"المصائب لا تأتي فرادى"، يبدأ حسن موسى، وهو مهندس زراعي من سكان جنوب لبنان حديثه لرصيف22، متأسفاً لما حل ببساتينه الزراعية، فبعد أن عانت لسنوات من آثار التدهور البيولوجي، من تراجع خصوبة التربة وانخفاض محتوى العناصر المغذية فيها، ها هي كروم زيتونه تحترق اليوم أمام عينه، بفعل القنابل الفسفورية الحارقة التي ترمى بشكل عشوائي من قبل إسرائيل، دون أن يتمكن من فعل شيء.
الغصة الكبرى التي عبر عنها موسى، إضافة لفقدانه موسم زيت مثمر، كانت أنه لليوم لا يستطيع الذهاب إلى الكروم التي يملكها، على الأقل كي يتفقد ما حل بتعب ستة عشر عاماً في لحظة. فموسى أكّد أن العدو الصهيوني كل يوم منذ أكثر من أسبوعين يقصف الكروم ذاتها، كي يتأكد أن لا زيتون بقي لمقاومته، وطبعاً ليست كروم موسى حصراً بل كروم جيرانه وأقاربه.
الكارثة تكمن، كما يقول موسى وغيره العديد من المزارعين لرصيف22، في الآثار المدمرة التي سيحملها هذا العدوان لسنوات مقبلة، فالقنابل الفسفورية التي تلقي بها إسرائيل على جنوب لبنان لها تأثير على البيئة والنباتات، كون الفوسفور الأبيض مادة حارقة شديدة الاشتعال، لذلك فور رمي تلك القنابل في كروم الزيتون، تقضي على عدد كبير من الأشجار.
تكمن الكارثة في الآثار المدمرة التي سيحملها هذا العدوان لسنوات مقبلة.
ويمكن أن يبقى الفوسفور الأبيض في التربة العميقة لعدة سنوات دون أي تغيرات، بمعنى أنه يحافظ على خصائصه الحارقة والملوثة حتى لسنوات، فالأمر لن ينتهي باحتراق كروم الزيتون بل ستصبح التربة بعد القنابل الفسفورية غير صالحة للزراعة.
ووفقاً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، يعد تلوث النظم البيئية بالفوسفور مشكلة رئيسية تساهم في فقدان التنوع البيولوجي، كونه يساهم بتغييرات في البيئة الطبيعية بكل مكوناتها بما فيها التربة والمياه.
عشرات آلاف الأشجار
بحسب إحصائيات وزارة الزراعة اللبنانية، فإن أشجار الزيتون في جنوب لبنان تحتل المرتبة الثالثة من حيث الإنتاج الزراعي في البلاد، بنسبة 15 بالمائة، وتحتوي الحقول في المنطقة على أكثر من مليوني شجرة زيتون، لكن الاعتداءات الإسرائيلية أحرقت حتى الآن ما لا يقل عن 40 ألف شجرة منها، وهو ما يمثل خسارة كبيرة للقطاع الزراعي في البلاد، الذي يمثل الزيتون ما نسبته 7 بالمائة منه. كما أن حقول الجنوب تضم العديد من المزروعات الأخرى مثل التين والحبوب.
ومع الأزمة الاقتصادية التي يعيشها اللبنانيون منذ العام 2019، فسكان الجنوب اليوم باتوا بمواجهة أزمة جديدة وهي فقدان موسم الزيت ومصدر رزق أساسي لهم. وهنا يشير المزارع حسن بأن زيتون الجنوب اللبناني يلبي بالعادة قسم لا يستهان به من استهلاك السوق اللبناني لزيت الزيتون.
موسى الذي يملك في منطقة حنين الجنوبية قرب عيتا الشعب خمسة كروم زيتون بمساحة خمسة عشر دونماً، تحتوي على قرابة ثلاثمئة شجرة، لن يتمكن من الاستفادة من موسم هذا العام وبيع إنتاجه الذي كان يتوقع أن يبلغ خمسين تنكة زيت. والأسوأ ربما أنه لن يعود بإمكانه الاستفادة من الزيتون حتى في المواسم القادمة، فهذا النوع من الأشجار يحتاج وقتاً كثيراً كي ينتج، بحسب ما يؤكد المهندس الزراعي.
من جهة ثانية كان في قلب موسى غصة عميقة، فلكل شجرة زيتون رواد من طيور السنونو تأتي كل عام، لكن اليوم لم يعد هناك لا شجر ولا طيور ولا إنتاج.
يضيف موسى بأن القنابل الفسفورية التي تساقطت وتتساقط في كروم زيتونه، تعيق وصول حركة الدفاع المدني للمكان لإخماد الحرائق، وبالتالي مع كل صباح ومع كل حريق مفتعل، ستمتد النيران لكروم أخرى. فإلى جانب كرومه، فإن حقول جاره التي تحوي الأفوكادو أيضاً أصبحت في خبر كان، والخسائر بالجملة.
