شهد التاريخ الإسلامي صراعاً لا يهدأ على السلطة. دافع الحكام والسلاطين عن نفوذهم وسطوتهم بشتى الطرق، فيما أشعل المعارضون العشرات من الثورات شرقاً وغرباً. في هذا السياق، نجح العديد من المعارضين في الوصول إلى سدة الحكم، وسرعان ما تناسوا ماضيهم الثوري القديم ليؤسسوا لأسر حاكمة جديدة. في الكثير من الحالات، انقلب الحكّام الجدد على بعض مساعديهم الذين لعبوا أدواراً مؤثرةً في نجاح الثورة. نلقي الضوء في هذا المقال على بعض أشهر الثوار الذين راحوا ضحايا لثوراتهم الناجحة.
الخلال وابن كثير وأبو مسلم الخراساني... ضحايا الثورة العباسية
مطلع ثلاثينيات القرن الثاني الهجري، تمكّن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، من حشد الآلاف من الثوار الناقمين على الحكم الأموي في خراسان. قبض الأمويون على إبراهيم، وزجّوا به في السجن، واندلعت الثورة العباسية في سنة 132هـ. تؤكد المصادر الإسلامية أن هناك بعض الشخصيات التي لعبت أدواراً مؤثرةً في تلك الثورة. من أهم تلك الشخصيات كلّ من أبي سلمة الخلال، وسليمان بن كثير، وأبي مسلم الخراساني.
يتحدث ابن الأثير الجزري، المتوفى سنة 630هـ، في كتابه "الكامل في التاريخ"، عن الدور المهم الذي لعبه الخلال في الثورة، وأنه كان حلقة الوصل بين الثوار في خراسان ومركز قيادة الثورة العباسية في الحُميمة، التي تقع في بلاد الشام. يذكر ابن الأثير، أن أبا سلمة وصل إلى مكانة عظيمة بين الثوار حتى عُرف بينهم بلقب "وزير آل محمد".
شهد التاريخ الإسلامي صراعاً لا يهدأ على السلطة. نجح العديد من المعارضين في الوصول إلى سدة الحكم، وسرعان ما تناسوا ماضيهم الثوري القديم ليؤسسوا لأسر حاكمة جديدة. في الكثير من الحالات، انقلب الحكّام الجدد على بعض مساعديهم الذين لعبوا أدواراً مؤثرةً في نجاح الثورة. إليكم بعض أشهر الثوار الذين راحوا ضحايا ثوراتهم الناجحة
لمّا قبض الأمويون على إبراهيم الإمام، وجاء كلّ من أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور -أخوي إبراهيم- إلى الكوفة، مال أبو سلمة الخلال إلى صرف أمر الخلافة إلى أبناء علي بن أبي طالب، وأرسل لبعض العلويين في المدينة المنورة عارضاً عليهم الحكم. لم ينسَ السفاح ذلك الأمر بعد أن اعتلى كرسي الخلافة، فأرسل لأبي مسلم الخراساني آمراً إياه بقتل الخلال، وصدع الخراساني بالأمر من فوره. ولقي سليمان بن كثير الخزاعي، الذي كان نقيباً لبني العباس في خراسان، المصير نفسه، إذ قام أبو مسلم بقتله سنة 132هـ، بعد فترة قصيرة من قتل الخلال.
توفي أبو العباس السفاح، في 136هـ، وخلفه أبو جعفر المنصور على كرسي الخلافة. عرف المنصور أن القوة الحقيقة في الدولة بيد أبي مسلم الخراساني، وتيقّن من حتمية التخلص منه. يذكر ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310هـ، في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"، أن المنصور استدعى الخراساني للمثول بين يديه، وحين قدم أبو مسلم عاتبه الخليفة على بعض الأمور، وبعدها دخلت مجموعة من الحراس وانهالوا على الخراساني بسيوفهم وخناجرهم فلم يتركوه إلا جثةً هامدةً. بقتل أبي مسلم الخراساني، تخلّص المنصور من آخر مراكز القوى الثورية في دولته وفرض سلطانه على الجميع.
الفضل بن سهل... الفارسي الذي بنى دولة المأمون
توفي الخليفة العباسي هارون الرشيد سنة 193هـ. بوفاته، اشتعلت الحرب بين ابنيه محمد الأمين وعبد الله المأمون. كان الأمين مؤيَّداً من قِبل أخواله العرب، بينما استند المأمون إلى قوة أقاربه من الفرس. شهدت هذه الحرب ظهور شخصية الفضل بن سهل السرخسي، الذي يتحدث عنه جرجي زيدان، في كتابه "الأمين والمأمون"، فيقول: "كان الفضل بن سهل من سرخس، وقد نشأ مجوسيّاً ودرس علم النجوم ثم أدخله يحيى البرمكي في خدمة الدولة في أيام الرشيد...".
