساقفة" لحماية الإيمان الأرثوذكسي. وهي صفحات وقنوات معروفة بمهاجمة البابا تواضروس طوال الوقت، لجان إلكترونية قائمة من أجل هذا الهدف، ومعارضة البابا في كل قراراته وتصريحاته ومواقفه منذ جلوسه على كرسي البابوية، وقد تعودنا عليها. لكن غير هؤلاء، خرج أساقفة كبار، أعضاء في المجمع المقدس، من بينهم الأنبا بنيامين، مطران المنوفية، ليكيلوا الاتهامات للأسماء المختارة للتحدّث في السيمنار السنوي للمجمع، مؤيدين البيان الصادر، وطالبوا برفع مذكرة اعتراض رسمية لسكرتارية المجمع المقدس لوقف "المهزلة" كما وصفوها. وهو ما يوضح أن هناك خلافات بين الأساقفة والبابا بشكل علني وصريح هذه المرة.

وقبل أن تزداد الأجواء سخونة جاء الرد الرسمي من الكنيسة المصرية، في بيان أصدره الأنبا رافائيل، الأسقف العام، عبر حسابه الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، أكّد فيه أن الكنيسة لا تعرف مصدر البيان المنتشر، وهذه القائمة والهدف من وراء نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، مضيفاً أنه يتم إرسال التعليقات على المتحدثين في الندوة مباشرة إلى قداسة البابا أو من خلال سكرتارية المجمع، ولا تستخدم الكنيسة وسائل التواصل الاجتماعي بهذه الطريقة، بل من خلال قنوات مشروعة للتعبير عن الرأي في المجمع المقدس، وأن البابا مهتم دائماً بسماع وجهات نظر وآراء الأساقفة.

لكن هل أنهى بيان الأنبا رافائيل الجدال القائم حول السيمنار القادم للمجمع المقدس، والصراع الدائر من "تحت الطاولة" بين الأساقفة أعضاء المجمع، والمؤامرات التي تدار بين تيارين أحدهما مع البابا والأخر ضده، ويظهر ذلك للعيان في مناسبات كثيرة؟ بالطبع لا. ربما كان بيان الأسقف العام، الرجل الحكيم، ما هو إلا محاولة لوقف الجدال والنقاش في أمر السيمنار القادم وضيوفه، لكنه لا يمكن أن يخفى على أحد من المسيحيين أن هناك تياراً رجعياً معارضاً للبابا تواضروس منذ توليه كرسي البابوية في 2012، ويزداد هذا التيار قوة وخطورة على الكنيسة يوماً بعد يوم، اليوم بسبب ضيوف السيمنار، وصداقته وثقته في سينوت دلوار، أحد تلامذة الأب الراحل العلامة متى المسكين، وأمس لمحاولات البابا التقارب مع الطوائف الأخرى، وانفتاحه على الأفكار المختلفة، وإشراك التيار العلماني المسيحي، من اللاهوتيين وأساتذة التاريخ القبطي، في الملف الكنسي، ودعواته المستمرة لنبذ الخلافات والاتحاد، ما يثير غضب التيار الأرثوذكسي المتشدّد الذي لا يمانع من استخدام وسائل التعنيف والتهديد لتوصيل رسائله، وحتى استخدام العنف للقضاء على المعارضين، ولا يمكن للتاريخ أن ينسى جريمة مقتل الأب "أبيفانيوس"، رئيس دير أبو مقار السابق، على يد أحد رهبان الدير لنفس السبب.

البابا تواضروس الثاني في مأزق كبير، فهو من جانب مطالب أن يتخذ موقفاً صارماً مع محاولات النيل من خطوات الإصلاح الكنسي ومن قيادته للكنيسة، في نفس الوقت الذي يجب عليه فيه كربان للسفينة أن يرسو بها وبركابها إلى بر الأمان بسلامة، في وسط ظروف صعبة وتوغل الأفكار السلفية المسيحية بين عامة الأقباط في مصر

 المدهش أن بعض الأساقفة الذين اعترضوا في البيان الذي أحدث الضجة قام بسيامتهم واختيارهم البابا تواضروس بنفسه، مثل الأنبا أبانوب، أسقف المقطم، والأنبا زوسيما والأنبا صليب، لكن ليس غريباً أن يكون من ضمن التسعة عشر أسقفاً، الموقعين على البيان، الأنبا بنيامين الذي تسبّب في حبس مهندس شاب مسيحي من رعيته بسبب خلاف معه في وجهات النظر، وقيامه بإبلاغ الأمن الوطني عن الشاب، وكذلك الأنبا بولا الذي كان سبباً في تعطيل قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين، ورفض مدنية الدولة في دستور 2014، والأنبا أغاثون المتعاطف مع قتلة الأنبا أبيفانويس، وغيرهم ممن لا تختلف كثيراً مواقفهم عنهم. فمثل هؤلاء الأساقفة وغيرهم يعتبرون أنفسهم مثل تلاميذ ورسل المسيح، نزلت ألسنة نار الروح القدس في أجسادهم وعقولهم ولا ينقون سوى الحق والإيمان القويم دون غيرهم. و لا يعيرون أي اهتمام للرأي الآخر ولا يؤمنون بالنقاش والحوار، ويعتبرون التيار العلماني المسيحي مجموعة من المنحرفين عن الدين الصحيح، ولا يستحقون الدخول إلى الكنيسة لا النقاش معهم في اللاهوت.

كل ذلك يضع البابا تواضروس الثاني في مأزق كبير هذه المرة، فهو من جانب مطالب أن يتخذ موقفاً صارماً مع محاولات النيل من خطوات الإصلاح الكنسي ومن قيادته للكنيسة، في نفس الوقت الذي يجب عليه فيه كربان للسفينة أن يرسو بها وبركابها إلى بر الأمان بسلامة، في وسط ظروف صعبة وتوغل الأفكار السلفية المسيحية بين عامة الأقباط في مصر، ما يؤجج صراع الطائفية بين الطوائف المسيحية المختلفة، في مجتمع يعاني الطائفية من الدولة والأغلبية المسلمة في الأساس. ما يجعلنا نتخوف من احتدام الأمر لصراع طائفي مسيحي في مصر على غرار صراع السنة والشيعة في الوطن العربي. أو لا قدّر الله، ما تشهده الدول المحيطة من صراعات طائفية أدت إلى الانجرار وراء مساع شخصية جداً لجماعة بعينها، ونسيان المطالب الجماعية لشعب مطحون على كل المستويات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

جميعنا عانينا. عانينا كثيراً، ولا نزال نعاني، من انتشار الجماعات المتطرفة والأفكار المتطرفة، ولذلك نحرص في رصيف22 على التصدي لها وتفكيك خطاباتها، ولكن نحرص أيضاً، وبشدّة، على عدم الانجرار إلى "شرعنة" ممارسات الأنظمة التسلطية، لأن الاستبداد أحد أسباب ظاهرة التطرّف، ولا يمكن التصدي لها بمزيد من الاستبداد. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image