حينما نكتب عن الفرق والمذاهب تاريخيًا أو نتطرق إلى الحديث عن أفكارها، فإننا نتيقن من دخول معركة تتصدرها الأيديولوجيا في المقام الأول، فضلًا عن الغموض الذي يكتنف تلك المذاهب خصوصًا فيما يتعلق بتفاصيلها، تلك الصعوبة تكمن في منهجية التعامل مع إشكالية كهذه من ناحية، وكيفية طرح تلك القضايا الشائكة في أطرها التاريخية الواقعية على أرضيتها الاجتماعية من ناحية أخرى، ومن ثم إيجاد التخريجات والتفسيرات الصحيحة المتسمة بالعمق، الأمر الذي يفضي إلى إدراك الوعي عند الجماهير التي تئن تحت وطأة التعصب المذهبي، علاًوة على صعوبة سبر أغوارها من الناحية المعرفية لتفاصيلها وعقائدها شديدة التشابك من ناحية، ومن ناحية أخرى غياب العمق في تحليل تلك القضية التراثية الشائكة، والاكتفاء بتخريجات سطحية تتسم باللاتاريخية تقوم على أيديولوجيا نعرات التعصب الطائفي والتشنجات المصاحبة للتعبير عن رأي صاحبها، والتي جعلته منافحًا عن أفكار مذهبه سواء سنيًا أو شيعيًا إماميًا– درزيًا –علويًا –زيديًا.
عند كتابتي لهذا المقال توخيت غايتين أساسيتين:
الأولى، معرفية متعلقة بغموض الموضوع برغم كثرة ما كُتب بصدده، ذلك أن معظم الكتابات التي اٌنجزت، قد كُتبت من منظور أيديولوجي، فضلًا عن الأهواء السياسية التي لعبت دورًا واضحًا في تزييف الوعي التاريخي.
أما الغاية الثانية، تستهدف وعي الجماهير بالدرجة الأولى، من حيث إبراز دور الطائفية في مجتمعنا العربي الراهن، إذ جرى تكريسها في إثارة البغضاء والكراهية بين الشعوب، بالإضافة إلى تمزيق الوحدة الوطنية داخل الدولة الواحدة إلى حد سفك وإراقة الدماء بل واستباحة قتل الآخر تحت مظلة الدين.
بالرغم من الاعتراف والشهادة بأن ذلك كان مواكبًا لحركة فكرية صاعدة من قِبَل كتاب ومفكرين مناهضين للعنصرية والطائفية المذهبية، تصدوا للعداء التاريخي بين السنة والشيعة، ذلك العداء المستند إلى تنظيرات كتب السلف الطالح الصفراء التي دُبجت في عصور مختلفة.
قراءة في تاريخ القرامطة لإبراز دور الطائفية في مجتمعنا العربي الراهن، إذ جرى تكريسها في إثارة البغضاء والكراهية بين الشعوب، بالإضافة إلى تمزيق الوحدة الوطنية داخل الدولة الواحدة إلى حد سفك وإراقة الدماء بل واستباحة قتل الآخر تحت مظلة الدين
هبات لرياح الثورة
كانت البداية منذ القرن الثالث الهجري الذي شهد تدهور وانحطاط الخلًفة العباسية ودخولها في نمط الإقطاع العسكري على حد وصف بطروشوفسكي، خصوصًا بعد أن أصبحت الخلافة سلطة شكلية ضعيفة مهترئة، متفككة الأوصال إلى دويلات شبه مستقلة في المشرق والمغرب الإسلامي، سيادة الاقتصاد المتداخل الزراعي–التجاري قد جعل الكادحين من المهمشين عمال وفلاحين يرزحون تحت نير العبودية وسخرة الإقطاعيين من الولاة وكبار الملاك، هذا التناقض في الصراع الطبقي من الطبيعي –تاريخيًا– أن يؤدي إلى تغيير كيفي على الصعيد المجتمعي، حيث كانت الجماهير طموحة إلى التغيير لكن تشكيلتها الهجينية التي ضمت عمال وحرفيين وفلاحين وصغار البورجوازيين (صغارالملاك)، قد افتقروا إلى التنظيم والأيديولوجيا المحركة اللازمة لنجاح الانتفاضة الثورية، بالرغم من تضمين الصراع الطبقي في انتفاضتهم، الأمر الذي جعلهم يقومون بهبات ثورية عفوية بلا تنظيم أو قيادة واعية ضد سلطة الخلافة الإقطاعية، مضامينها طبقية في المقام الأول، لكن افتقار الجماهير الكادحة إلى الوعي وجهل غالبيتهم، جعل هباتهم العفوية مآلها القمع والإخماد بضراوة من قِبَل السلطة الإقطاعية العسكرية.