تولّى الفضل مهمة رعاية المأمون منذ صغره، وعمل على تأهيله ليصبح جديراً بمنصب الخلافة بعد أبيه. عرف الفضل أن المأمون هو بوابته نحو السلطة التي لطالما حلم بها. يظهر ذلك في ما نقله عنه ابن الطقطقي، المتوفى سنة 709هـ، في كتابه الفخري في الآداب السلطانية: "والله ما صحبته -يقصد الخليفة المأمون- لأكتسب منه مالاً قلَّ أو جلَّ، ولكني صحبته ليمضي حكم خاتمي هذا في الشرق والغرب".
تؤكد المصادر التاريخية أن الفضل بن سهل، أشعل نيران الخصام والفتنة بين معسكرَي الأخوين، وأنه حرّض المأمون على القتال والحرب. كما أنه أعدّ جيشاً عظيماً للاستيلاء على بغداد. يمكن القول إن ما فعله الفضل بن سهل كان بمثابة ثورة فارسية حقيقية داخل الدولة العباسية. نجحت تلك الثورة بعد أن قُتل الأمين وبويع المأمون بالخلافة، ونقل عاصمته إلى مدينة مرو في خراسان، وحقق الفضل هدفه بعد أن تولّى الوزارة وسمّاه المأمون بـ"ذي الرئاستين"، في إشارة إلى نفوذه القوي داخل الدولة.
تؤكد المصادر التاريخية أن الفضل بن سهل، أشعل نيران الخصام والفتنة بين معسكرَي الأخوين، وأنه حرّض المأمون على القتال والحرب. كما أنه أعدّ جيشاً عظيماً للاستيلاء على بغداد. يمكن القول إن ما فعله الفضل بن سهل كان بمثابة ثورة فارسية حقيقية داخل الدولة العباسية. نجحت تلك الثورة بعد أن قُتل الأمين وبويع المأمون بالخلافة
أُسدل الستار على قصة الفضل بن سهل أخيراً في سنة 202هـ. عرف المأمون أن العباسيين -الناقمين على قربه من الفرس والعلويين- اختاروا خليفةً جديداً بدلاً منه، وأيقن عندها بضرورة العودة إلى بغداد، وخطط للتخلص من الفضل بن سهل، للتقرب من بني العباس. يقول شمس الدين الذهبي المتوفى سنة 748هـ، في كتابه "سير أعلام النبلاء": "وازدادت رفعته -أي الفضل- حتى ثقل أمره على المأمون، فدسّ عليه خاله غالباً الأسود في جماعة، فقتلوه... وأظهر المأمون حزناً لمصرعه، وعزّى والدته...".
أبو عبد الله الشيعي... مفجّر الثورة الفاطمية في المغرب
عمل أئمة الشيعة الإسماعيلية على نشر مذهبهم في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي منذ أواخر القرن الثاني للهجرة. في أواخر القرن الثالث الهجري، وصل الداعية الإسماعيلي المعروف بأبي عبد الله الشيعي إلى شمال أفريقيا، وتمكّن من نشر المذهب الإسماعيلي بين الكثير من الأمازيغ. يقول عبد الرحمن بن خلدون، المتوفى سنة 808هـ في تاريخه: "...واجتمـع إليه -أي إلى أبي عبد الله الشيعي- الكثير من أهل كتامة، ولقي علماءهـم، واشتمل عليه الكثير من أهوائهم، فجاهر بمذهبه وأعلن بإمامة أهل البيت ودعا للرضا من آل محمـد. واتّبعه أكثر كتامة...".
لمّا تيقّن أبو عبد الله، من انقياد أهل كتامة له، أرسل إلى الإمام الإسماعيلي عُبيد الله المهدي، في مدينة السلمية في بلاد الشام، وطلب منه الحضور لاستلام الحكم والسلطة. سارع المهدي في السفر إلى المغرب، ولكن قبض عليه أمراء بني مدرار وحبسوه في مدينة سجلماسة الواقعة جنوبي الأطلس الكبير. جمع أبو عبد الله الجيش، وتحرك إلى سجلماسة، وتمكّن من إنقاذ الإمام وسلّمه السلطة بعدها. يقول ابن خلدون واصفاً تلك الأحداث: "...وبايع للمهدي ومشى للمهدي ومشى مع رؤسـاء القبائل بين أيديهم وهو يبكي من الفرح ويقول: هذا مولاكم حتى أنزله بالمخيم... وأقاموا بسجلماسة أربعين يوماً ثم ارتحلوا إلى إفريقية... وسلم الشيعي ما كان بها من الأموال للمهدي. ثـم نزلـوا رقادة في ربيع سبع وتسعين وحضر أهل القيروان وبويع للمهدي البيعة العامة واستقام أمـره وبث دعاته في الناس فأجابوا إلا قليلاً...".