أهمية الزيتون
بالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية الباهظة التي دفع وسيدفع ثمنها سكان الجنوب اللبناني باحتراق شجر الزيتون، نحن على موعد مع كارثة بيئية جديدة تضاف لسلسلة الكوارث الحاصلة. فالقنابل الحارقة التي تُرمى تقضي على الثروة النباتية المتمثلة بأشجار الزيتون وبالتالي هي تقضي على أكثر الأشجار فائدة للبيئة.
بحسب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "الفاو"، بإمكان الأشجار ومنها الزيتون الحد من آثار التغير المناخي، وتمتص شجرة الزيتون وحدها ما يقارب 570 كيلوغراماً من ثاني أوكسيد الكربون كي تنمو، وبالتالي هي قادرة على تحسين جودة الهواء. تشير المنظمة أيضاً إلى إمكانية استخدام بقايا الزيتون كوقود حيوي لمزارع الدواجن، وكسماد عضوي للأراضي الزراعية، وغذاء للمواشي والأغنام.
بعد أن عانت حقول الزيتون جنوب لبنان لسنوات من آثار التدهور البيولوجي، من تراجع خصوبة التربة وانخفاض محتوى العناصر المغذية فيها، ها هي تحترق اليوم أمام عيون مالكيها بفعل القنابل الفسفورية الحارقة التي ترمى بشكل عشوائي من قبل إسرائيل
كما أن شجرة الزيتون يمكن أن تتكيف مع ظروف الجفاف، وبالتالي فهي تعد خياراً جيداً لترشيد استخدام الموارد المائية، ويمكن أن تكون خياراً مستداماً في المناطق ذات الحاجة المائية المحدودة. وإلى جانب ذلك، تساهم أشجار الزيتون في الحفاظ على التنوع البيولوجي، بحيث توفر بيئة حياتية للعديد من الكائنات الحية، مثل الحشرات والطيور والثدييات.
تأثيرات طويلة الأمد
إذاً، مع تدمير كروم الزيتون المقصود من خلال القنابل الفوسفورية والحارقة، يدمر العدو الإسرائيلي حرفياً بيئة لبنان من تربة وهواء ومياه.
وتقول الخبيرة البيئية الدكتورة دعاء سليم لرصيف22 إن تلك القنابل التي تحتوي على الفوسفور كعنصر رئيسي تقوم مباشرة بتلويث التربة، والقضاء على التنوع البيولوجي، فقنبلة واحدة ترمى كفيلة بأن تقضي على عدد كبير جداً من النباتات والحيوانات.
هذا على المدى القريب، أما على المدى البعيد، فتؤكد الخبيرة أن لا شك المياه ستتلوث، فبقايا قنابل الفوسفور الأبيض يمكن أن تنفذ إلى المياه القريبة من مواضع استخدامها، كما تستقر في رواسب الأنهار والأحواض المائية القريبة، بفعل حركة مياه الأمطار التي تعمل على سحب المخلّفات الكيميائية من تلك القنابل إلى مجارٍ مائية قريبة.
ولكن الكارثة الكبرى حسب الدكتورة سليم تكمن في نفوق الطيور المائية من جهة بفعل تلوث المياه، والقضاء على الثروة السمكية نهائياً، بحيث يتفاعل الفوسفور الأبيض بشكل رئيسي في البيئة المائية مع جزيئات الأكسجين الموجودة فيها، ليصل بذلك إلى أجسام الأسماك ويسبب موتها.
كما أن للفوسفور الأبيض قابلية للتفاعل بسرعة مع الأكسجين في الهواء، وفور انفجار القنبلة سيتلوث هواء المنطقة التي تحيط بها.
على المدى البعيد، لا شك بأن المياه ستتلوث، فبقايا قنابل الفسفور الأبيض يمكن أن تنفذ إلى المياه القريبة من مواضع استخدامها، كما تستقر في رواسب الأنهار والأحواض المائية القريبة، بفعل حركة مياه الأمطار التي تعمل على سحب المخلّفات الكيميائية إلى مجارٍ مائية قريبة
بالإضافة للآثار الخطيرة على البيئة، للصحة أيضاً حصة من هذا الدمار. فوفقاً لتقارير حقوقية عدة، يمكن أن يعاني الأشخاص الذين يتعرضون للفوسفور الأبيض من مشاكل في الجهاز التنفسي، وفشل الأعضاء، وغير ذلك من الإصابات المروعة التي تعيق تحركهم، بما في ذلك الحروق التي يصعب علاجها للغاية ولا يمكن إخمادها بالماء.
مع استمرار الاعتداءات الإسرائيلية منتهكة كل الاتفاقيات الدولية التي تحظر استخدام الأسلحة الحارقة والفوسفورية، وإلحاق الأذى بالمدنيين وتدمير البنية التحتية المدنية، يتعين على لبنان التفكير بكيفية إعادة تأهيل البيئة في المناطق المتضررة، وتحسين جودة التربة والمياه، واستعادة التنوع البيولوجي، لتقليل خطورة التأثيرات طويلة الأمد لما يحدث اليوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Zain Array almansor -
منذ 3 ساعاتاسطورة ابادة جيش قمبيز
مستخدم مجهول -
منذ يومربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ يومحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.