بدايات الأيديولوجيا عند الاسماعيلية
بيد أن دور الأيديولوجيا محوري جداً –إبَّان تلك العصور التي سيطر عليها الدين كبناء فوقي ومسوغ للسلطات الجائرة– في تحريك وقيادة انتفاضات المقهورين، فظهور نموذج الشيعة الاسماعيلية كان متماهيًا تمامًا مع تلك الفكرة، فمنذ إعلان نجاح دعوة الشيعة الاسماعيلية تحولت إلى ثورة ثم إلى دولة تمثلت في الدولة الفاطمية التي قامت في بلاد المغرب عام 297هــ/909م.
والاسماعيلية هي إحدى فرق الشيعة التي كتبت تاريخًا عريضًا في قيادتها لثورات وانتفاضات شعبية واسعة ضد سلطة الخلافة العباسية إبَّان عصور الإقطاع، قوام دعوتهم أيديولوجيًا معتمد على فكرة الإمامة –التي لها دلالة سياسية– ذلك أن نسبتهم ترجع إلى الإمام السابع اسماعيل بن جعفر الصادق؛ لذلك لُقبوا أيضًا بالسبعية. بدؤوا دعوتهم في طور الستر أي الاختفاء متمثلًا في شخصية الإمام محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق، إلى حين مجيء طور الظهور بإعلان الدولة الفاطمية بقيادة الداعي أبو عبد الله الشيعي، داعيًا إلى الإمام الخليفة عبيد الله المهدي في بلاد المغرب كما ذكرنا.
حقيقةً أن المذهب الاسماعيلي من أكثر المذاهب الدينية الفكرية إثارةً للدهشة والوقوف أمامه؛ نظرًا لأنه استطاع أن يخلق لنفسه أيديولوجيا ومنهجاً مفلسفاً، قام الواقع الاقتصادي–الاجتماعي باستدعائه في محيط الانتفاضات والثورات الشعبية، جاذبًا العوام والمهمشين الواقعين تحت نيران الجباية والمغارم والمصادرة من قِبَل سلطة الإقطاعية العسكرية المتمثلة في الخلافة العباسية وولاتها في أقاليم العالم الإسلامي.
النظام الجمهوري للقرامطة
القرامطة هم إحدى الفرق المنبثقة عن المذهب الاسماعيلي، وقد نشؤوا في البدء كتنظيم سياسي سري في جنوبي العراق في البصرة وسواد الكوفة عام 275هــ/ 878م، كان الداعي هو حمدان بن الأشعث الملقب بالقرمطي، ومعناه كما ذكر كلود كاهن "المعلم السري" في اللغة الآرامية.
حيث كان من ضمن العمل السياسي لنشر المذهب وأفكاره هو بث الدعاة في مختلف أنحاء الأقاليم، والقرامطة هؤلاء استطاعوا جذب العمال والفلاحين من المهمشين الرازحين تحت نير العبودية والسخرة، تحت تأثير الأيديولوجيا الشيعية وفكرة الإمام العادل، بدءًا من عام 278هــ/891م في خلافة المعتمد العباسي قامت ثورة بقيادة العمال والفلاحين المنضوين تحت لواء شيعي لا يعكس فقط الطابع الطبقي للثورة بل والسياسي للقرامطة. استهدفوا فيها الإصلاح الجذري والتخلص من سلطة الخلافة والولاة الجائرين وكبار الملاك الإقطاعيين.
أقام القرامطة بقيادة المؤسس أبو سعيد الجنابي نظاماً أشبه بالجمهورية يقوم على العدالة الاجتماعية ويلغي الفوارق الطبقية في صبغة اشتراكية سميت نظام "الألفة" الذي أنشأ نقابات عمالية وأفراناً عامة مجانية ودعم الفلاحين
قام القرامطة بمقاومة جيوش الخلافة الجرارة بل واستطاعوا هزيمتهم أكثر من مرة إلى أن قاموا بإعلان نجاح ثورتهم متمثلة في قيام دولة القرامطة في الأحساء والبحرين، دولة تعبر عن طموحات ورغبات العمال والفلاحين في الخلاص من الظلم الواقع عليهم. وقد بدأت الأسرة المؤسسة بقيادة أبو سعيد الجنابي، فكانت نموذج مثير للدهشة تاريخيًا في ظل عصر الإقطاعية. حيث أقاموا نظامًا أشبه بالجمهورية قائمًا على العدالة الاجتماعية وإلغاء الفوارق الطبقية.
