جولة سريعة في شوارع العاصمة اللبنانية بيروت، وفي عدد من قرى وبلدات محافظة جبل لبنان، كافية لرصد ظاهرة لا تختلف في أي من هذه المناطق ولا تحتاج جهداً كبيراً لاكتشافها، وهي تراكم أكوام النفايات في الشوارع وحول المستوعبات.
في كثير من الأحيان، تصل النفايات المتراكمة - على كثرتها - إلى منتصف الطريق، فتعيق مرور السيارات والمشاة. يُضاف إليها أطنان التكسير وأنقاض المباني التي دمّرتها الغارات الجوية الإسرائيلية المتصاعدة منذ 23 أيلول/ سبتمبر 2024. فما أسباب أزمة النفايات؟ وما الذي تقوم به السلطات اللبنانية لمنع تفاقمها وإضرارها بالصحة والبيئة؟
أسباب تفاقم الأزمة الآن
في حديث لرصيف22، يشير محافظ جبل لبنان، القاضي محمد مكّاوي، إلى أن "الحرب هي السبب الرئيسي" في أزمة النفايات المتراكمة لأن التوزيع الديموغرافي تغيّر جراء النزوح الكثيف، وبالتالي أصبح هناك زيادة سكانية كبيرة في مناطق معينة، لافتاً إلى أن محافظة جبل لبنان استقبلت أكثر من 170 ألف نازحاً/ة حتى الأسبوع الأول من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، وهذا ما أدّى إلى زيادة كبيرة في الضغط على البنية التحتية وكميّة النفايات الصادرة.
قبل العدوان الإسرائيلي، كان يُفرز في مدينة جبيل يومياً 5 أطنان من النفايات، وفي موسم الذروة يُفرز 10 أطنان. اليوم، أصبح الفرز أكثر من 20 طناً يوميّاً، هذا بمدينة جبيل فقط، أما على صعيد المطامر فنجد أن مطمر الجديدة كان يستقبل في اليوم 1200 طن، الآن أصبح يستقبل 1600 طن
بدوره، يقول مستشار وزير البيئة، الدكتور محمد أبيض، لرصيف22، إن ما يزيد عن مليون وأربعمئة ألف نازح تركوا منازلهم وتوجهوا إلى بيروت والجبل، وهذا ما ترتب عليه إنتاج كميّات هائلة من النفايات في المنطقتين، إلا أنه في الوقت نفسه حمّل القوى الأمنية ووزارة الداخلية والبلديات مسؤولية أزمة النفايات المتراكمة، مردفاً بأنه لا يمكن تحميل شركات جمع النفايات مسؤولية تكدس القمامة أو اتهامها بعدم القيام بواجباتها.
ويشرح أبيض: "شركات جمع القمامة تعمل بقدر المستطاع قبل الحرب والآن، رغم كل التحديات"، مستدركاً بأن "هناك ازدحاماً مهولاً للسيارات المركونة في الشوارع، وأنّ عدداً كبيراً منها رُكن أمام الحاويات الممتلئة، وهذا ما يعيق عمل شركات رفع النفايات، بسبب تضييق الطريق ومنع الشاحنات من المرور".
ويوضح مستشار وزير البيئة أن عمّال النظافة يضطرون في الكثير من الأحيان إلى "الحديث مع الأهالي لإفساح المجال أمام الشاحنات لكي تمرّ وترفع النفايات. الحالة صعبة جداً وعلى القوى الأمنية أن تساعدنا على تنظيم السير في هذه المناطق لكي تستطيع الشاحنات الدخول والقيام بعملها. على سبيل المثال، شارع بليس في الحمرا كان هناك مساران للمرور، الآن بالكاد هناك مسار واحد ولا يمكن لشاحنة جمع القمامة المرور في المنطقة".
أين النفايات من خطط الطوارىء؟
في الأثناء، يسأل رئيس جمعية "الأرض"، الناشط البيئي بول أبي راشد، عن حجم الاهتمام ومخصصات ملف النفايات في خطة الطوارئ التي أعدتها حكومة تصريف الأعمال أثناء الحرب الراهنة التي تشنها إسرائيل على لبنان، قائلاً: ماذا عملت الحكومة في موضوع النفايات؟ ولماذا وصلت الحالة إلى هنا؟ وما هو الحل؟
يرى أبي راشد أن هذه الأسئلة برسم وزارة البيئة التي كانت أولويتها منذ أيلول/ سبتمبر 2021 معالجة ملف النفايات، وبعدها اشتعل مكب برج حمود والجديدة وكثرت النفايات فيهما. ويضيف "إن كانت هناك مشكلة في خطّة الطوارئ، فعلى مجلس الإنماء والإعمار ووزارة البيئة إيجاد حل سريع" لهذه الأزمة الخطيرة.
ويكمل: "قضية سهلة كمعالجة النفايات تعجز دولة بكل أجهزتها وبلدياتها رغم الأموال الوافدة إليها، عن أن تجد لها حلاً جذرياً، هذه إشارة إلى الحكومات الفاشلة التي لم تستطع معالجة أي موضوع".
من جهته، يشدد أبيض على أن ملف النفايات هو حتماً ضمن أولويات وزارة البيئة وضمن خطة الطوارئ الحكومية، إلا أن الكثافة السكانية التي طرأت على بيروت وباقي المناطق لم تكن بالحسبان، إذ لم يُتوقع أن يتهجّر سكان الضاحية الجنوبية. ويوضح: "كنا نتوقع نزوح أهالي الجنوب فقط. توقّعنا أن يكون لدينا 250 ألف نازح، أما الآن، فلدينا مليون و400 ألف نازح، أي حتى الضاحية نزح أهلها وقلب بيروت نزح أيضاً، ما يعني أن الوضع كارثي على المرافق والخدمات والبيئة".
"نحن نتكلم عن جراثيم وأوبئة وأمراض، هذا الموضوع مرتبط بصحتنا، وما يحصل في مراكز الإيواء إذا لم يعالج بطريقة صحيحة فعواقبه وخيمة إذ لا يمكن أن تسكن في مكان أصبح مطمراً، أين صحة الأطفال والعائلات؟ إن لم يعالج الموضوع فسنكون أمام انتشار العث والجرب والصراصير والجرذان والكثير من الأمراض"
مخاطر صحية وبيئية
تراكم النفايات بهذا الشكل على مدى أيام، يجلب الكثير من الحشرات والقوارض والأوبئة، الأمر الذي يهدد صحة الإنسان، وبتفاقم فاتورة المواطن الاستشفائية.
الباحثة المختصة في علم الأوبئة د. ميرنا صبرا تؤكّد لرصيف22 أن هناك خطراً داهماً على صحة الإنسان، فهذه الظاهرة يمكن أن تتسبب بالكثير من الأمراض المعدية والمنقولة، منها أمراض الجلد والتنفس والحساسية، وأمراض في المعدة والأمعاء، ويمكن أن تؤثر على العيون.
تلفت صبرا إلى أنه عند رمي النفايات بهذه الكمية وتكدّسها في الشوارع وفيها مواد كيماوية مثل المنظفات والزيوت المستعملة في الطبخ، وبعض الأدوية المنتهية الصلاحية والمواد التي تدخل فيها مواد نفطية، كل هذه المواد تتفاعل فيما بينها. ومع حرارة الجو تتحول إلى مواد كيماوية خطيرة، تنتقل إلى الإنسان المار بجانبها أو الذي يعيش قربها، لأنه يستنشقها وتسبب أمراضاً قد تتطور إلى عدوى خطيرة، هذا عدا أن هذه المواد قد تتفاعل وتنفجر أو تحترق وتتسبب بأضرار جسيمة.
في ظل الحديث عن بقاء بعض الجثث تحت الأنقاض لصعوبة انتشالها بعد قصف إسرائيل المباني السكنية المأهولة، وكذلك مقتل الكثير من الحيوانات الأليفة جراء الاعتداءات الإسرائيلية، اشتكى الكثيرون من انبعاث الروائح من المباني المدمرة. هنا تشير صبرا إلى أن الجثث تصدر روائح وتتعفن وتجلب الفيروسات والميكروبات وهذا كله ينتقل للبشر. وهناك خطورة كبيرة في حال استنشاقها، لذلك ينبغي دفن الجثث في أسرع وقت ممكن وعدم تركها لأنها ستكون مصدراً لنمو البكتيريا وانتشار الأمراض.
وبما أن البلديات هي السلطة المحلية التي تعمل على تماس مباشر مع المواطن وهمومه، فإن العديد من البلديات تدرك خطورة هذا الأمر. لكنها في الوقت عينه لا تستطيع السيطرة على كل زمام الأمور، بحسب مكّاوي، فالبلديات طُلب منها أن تدخل في ملف النظافة داخل المدارس وكذلك النظافة الشخصية لكي لا تتفشّى الأمراض، وعندما يكون هناك نقص في الطعام والدواء فكيف سندخل في موضوع تنظيم النفايات؟ يسأل مكّاوي، مشدداً على أن البلديات اليوم منهمكة في موضوع الإيواء وتوفير الحاجات الأساسية للنازحين.
في سياق متصل، يرى أبيض أن تكدّس النفايات أمر بالغ الخطورة، خاصة عندما يكون بالقرب من التجمعات السكانية، ويلفت إلى أنه عندما يكون الجو حاراً تتخمّر النفايات بسرعة كبيرة، وتنبعث منها روائح كريهة، وتؤدي إلى كوارث بيئية وصحيّة كبيرة جدّاً.
كذلك يحذّر الناشط البيئي وصاحب مبادرة "إدارة نفايات لبنان"، بيار بعقليني، في حديثه لرصيف22، من خطورة تراكم النفايات في الشوارع وفي مراكز النزوح التي تشهد إيواء أعداد كبيرة من النازحين الذين تنتج عنهم كميات هائلة من النفايات داخل المراكز أو في محيطها. ويضيف: "نحن نتكلم عن جراثيم وأوبئة وأمراض، هذا الموضوع مرتبط بصحتنا، وما يحصل في مراكز الإيواء إذا لم يعالج بطريقة صحيحة فعواقبه وخيمة، إذ لا يمكن أن تسكن في مكان أصبح مطمراً. فهناك ضرر قد يلحق بصحة الأطفال والعائلات؟ إن لم يعالج الموضوع فسنكون أمام انتشار العث والجرب والصراصير والجرذان والكثير من الأمراض".
لماذا تتكرّر أزمات النفايات؟
لطالما كانت النفايات وأزماتها التي لا تنتهي هاجساً يقلق اللبنانيين منذ عام 2015. فكم من مرة غرقت الشوارع بالنفايات، وكم من مرة تراكمت جبال النفايات على شواطئ لبنان أو في مناطقه العامة، الأمر الذي طرح العديد من الخطط غير السليمة لمعالجة هذا الأمر، منها استحداث مطامر جديدة أو ترحيل النفايات إلى خارج.
هذا التخبّط في إدارة هذا الملف له سبب جوهري، بحسب بعقليني، وهو عدم الفرز من المصدر، ما يعني أن كميات النفايات الصادرة عن المنازل والمؤسسات ستكون كبيرة جدّاً، وهذا سيؤدّي إلى امتلاء المطامر بسرعة. فعوضاً عن أن يخدم المطمر 30 عاماً فإنه سيمتلئ خلال سنتين، ونعود إلى المشكلة من جديد ونرى النفايات في الشوارع.
ويلفت بعقليني إلى أن كميات النفايات تضاعفت عمّا كانت عليه. فعلى سبيل المثال، في الأيام العادية، قبل العدوان الإسرائيلي الحالي، كان يُفرز في مدينة جبيل يومياً 5 أطنان من النفايات، وفي موسم الذروة يُفرز 10 أطنان. ومع هذه الأزمة أصبح الفرز أكثر من 20 طناً يوميّاً، هذا بمدينة جبيل فقط، أما على صعيد المطامر فنجد أن مطمر الجديدة كان يستقبل في اليوم 1200 طن، لكنه الآن يستقبل 1600 طن.