يذكر ابن خلكان، المتوفى سنة 681هـ، في كتابه "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان"، أن أبا العباس أحمد -الأخ الأكبر لأبي عبد الله الشيعي- لام أخاه على ما فعل من تسليمه السلطة للمهدي، وقال له: "تكون أنت صاحب البلاد والمستقل بأمورها وتسلّمها إلى غيرك وتبقى من جملة الأتباع؟!"، فندم أبو عبد الله على ما صنع وأضمر الغدر. لمّا شعر المهدي بنية الأخوين على الغدر، "دسّ عليهما من قتلهما في ساعة واحدة، وذلك في منتصف جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين بمدينة رقادة...". تؤكد العديد من المصادر أن عُبيد الله المهدي أظهر الحزن على أبي عبد الله الشيعي، وأنه كثيراً ما ذكره بالخير وترحّم عليه بعد مقتله!
أبو بكر بن عمر اللمتوني... الأمير المرابطي المُبعَد عن السلطة
شهدت النماذج السابقة مقاتل بعض زعماء الثورات، بعد أن لعبوا أدواراً مهمةً في إنجاحها. في هذا النموذج، الحركة المرابطية في بلاد المغرب، تعرّض الزعيم للتهميش والتحقير بعد أن سُلبت منه السلطة، لينزوي بعيداً شريداً عن الثورة التي أسهم في صناعة مجدها يوماً ما.
شهدت النماذج السابقة مقاتل بعض زعماء الثورات، بعد أن لعبوا أدواراً مهمةً في إنجاحها. في هذا النموذج تعرّض الزعيم للتهميش والتحقير بعد أن سُلبت منه السلطة، لينزوي بعيداً شريداً عن الثورة التي أسهم في صناعة مجدها يوماً ما
ظهرت الحركة المرابطية في بلاد المغرب في أواخر النصف الأول من القرن الخامس الهجري. تمكّن الشيخ عبد الله بن ياسين الجزولي، من جمع الأنصار والأتباع من قبائل لمتونة وجدالة ومسوفة، وسماهم بالمرابطين، وأعلن الجهاد ضد جميع القبائل التي لم تلتزم باتّباع الدين والشرع.
يذكر المؤرخ أحمد بن خالد الناصري، في كتابه "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى"، أنه لمّا توفي الأمير يحيى بن عمر اللمتوني -أول أمراء المرابطين- فإن عبد الله بن ياسين عيّن مكانه "أخاه أبا بكر بن عمر وذلك في محرم سنة ثمانٍ وأربعين وأربعمائة، وقلّده أمر الحرب والجهاد...".
لعب أبو بكر بن عمر، دوراً مهماً في سبيل تقوية الحركة بعد وفاة عبد الله بن ياسين. يذكر الناصري أن أبا بكر زحف على برغواطة وحاربهم "فأثخن فيهم قتلاً وسبياً حتى تفرّقوا في المكامن والغياض، واستأصل شأفتهم، وأسلم الباقون إسلاماً جديداً... وجمع غنائمهم وقسّمها بين المرابطين وعاد إلى مدينة أغمات".
يذكر المؤرخون أن أبا بكر، بقي في أغمات لفترة، عرف بعدها بوقوع الاضطراب في المناطق الجنوبية من دولته، فسلّم سلطته إلى ابن عمه يوسف بن تاشفين، وتوجّه بجزء من جيشه إلى الصحراء الجنوبية لضبط أحوالها. أنهى أبو بكر مهمته بعد بضع سنين، وعاد مرةً أخرى إلى المغرب فوجد "يوسف بن تاشفين وقد استفحل أمره أيضاً بالمغرب واستولى على أكثر بلاده...". يذكر الناصري، أن أبا بكر لمّا اقترب من المغرب "خرج إليه يوسف بن تاشفين فلقيه على بعد، وسلم عليه وهو راكب سلاماً مختصراً، ولم ينزل له ولا تأدّب معه الأدب المعتاد. فنظر أبو بكر إلى كثرة جيوشه فقال له: يا يوسف ما تصنع بهذه الجيوش؟ قال أستعين بها على من خالفني، فارتاب أبو بكر به...". أيقن أبو بكر أن يوسف لن يُرجع إليه الحكم مرةً أخرى، فآثر أن يعود إلى الصحراء من جديد. واستكمل حروبه هناك حتى مات في إحدى المعارك سنة 480هـ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed -
منذ 5 ساعاتسلام
رزان عبدالله -
منذ 15 ساعةمبدع
أحمد لمحضر -
منذ يومينلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامرائع