مشهد علوي للقاهرة القديمة، منوّرة بالطبع، مشهد مشابه للطرق السريعة الجديدة الزاهية... كم تبدين يا مدينتي مرحة وغنية...
القاهرة التي كانت لا تنام، تظلم شوارعها القديمة لإغلاق المحال منذ العاشرة مساء، طبقاً لقرار حكومي بتخفيف أحمال الكهرباء، ويفلت من القرار بعض المقاهي وميادين الأحياء الشعبية، أما الطرق السريعة فأغلبها مظلم وبلا خدمات، وبقع مناسبة لخطف النساء من سيارات الأجرة الذكية.
يستقي وزراء مصر معلوماتهم عن بلادهم من ChatGPT الذي أبلغهم بتحسّن مستوى جودة الحياة في البلاد، بينما يخفي الوزير وحكومته التقارير السنوية للجهاز المركزي للمحاسبات منذ عامين عن معدلات الفقر والبطالة. لا يعرف ChatGPT ذلك بكل تأكيد.
طائرات الدرون ترسم شكل الفقاعة، تنطلق في مسعاها لتصوير الإنجازات التي لا يراها المواطن المصري في صدماته اليومية، وربما يراها فقط على شاشة التلفزيونات المختلفة والمملوكة حصراً لشركة المتحدة التابعة لأجهزة المخابرات المصرية.
ماذا لوا تحرّرت هذه الكاميرا من المشاهد الواسعة أو " اللونجات" وبدأت مرحلة التقريب أو "الكلوز أب"؟
العدسة تقترب من طريق لا تحبّه كاميرات المتحدة، للتغيير على سبيل المثال، طريق الأتوستراد أو طريق "النصر"، الذي يلفّ المدينة القديمة من ظهيرها، حينما كان لها ظهير واحد فقط، وينتهي بها على مشارف الجنوب حيث يبدأ طريق الصعيد. على جوانب هذا الطريق، توجد حيوات لعشرات من الأحياء الفقيرة وبعضها أحياء معدمة. سترصد العدسة المقربة من يهيمون على وجوههم صباح كل يوم لإيجاد قوت اليوم، والغالبية تعمل بالمهن الحرّة، بلا نظام تأمين أو راتب شهري، ما يطلقون عليهم في بلادنا " أرزقية".
هؤلاء هم نبض حي للتقلّبات الاقتصادية، نراهم في كل الأحوال، في المواصلات العامة، أثناء المرور بالسيارة، سوف نراهم وتتوغل ملامحهم في ذاكرتك للأبد، وتدرك بعض الحقائق المباشرة عن فقر الوجوه، والجوع لأغلب العناصر الغذائية. ندرك سريعاً مستوى معيشتهم الذي تدهور أمام عيوننا جميعاً. لقد سقط الملايين من السلم الاجتماعي فجأة، قوة باطشة دفعت بهم إلى طريق سريع، مجرّدين من كل سبل الحماية الاجتماعية وكل عناصر الأمان. يُقال لهم منذ تولى الحكم: "تحمّلوا من أجل بناء البلد، واعطوني مهلة"، ثم حصل على عقد كامل من التصرّف بمقدرات المصريين ومواردهم ومستقبلهم، وفى النهاية يعايرنا بفقرنا.
يستقي وزراء مصر معلوماتهم عن بلادهم من ChatGPT الذي أبلغهم بتحسّن مستوى جودة الحياة في البلاد، بينما يخفي الوزير وحكومته التقارير السنوية للجهاز المركزي للمحاسبات منذ عامين عن معدلات الفقر والبطالة
يريد أن يبني البلد من تجويع ملايين من مواطني البلد ذاتها، لكن البلاد التي تُبنى من الجوع، هي البلاد المستبدة الكافرة بالعدل والحقوق. يريد أن يلجم الناس أنفسهم عن شراء كيلو من اللحم في الشهر وصل سعره إلى 500 جنيه، ما يعادل 10 دولار، ولا يستطيع أن يلجم رغبته المحتدمة في بناء صروح للحكم بمليارات الدولارات، متنقلاً بين قصور شتوية وقصور صيفية، تحمل اسمه وسمات عصره، يعيش فيها مع حاشية حكمه وطبقة الأثرياء المتوحشين، لإدارة شؤون البلد الجائع أهله.
الجوع المرئي والأرقام المدفونة
عشنا على أسطورة مصرية أن "محدش بينام من غير عشا"، تقال للتهوين والثقة أن الله لن يترك عباده الجوعى، ولن يترك الجيران أو المعارف جوعى في الحى دون دعم، ولكن ماذا إذا كان الحي كله يواجه نفس المأساة؟
أقصد الجوعى، لا أقصد من اضطرّوا لضغط النفقات وتقليل السفر وبعض البنود المعيشية التي تحسّن من جودة الحياة في بلاد خانقة، هؤلاء أيضاً سقطوا، ونحن منهم - طبقات المهنيين- ولكن الحديث هنا عن المهدّدين بعدم إيجاد الخدمات والسلع الأساسية، المحرومين، المكبلين، الجوعى، من مكثوا في الفقر طويلاً ثم سقطوا تحت خطه ودهسهم جميعاً في لحظة واحدة، مثل لحظة فقدان الجنيه نصف قيمته في ضربة التعويم الأخير.
جحافل " الأرزقية" يقدر عدّدهم ما بين 8- 13 مليون عامل وهذا الرقم المخيف، يخرج يومياً، باحثاً عن قوت يومه وخلفه ملايين أخرى تنتظر، وهو ما يصل بنا إلى عدد الملايين المتوقعة من الجوعى، وهو قرابة 30 مليون، كان هذا آخر رقم رسمي منشور منذ 4 سنوات، وقبل الضربات الأخيرة، ما يعني زيادتهم بشكل يفوق قدرة الجهاز الحكومي على نشر الأرقام! الدولة ترفض كشف الرقم المهول، ولكننا نراهم، ولا تراهم كل كاميرات درون شركة المتحدة. يا للعجب، هذه الطائرات لا ترى الأرض لأن الأرض بمن عليها ليست في أولويات عدسات النظام السياسي في مصر. ليت الدعاية المكثّفة تغسل عقول الناس وتريحهم من كوابيس مصروفات المدارس، الإيجارات المخيفة، أو أسعار السلع التي ترتفع يومياً في مصر، دون رقابة حكومية أو حتى بقاء جزء من الدعم للخبز والسلع الرئيسية. الأولوية هنا للدعاية والفخر ببناء الكباري والطرق لخدمة تنمية لا تحدث ولا تصل للمواطن المصري.
صرنا نسأل بعضنا في حرج، عن زيادة ملحوظة في عدد و أنواع الشحاذين في القاهرة القديمة ونظيرتها الحديثة المترامية.
فحول المقاهي والمطاعم في الأحياء والمدن الجديدة، مثل أحياء التجمّع الخامس أو احياء أكتوبر، وهي أماكن يتردّد عليها أبناء الطبقة الوسطى، يسرح شحاذون من نوع جديد، يلاحظ أنهم جدد في عملية التسول، بل إن بعضهم لا يملك الأدوات أو الطرق المعتادة للمطاردة أو طلب المال، ملابسهم غير رثة، وجوههم محرجة وخجولة دائماً، من الواضح أنهم انضموا حديثا لهذا المعترك، بعضهم ينظر لنا فقط بصمت، والبعض الآخر يقول كلمات غير مفهومة.
فقط، بشر يواجهون قلة العمل، رعب الفقر ، يواجهوننا برعبنا أيضاً. إن العوز الذي يصل لحد الجوع، جوعه الشخصي أو جوع الأسرة التي يخرج من أجلها، هو الذي أخرجه من بيته، هو الذي دفعه لعرض بؤسه على المارة. ألم جماعي لطبقة كانت من سنوات قليلة، بالكاد مستورة، تسدّ احتياجاتها وتأكل، صارت الآن في وضع عار تماماً، بعدما خطفت منهم دولة العسكر كل فرص النمو أو حتى النجاة، سرقت الحرية ثم العيش.
الدولة تستمر في الأداء الاحتفالي، تنفق الأموال للدعاية، تفتخر شركة المتحدة، ديناصور الإعلام الوحيد، بأنها نظمت 250 حفلة وفعالية خلال الفترة الماضية، السؤال: من يحضر كل هذه الاحتفالات؟
الشحاذون على الطرق السريعة أمر آخر، فبعد محاولات مستمرّة لتفريغ وسط المدينة من الفقراء وإزاحتهم إلى نقاط بعيدة عن المدينة، كما حدث مع سكان مثلث ماسبيرو أو سكان سور مجرى العيون، كان النظام يتصوّر اختفاءهم من الوجود بفقرهم، ولكن الفقر الذي كان مختبئاً في حارات بولاق وخلف السور، هدمت فوقه المنازل القديمة لتخرج أبراج مكانها تباع الآن بملايين.
هجّرت الدولة قرابة 2 مليون شخص من القاهرة خلال السنوات الماضية، أغلب سكان هذه المناطق، كانوا "أرزقية" يخرجون في أحيائهم يبحثوا عن عمل اليوم. لم يعد هناك حي يعرفونه، ولم يعد هناك مجال لأعمال حرفية يقومون بها للمعارف والجيران. الآن يجلس أغلبهم عاطلين عن العمل، غرباء على أرض لا تمنحهم شيء، فقدوا شبكة علاقات اجتماعية كانت توفر لهم جزءاً من حماية اقتصادية، نراهم يحملون بؤسهم بجوار الإنجازات الجديدة، يحترف بعضهم التسول على الطرق السريعة الفاخرة، فلم يترك لهم النظام سواه.
الفحش الواقع والجوع القادم
لا تتوقف آلة الطحن اليومية. البلاد أنفقت نصف موازنة العام الماضي، و ثلث الموازنة الحالية، في تسديد الديون التي ينفّذ منها "العاصمة الجديدة" والقصور والأبراج الأيقونية وكل المشروعات الباذخة. العملة تواصل سقوطها على نفس المنحدر، التعثر سوف يستمر، وبالتالي السلع الرئيسية في زيادة يومية، وهذا يعني انضمام جحافل جديدة فوق مذبح الفقر، وبشكل يومي.
عجلة التدهور التي لا تتوقف عن الدوران، تفسرها الدكتورة علياء المهدي، بأنّ شريحة الأكثر فقراً من السكان، هي الشريحة الأكثر إنفاقاً (بالنسبة لمستوى الدخل) على السلع الغذائية، وعليه، بحسب المهدي، فإنّ "أي ارتفاع في أسعار السلع الغذائية في مصر، هو أشد وطأة وتأثيراً على الأكثر فقراً".
يريد أن يبني البلد من تجويع ملايين من مواطني البلد ذاتها، لكن البلاد التي تُبنى من الجوع، هي البلاد المستبدّة الكافرة بالعدل والحقوق. يريد أن يلجم الناس أنفسهم عن شراء كيلو من اللحم في الشهر، ولا يستطيع أن يلجم رغبته المحتدمة في بناء صروح للحكم بمليارات الدولارات
الدولة تستمر في الأداء الاحتفالي، تنفق الأموال للدعاية، تفتخر شركة المتحدة، ديناصور الإعلام الوحيد، بأنها نظمت 250 حفلة وفعالية خلال الفترة الماضية، السؤال: من يحضر كل هذه الاحتفالات؟
هذه الاحتفالات ظهرت في البلاد مع موجة من الثراء المخيف، وبدأت مع دخول المطورين الخليجيين السوق المصرية للاستثمار على السواحل. مستوى من الإنفاق والبذخ لم تعرفه مصر خلال أشرس عهودها في الانفتاح الاقتصادي. ظهرت مقاطعات مصرية حديثة النشأة والتكوين، وصل سعر العقارات فيها أرقام تفوق أوروبا والولايات المتحدة، ولهذا يفرق العامة بينها وبين بلادنا التي نعرفها، يقولون عليها الآن "إيجبت" وليس مصر.
بفضل تراكم المليارات مع مجتمع النصف في المائة، الذي يعيش متجولاً بين مدنه المسوّرة في القاهرة الجديدة و مدن الساحل الشمالي والعالمين. هذه الطبقة التي تمّ تسمينها بعنف خلال العقد الأخير وصارت محظية لدى النظام وحليفة له، حتى حين قرّر قطع النور عن ملايين المصريين لتخفيف أحمال الكهرباء التي شهدت أزمات متتالية، لم يعاملهم مثل باقي عموم المصريين، وخرج الحكومة تعلن أنه تم استثناء كل قلاع الأثرياء على السواحل، وتركت المدينة القديمة تغرق في الظلام.
هذا التفاوت الشرس بين سكان العاصمة القديمة، والمدن الجديدة التي يدعم النظام إنشاءها وتسمينها كشعب بديل، ظهير سياسي واجتماعي له ومعبر عنه، يدفعنا جميعاً إلى نقطة واحدة: الخوف من الفجوة الهائلة، وشكل الجوع القادم.
حولنا جوع يتصاعد، وأمامنا خطاب سياسي مهين ومسدود الأفق. لنا أن نتصوّر حين يخرج الرئيس قائلاً: "لو كان تمن الازهار والتقدم إننا مناكلش، ومنشربش، يبقي مناكلش ومنشربش". كان يقولها في أوج أزمة الدولار وانهيار مدخرات الملايين، وسط انضمام قطاعات واسعة من مواطنين هذا البلد لطوابير الجوعى، فلا حديث عن تغيير السياسات التي أدت للاقتراض وتزايد الفقر، المهم بناء الملك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...