مسألة النفايات في لبنان ليست بالأمر الجديد، ولا يجوز التذرّع بالحرب للتغطية على فشل الدولة في إدارة هذا الملف، من هنا تبرز الدعوة إلى الحكومة لانتهاج خطط علمية لمعالجة أزمة النفايات من جذورها، وعدم جعل المواطن ضحيّة يدفع من جيبه ومن صحته أضرار تراكمها
من أين يبدأ الحل؟
بما أننا أمام أزمة خانقة ستؤدّي إلى كارثة بيئيّة وصحيّة كبيرة، يجب العمل على عدة نقاط، أولاها زيادة عدد الجولات لشاحنات الجمع. فبحسب محافظ جبل لبنان فإن الشركات عادت لتعمل بشكل جيّد لكنها بحاجة إلى برمجة هذا العمل بطريقة تتناسب مع الحاجة مع هذا العدد الكبير للسكان، وكذلك زيادة عدد الحاويات والمستوعبات.
في حين يلفت بعقليني إلى أنه قبل بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان، وضعت وزارة البيئة خطة وطنية لمعالجة أزمة النفايات، إذ بدأ العمل والالتزام بها من عدّة قطاعات، والخطة مرتكزة على ثلاث نقاط أولاها بناء معامل لفرز النفايات ومراكز شراء المفروزات بعد أن تفرز من المصدر، إذ جرى تقسيم الخدمات 17 وحدة على جميع الأراضي اللبنانية ليكون فيها مراكز فرز.
النقطة الثانية في الخطة، بحسب بعقليني، هي حوكمة قطاع النفايات إلكترونياً waste information system، وبهذه الطريقة يمكن تتبّع أي منتج من لحظة إنتاجه إلى دخوله للسوق انتهاءً بتلفه وإعادة تدويره.
أما النقطة الثالثة، والأهم، فهي استرداد الكُلفة. ويشرح بعقليني: "نحن كمواطنين ندفع رسوم النفايات للبلدية ولكن لم يجرِ تنفيذها بالطريقة الصحيحة. هذه المرة سيصبح هناك اشتراكات، فيدفع البيت من 2 إلى 12 دولاراً حسب مساحة المنزل، وهذا يشمل أيضاً المصانع والمطاعم والفنادق، ما يعني أن الخطة خاضعة للامركزية الإدارية، فيدفع الفندق للبلدية والبلدية تعطي المتعهد، فيصبح بإمكاننا محاسبة الجهة المقصّرة".
"هذه الخطة وضعت وصدرت بمرسوم عن مجلس الوزراء، لكنها بحاجة إلى موافقة مجلس النواب لكي نستطيع تطبيق برنامج استرداد الكلفة، إلا أن هناك بلديات، مثل بلدية زحلة، بادرت بتنفيذ هذه الخطة، وبدأت تظهر نتائجها المميزة، بحيث انخفضت نسبة النفايات التي تذهب إلى المطامر، وبدأت في استرداد الكلفة لتشغيل الآليات وتغطية التكاليف اللازمة"، يردف.
وبالنسبة إلى الأزمة الحالية التي ترافقت مع اندلاع الحرب، وتكدّس النفايات في مراكز النزوح أو في المناطق التي تستقبل النازحين، يؤكّد بعقليني أن هناك خطة ستبصر النور في الأيام القليلة المقبلة بالشراكة مع القطاع الخاص والحكومة. وهذه الخطة تُعنى بالفرز من مراكز النزوح، حيث سيجري توجيه الناس إلى موضوع الفرز، وبعدها ستُنقل المفروزات إلى مراكز المعالجة، خاصة أن النفايات الناتجة سهلة الفرز، ومعظمها كرتون وعبوات بلاستيكية ومعلبات، وهذا سيخفف من كمية النفايات بشكل كبير جدّاً.
ومهما كانت الأسباب والظروف، فإن مسألة النفايات في لبنان ليست بالأمر الجديد، ولا يجوز التذرّع بالحرب للتغطية على فشل الدولة في إدارة هذا الملف، من هنا تبرز الدعوة إلى الحكومة لانتهاج خطط علمية لمعالجة أزمة النفايات من جذورها، وعدم جعل المواطن ضحيّة يدفع من جيبه ومن صحته أضرار تراكمها بهذا الشكل الذي لا ينم إلا عن الفشل وانعدام المسؤولية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...