قام الفقه الإسلامي في القرون الأولى على أساس ذكوري لا يمكن التغافل عنه. تماشى ذلك مع ظروف المجتمعات الإسلامية المبكرة، حالها حال غالبية المجتمعات آنذاك، التي حظي الرجل فيها بالسلطة والقوة فيما تراجعت منزلة المرأة لتكتفي بالمرتبة الثانية. تُعدّ بعض التشريعات الإسلامية الفقهية المرتبطة بموضوع الميراث دليلاً واضحاً على التفرقة بين الرجل والمرأة. نلقي الضوء في هذا المقال على بعض الآراء الفقهية المعاصرة والتي عملت على إنصاف المرأة في مسائل الميراث. احتكمت تلك الآراء إلى روح الدين الإسلامي الداعية للمساواة، كما اهتمت بتبيان الاختلاف في الظروف والسياقات التاريخية التي مر بها المسلمون عبر ما يزيد عن الأربعة عشر قرناً من الزمان.
إرث البنت والتعصيب
يذهب الفقه السني التقليدي إلى أن تركة الأب المتوفى توزع بين أولاده فقط في حال كانوا جميعاً من الذكور أو كان أحدهم من الذكور والباقي من الإناث. يختلف الأمر إن توفي الأب تاركاً ابنة وحيدة أو مجموعة من البنات. يرى أغلبية الفقهاء من أهل السنة والجماعة أن الابنة/البنات لا يستأثرن بكامل التركة في تلك الحالة، وأن نصف التركة تذهب لأحد الذكور من أولياء الدم للمتوفى كالعمّ أو ابن العم على سبيل المثال.
احتكمت بعض الآراء الفقهية المعاصرة المتعلقة بإنصاف المرأة في مسائل الميراث إلى روح الدين الإسلامي الداعية للمساواة، كما اهتمت بتبيان الاختلاف في الظروف والسياقات التاريخية التي مر بها المسلمون
يرفض الفقه الشيعي الإمامي ذلك الرأي، ويرى أن الابنة الوحيدة للمتوفى تستأثر بكامل تركة أبيها مثلها في ذلك مثل الابن. يوضح الفقيه الشيعي المعاصر محمد جواد مغنية تلك المسألة في كتابه "الشيعة في الميزان" فيقول: "إذا توفي إنسان، وله بنت أو أكثر، وليس له ولد ذكر، وله أخ، أو كانت له أخت أو أخوات، وليس له أخ ذكر، وله عم فإن أهل السنة يشاركون أخا الميت مع ابنته في الميراث، ويشاركون عنه مع أخته، والشيعة يقولون إن: التركة بكاملها للبنت أو البنات، وليس لأخ الميت شيء".
تجدر ملاحظة أثر الخلاف السياسي المبكر بين السنة والشيعة في وقوع الاختلاف الفقهي في تلك المسألة. كان الشيعة في القرون الأولى يرون أنهم أحق بميراث النبي باعتبارهم أبناء فاطمة -الابنة الوحيدة للنبي التي بقيت على قيد الحياة عند وفاة أبيها-. على الجهة المقابلة استمد العباسيون شرعيتهم السياسية للخلافة من كونهم أحفاد العباس بن عبد المطلب، وهو عم النبي الذي كان حياً عند وفاته. انعكس هذا الخلاف السياسي على صفحة الفقه والتشريع. ومن ثم كان من الطبيعي أن تختلف وجهتا النظر السنية والشيعية بخصوص توزيع تركة المتوفى الذي ترك بناتاً فقط.
في السنوات الأخيرة، عاد النقاش من جديد حول تلك المسألة. ذهب الكثير من المفكرين إلى ضرورة المساواة بين الابن والابنة، وأن تستأثر الابنة الوحيدة بكامل تركة أبيها المتوفى، مثلها في ذلك مثل الابن؛ على سبيل المثال ذهب الباحث المغربي المتخصص في المسائل الفقهية محمد عبد الوهاب رفيقي إلى أنه من الظلم أن "يأتي أي قريب من جهة الأب... ولو كان بعيداً كعم أو ابن عم أو ابن ابن عم، فيقاسم البنت أو البنات تركة والدهن، مع أنه لم تكن له أي رابطة بهن سوى تلك القرابة النسبية". يتابع رفيقي موضحاً وجهة نظره أن هذا القريب "لم ينفق عليهن -أي على البنات- يوماً ولا تحمل من أجلهن درهماً، ولا شارك في تكوين تلك الثروة ولا حضر جمعها"، ومع ذلك "يكون له كل هذا النصيب من التركة".