كما أنشأوا نظامًا ذو صبغة اشتراكية يسمى "الأُلفة". وكان للحركة أرزاق جارية من ثروة مشتركة مما يؤديه الأعضاء تبرعً ، فضلًا عن إنشاء وتأسيس نقابات عمالية لها مراسيم خاص ، ومن الناحية الاجتماعية كانت الحكومة القرمطية جعلت المطاحن مشاعية عامة للجماهير مجانًا بلا مقابل، وكذلك الأفران العامة للخبز، مع فرض ضرائب بسيطة متساوية على الجميع بغرض الشراكة الجماعية في الدولة. كما وُجد تزويد الفلاحين بأدوات الزراعة والبذور والمواشي مجانًا، ولا تُذكر في المصادر أية معلومات عن الملكية الخاصة للأرض الزراعية حتى لو كانت للأئمة الحاكمين.
الدولة "العلمانية"
مما يسترعي الانتباه على صعيد الوعي والمعرفة هو أن التغيير السوسيو-اقتصادي الواقع آنذاك، ساهم في تشكيل عقلية جديدة –وإن كانت مغلفة بالمذهب الشيعي صوريًا- ظهرت في عدم خلط حياتهم بالدين تمامًا، لدرجة إسقاطهم التكاليف الشرعية. واعتبروا أن الشعارات الدينية الشيعية ما هي إلا أيديولوجيا دعائية جذبت العوام والمهمشين في صفها وقت الإنتفاضات والثورات.
مثال ذلك ما فعلوه عام 317هـ/930م حين قاموا بعملية سلب الحجر الأسود من الكعبة واستخدام العنف، ذلك بدافع اقتصادي صرف –لكن له دلالات رمزية– بهدف إبراز الاحتجاج على استغلال موسم الحج من قِبَل التجار والموسرين وسيطرة الخلافة العباسية ونظيرتها الفاطمية على أرباح موسم الحج. بناءً عليه قرر القرامطة مهاجمة القوافل التجارية لكبار التجار حتى يتوصلوا إلى اتفاق مع السلطة العباسية من أجل إشراكهم في الحج، والاستفادة من الأرباح.
كما أنهم أصبحوا مكتفين ذاتيًا من السلع والتجارة الداخلية والسيطرة أيضًا على التجارة الخارجية، مع ضرب عملة من الرصاص ليمنعوا انتقال الثروة إلى الخارج. كذلك انعكست آثار التغيرات تلك على تسامحهم الشديد مع مخالفيهم في المذهب بل والعقيدة ايضًا، بما يعني أنها كانت أشبه بجمهورية اشتراكية علمانية.
لا بدّ من غلق صفحات النعرات الطائفية والدموية التي نُسجت أفكارها في كتب اعتراها التراب والعفن، إلا أنها مازالت مفتوحة لخدمة الأنظمة الطبقية الرجعية لضمان استمرار استبدادها بشعوب المنطقة العربية، وضمان استمرارية نهب وسرقة ثروات المهمشين تحت مظلة الدين والتدين
جملة القول أننا أمام بواكير حركة اشتراكية –في الظرف الموضوعي لعصرها– استطاعت استغلال ايديولوجيتها الدينية في تأسيس دولة شبه نموذجية قائمة على العدل والمساواة، أساسها هو العمال والفلاحين من المهمشين في المجتمع، وأن الأيديولوجيا الدينية دائمًا في خدمة السياسة وليست هي الغاية في حد ذاتها كما يصورها المثاليون والإسلاميون العدميون المعزولون عن الواقع، لكن تتفرد الأيديولوجيا الدينية بخاصية مهمة، وهي أنها من الممكن أن تصبح لواءًا ثوريًا ينضوي تحته المهمشون الثائرون على السلطات الجائرة تحت تأثير الشعارات المنادية بالعدل الإلهي والإيمان بالمساواة.
بالإضافة إلى أنه جرى توظيف الدين دائمًا عبر العصور والأزمنة الغابرة في خدمة الأنظمة الطبقية أو انتفاضات الكادحين؛ لذلك لا نجد أي مبرر لعدم غلق صفحات النعرات الطائفية والدموية التي نُسجت أفكارها في كتب اعتراها التراب والعفن سُميت تدليسًا وكذبًا بكتب السلف الصالح، إلا أنها مازالت مفتوحة لخدمة الأنظمة الطبقية الرجعية لضمان استمرار استبدادها بشعوب المنطقة العربية، وضمان استمرارية نهب وسرقة ثروات الكادحين والمهمشين من الطبقة العاملة تحت مظلة الدين والتدين.
المصادر: الطبري ، تاريخ الرسل والملوك ، عدة أجزاء. أبو حيان التوحيدي ، المقابسات. الجاحظ ، رسائل التربيع و التدوير. المسعودي ، مروج الذهب ومعادن الجوهر. محمود اسماعيل ، المهمشون في التاريخ الاسلامي. محمود اسماعيل ، فرق الشيعة بين الدين والسياسة. حسن حنفي ، التراث والتجديد. بطروشوفسكي ، الاسلام في إيران. فاروق عمر ، نحو تفسير جديد للتاريخ في القرن العشرين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...