المساواة في الإرث بين الذكر والأنثى
ورد في سورة النساء الحديث عن وجوب التفرقة بين ميراث الابن والابنة عند توزيع تركة الأب المتوفى، بحيث يحظى الذكر بضعف نصيب الأنثى. تماشى الرأي الفقهي مع ذلك النص على مر القرون. ولكن في العصر الحديث ظهرت بعض الآراء الفقهية المعارضة والتي طالبت بمراعاة تغير الظروف الزمانية والمكانية. ومن ثم دعت إلى تحقيق المساواة الكاملة في تلك المسألة.
يُعدّ المفكر السويسري -من أصول مصرية- طارق رمضان، من أشهر من نادى بذلك الأمر. وضح رمضان رأيه في تلك الإشكالية بشكل تفصيلي فقال: "يعتبر العلماء النصوص حول الإرث نصوصًا قطعية، يعني أن هذه النصوص تبقى غير مفتوحة على التأويل. لكن المشكل يكمن في كون بعض العلماء يعتبرون أن النص قطعي في تطبيقه بحكم أنه قطعي في لفظه. على سبيل المثال، فالنص حول قطع يد السارق كان نصًا قطعيًا، لكن بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، تم تعليق العمل بهذه الأحكام. لأن تطبيق النص بحرفيته كان في سياق لا يسمح بذلك، ولا يستجيب لمقاصد الشريعة، كمقصد العدل في هذه الحالة. بالنسبة لمسألة الإرث، لا أحد يمكن أن ينكر وجود النص.
يُعدّ حق الكد والسعاية واحداً من ضمن الاجتهادات الفقهية المهمة التي أنصفت المرأة المسلمة في مسائل الإرث.
إن مسألة النصف في الإرث للأنثى التي نجدها فقط بالنسبة للنسب المباشر، كانت فلسفة أسرية قائمة على زيادة التكليف بالنسبة للرجل وإسداء حقوق خاصة بالنسبة للمرأة. فإذا كان يملك الرجل الضعف، فلأنه من واجبه أن يلبي حاجيات الأسرة بأكملها. لكن حالياً، نحن في وضعية لا تحترم فيها المجتمعات هذا المنطق. فهناك رجال لا يكتفون فقط بالضعف، بل لا يتحملون أعباء باقي الأسرة. إزاء هذه الوضعية، من اللازم أن نتساءل عن مدى وفائنا لمقاصد الشريعة. فعوض أن نقوم بتطبيق هذا الحق الفردي المقيد، يجب أن نطبق الشريعة الإسلامية على مستوى الجماعة. فإما أن تتدخل الدولة في هذا الشأن وتتحمل مسؤولياتها؛ ففي حالة الإرث مثلًا، يجب أن تعمل على استرداد حقوق المرأة حتى تضمن استقلاليتها المادية. وإما يجب أن نعيد النظر في تطبيق هذه الأمور حتى نقوم بإصلاح الإطار العام للأسرة. أما التطبيق الحرفي للنص فهو يؤدي إلى بعض الحالات ينتفي فيها العدل، وهذا ما يتناقض مع جوهر وخطاب النص".
ذهب الداعية الفلسطيني الأصل والمقيم في النمسا عدنان إبراهيم إلى النتيجة نفسها. واعتمد في طرحه على ضرورة الالتفات لتغير الظروف والسياقات التاريخية. دعا إبراهيم في أحد لقاءاته التلفزيونية إلى إعادة النظر في الإرث في الإسلام "من باب تحقيق المناط"، معتبراً أن خروج المرأة إلى العمل يستدعي تغيير الحكم. وقال إبراهيم موضحاً وجهة نظره: "أنا طلبت أن نعيد النظر من باب تحقيق المناط. أن هذه البنت التي تأخذ نصف أخيها، إنما كان من العدل كما قال الفخر الرازي أن تأخذ هذا في مجتمع يعصب ويسند سوق المهور والنفقات بأشكالها بجبين الرجال وليس النساء… الآن السؤال، لو أختلف هذا الوضع؟ ولا أتحدث هنا عن اختلاف يسير لحكم الشاذ والنادر، فالشاذ والنادر لا حكم له، لكن إن عم المجتمع بحيث ارتفعت نسبة النساء العاملات بأكثر من 60 في المئة وأضحت المرأة تكسب مثل الرجل، هل يبقى من العدل أن نستمر في هذا التنصيف؟".
في السنوات الأخيرة، عاد النقاش من جديد حول المسألة. ذهب الكثير من المفكرين إلى ضرورة المساواة بين الابن والابنة، وأن تستأثر الابنة الوحيدة بكامل تركة أبيها المتوفى، مثلها في ذلك مثل الابن
كان الفقيه الثالث الذي دعا إلى المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في الميراث هو الفقيه المصري سعد الدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر. ظهر الهلالي في إحدى القنوات الفضائية عقب إقرار تونس للمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة سنة 2018. دافع الهلالي عن القرار قائلاً: "إن قرار تونس بالمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة صحيح فقهاً ولا يتعارض مع كلام الله. وأضاف "أن الميراث مسألة حقوق، وليست واجبات مثل الصلاة والصوم، وفي مسائل الحقوق يكون للناس الحق في التعامل بها… وأن الفقيه تتغير فتاواه بتطور ثقافته بمرور الوقت… وسنصل إلى ما وصلت إليه تونس بعد عشرين عاماً من الآن".
حق الكد والسعاية
يُعدّ حق الكد والسعاية واحداً من ضمن الاجتهادات الفقهية المهمة التي أنصفت المرأة المسلمة في مسائل الإرث. أفتى بعض الفقهاء بهذا الحق بناء على حادثة معروفة وقعت زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب. تذكر بعض المصادر المالكية المتأخرة أن امرأة مسلمة تُدعى حبيبة بنت زريق ذهبت لعمر بن الخطاب شاكية أقارب زوجها المتوفى، بعدما أخذوا الحصة الأكبر من ميراث الزوج ولم يتركوا لها إلا القليل. دافعت حبيبة عن حقها في تركة زوجها، وأخبرت الخليفة أنها كانت تعمل في الغزل وحياكة الملابس طوال فترة زواجها، وأنها كانت تعطي الأموال التي كسبتها للزوج، ولهذا فإن لها حقاً معلوماً في تركته. بحسب القصة، تأكد الخليفة من صدق حديث حبيبة، ثم حكم بأن تحصل على نصف التركة عوضًا لها على الأموال التي أعطتها للزوج في حياته، كما قضي لها بربع ما تبقى من الثروة لأن الزوج لم يترك ابناً من بعده.
بعد قرون من تلك الحادثة، عمل الفقهاء المالكيين المغاربة على ترسيم ذلك الحق؛ على سبيل المثال يقول الفقيه ابن عرضون المالكي المغربي في القرن العاشر الهجري موضحاً المقصود بالكد والسعاية: "إن المرأة إذا مات زوجها تأخذ نصف التركة ثمّ الباقي يقسّم إرثاً، وذلك بحكم مشاركتها وسعيها وكدّها في تحصيل هذه الثروة".
المعنى نفسه ورد في كلام الفقيه المكناسي الحافظ أبي عبد الله القوري، في القرن التاسع الهجري، عندما قال: "لا شيء على الزوجة من غزل ونسج وغيره، فإن قامت بذلك متطوّعة فإن للزوج حقّ الانتفاع بذلك وبثمنه، وإن صرّحت بالامتناع عن الخدمة إلا على وجه الشركة في الغزل والنسج أو فيهما معاً وأباح لها زوجها ذلك، فلا إشكال في اشتراكهما في ذلك المعمول. أما إذا سكتت وقامت بالعمل دون أن تصرّح بأي وجه من الوجهين قامت به، لا على وجه التطوع أم على وجه الشركة، ثم طالبت بعد ذلك بنصيبها فيما أنجزته على أساس أنها قامت بذلك على وجه الشركة أو الرجوع بقيمة العمل، وأنكر الزوج ذلك، حلفت أنها ما غزلت ولا نسجت إلا لتكون على حظها في المعمول. وإذا حلفت، قُوِّم عملها في الكتان والصوف فيكون الثوب بينهما مشتركًا، وكذلك الغزل".
وفي شهر شباط/فبراير الماضي، عاد الحديث حول حق الكد والسعاية إلى الواجهة من جديد عندما قال أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، إنه من الضروري العمل على إحياء فتوى "حق الكد والسعاية" لحفظ حقوق المرأة العاملة التي بذلت جهداً في تنمية ثروة زوجها. ولاقى ذلك التصريح تأييداً واضحاً من جانب العديد من الجهات المهتمة بالدفاع عن حقوق المرأة المصرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...