شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الزواج وأصول الفقه... اجتهاد طال انتظاره

الزواج وأصول الفقه... اجتهاد طال انتظاره

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

"تجديد الخطاب الديني" تعبير يتكرر في العديد من المناسبات، ويوحي بالتغيير والتحديث، لكن في حال أردنا التعمق في "الجديد" الناتج عنه، فإننا لا نجد نقداً أو تفكيكاً للقديم، ولكن مجرد تغيير شكلي باهت لتفاصيل صغيرة، بغرض الإيحاء بأن الفقهاء مستمرون في الاجتهاد. أما الحقيقة، فهي أننا لا نزال مجرد مقلّدين لتراث قديم، عاجزين عن تطويعه ليناسب واقعاً شديد التغيّر، ومليئاً بتعقيدات وأسئلة تنتظر إجابات شافية.

منذ بدايات القرن العشرين، بدأ يتضح بجلاء أن فَهْم الفقهاء للدين لا يتماشى مع متطلبات واقع المسلمين، وهو ما جعل العديد من المفكرين يذهبون إلى ما هو أبعد من أحكام الفقه، والبدء بوضع تصورات جديدة لأصول الفقه. وكما هو معلوم، هناك أربعة مصادر (أو أصول) رئيسية لأصول الفقه، هي: القرآن، السنّة، الإجماع، والعقل (الذي يأتي غالباً في صورة القياس).

أحكام غير أبدية

يُعَدّ "الاجتهاد البنيوي" أحد المقترحات المنهجية لتطوير أصول الفقه. يشرح الفقيه والأستاذ الباحث في الدراسات الإسلامية في جامعة ديوك في ولاية نورث كارولاينا الأمريكية محسن كديور هذا المفهوم، في الفصل السابع من كتاب "العدل والإحسان في الزواج: نحو قيم أخلاقية وقوانين مساواتية" الصادر حديثاً عن دار الكتب خان، ملقياً نظرة جديدة على بعض الأحكام المتعلقة بالزواج والتي يراها "إشكالية وغير مقبولة، وفقاً لمعايير العدالة المعاصرة ومتطلبات الواقع".

يرى كديور أن مهمة الفقيه هي التحقق من أن الأحكام المتبناة باسم الإسلام عادلة وأخلاقية، وهو ما يتطلب منّا إعادة النظر في أصول الفقه، أي المبادئ والأسس التي تنبني عليها المنهجيات الفقهية التقليدية.

ويضيف أن "صلاحية الأحكام تتطلب أن تأتي هذه الأحكام متوافقة مع أربعة معايير، هي: العدالة، الأخلاق، العقلانية، والفعالية، وفقاً لمقاييس العصر".

يطبّق الباحث الإيراني منهجيته في دراسة أربعة مجالات متعلقة بأحكام الزواج وهي: زواج القاصرات، الحقوق والواجبات الزوجية، التفاوت في حق التطليق بين الرجال والنساء، وحق الرجال في تعدد الزوجات.

ويخلص إلى توصيات بخصوص المجالات الأربعة. في ما خص زواج الأطفال يقترح أن يحدد البرلمان السن الأدنى للزواج بعد التشاور مع لجنة مهنية تضم متخصصين في أمراض النساء وعلم نفس الشباب وعلم الاجتماع والمحامين ورجال الدين، وأن تُجرَّم أي ممارسة للجنس مع زوجة قاصر، حتى لو بموافقتها، وأن تُبطَل عقود زواج القصر. وفي الحقوق والواجبات الزوجية، يوصي بتشارك الزوجين في رعاية الأسرة، وفي المسؤوليات الاقتصادية، وفق ترتيبات تحقق صالح الأسرة. وعن حق التطليق، يعتبر أنه لا يجوز إنهاء الزواج من طرف واحد، وبالتالي على القاضي تولّي إجراءات الطلاق في المحكمة بعد سماع الطرفين والاقتناع باستحالة التوفيق بينهما. أما التعدد، فيرى أنه يجوز في حالة الضرورة، ولكن بشرط ألا ينتج عنه ظلم لأي من الأطراف المعنية، ولتنظيم ذلك ينبغي الحصول على إذن واضح من المحكمة، ومن الزوجة الأولى، وإلا تكون الزيجة الجديدة باطلة ومجرّمة.

تتحدث أستاذة العلوم السياسية في جامعة مصر الدولية، ورئيسة مجلس إدارة جمعية دراسات المرأة والحضارة، والباحثة في قراءة القرآن من منظور أخلاقي نسوي أماني صالح لرصيف22 عن أن جزءاً مهماً من الخلل في التعامل مع النصوص الدينية يرجع إلى النزعة التجزيئية للمنهج الفقهي التقليدي، أي التعامل على أساس آية بعينها، أو حديث بعينه، دون محاولة ربط الحديث بمجمل البنية العامة، أو بغيره من النصوص التي تتطرق إلى ذات الموضوع.

بالإضافة إلى ذلك، تتابع، هناك قواعد قرآنية ونبوية مسكوت عنها أو لم تُلتقط وتُستقبل نتيجة عدم كفاية الأدوات التقليدية، ومن ثم يضطر الباحث المعاصر إلى اقتراح أدوات بديلة أو مكمّلة لاستنطاق ما هو مقموع أو متجاهَل في النص.

وتضيف أن المؤسسات الدينية القائمة تقوم بتدريب الأفراد على تقديس ما يدرسونه دون تمييز بين ما هو مقدس وما هو بشري اجتهادي، كما تُبنى عقلية الباحث على حفظ الحجج والآليات التي قدّمها الفقهاء والمفسرون القدامى، وبهذا، ينتمي الباحثون من حيث بنائهم العقلي والمنطقي إلى زمن غير زمنهم.

وضع معقد وضبابي

بالحديث عن تجديد أصول الفقه، تقدّم أستاذة الدراسات الإسلامية المشارِكة في كلية إيمانويل في جامعة فكتوريا، وهي جزء من جامعة تورنتو الكندية، نيفين رضا، طرحاً آخر في الفصل الثامن من الكتاب المذكور، وتعرض لما تراه أهم مشكلات أصول الفقه.

تعترض رضا في دراستها على عدم تغيير منهجيات أصول الفقه، وتجاهُل حقيقة ظهور الدولة القومية الحديثة، ومعها صارت المؤسسات القانونية مختلفة اختلافاً شاسعاً عن نظيراتها في مجتمعات ما قبل الحداثة.

"لا نزال مجرد مقلّدين لتراث قديم، عاجزين عن تطويعه ليناسب واقعاً شديد التغيّر، ومليئاً بتعقيدات وأسئلة تنتظر إجابات شافية"

تلخص رضا المشاكل الخاصة بأصول الفقه وعلاقتها ببعضها كما يلي:

في فهم القرآن، توجد إشكاليتان رئيسيتان، الأولى هي تجاهل معظم الآيات القرآنية في عملية استنباط الأحكام، والثانية هي تفسير الآيات بشكل تجزيئي.

أما في ما خص السُنّة فتظل الاستعانة بالأحاديث في استنباط الأحكام أمراً إشكاليّاً، بسبب الثقل الكبير الذي يُعزى إلى الأحاديث، والتي يُعَدّ تفسيرها مهمة صعبة، لأنها روايات قصيرة ومقتضبة، ولا تخبرنا عن السياق المحيط، مما يجعلها قابلة لتفسيرات عدة. كما أنه لا يمكننا الاستعانة بحديث لتفسير آخر مثلما نفعل مع آيات القرآن. هذا عدا التعارض بين بعض الأحاديث، مع ندرة الأحاديث المتواترة (أي تلك التي رواها اثنان أو أكثر من الرواة الثقات) أو انعدامها في بعض الأمور.

إجماع أم شورى؟

وترى رضا أنه إذا نظرنا إلى الإجماع، سنجده مفهوماً ضبابياً، يكاد يكون من المستحيل تحديده بوضوح، وهو ما يظهر جلياً في التصورات المختلفة للعلماء حول الإجماع، والتي جاءت متباينة وأحياناً متعارضة.

"المؤسسات الدينية القائمة تقوم بتدريب الأفراد على تقديس ما يدرسونه دون تمييز بين ما هو مقدس وما هو بشري اجتهادي، كما تُبنى عقلية الباحث على حفظ الحجج والآليات التي قدّمها الفقهاء والمفسرون القدامى"

ومع ذلك، برأيها، ساهم الإجماع في عصرنا الحالي في إضفاء القدسية على بعض الأفكار، بدعوى أنه ينقل الحكم من الظني إلى القطعي، مما يجعله عاملاً أساسياً في إعاقة جهود الإصلاح. أما القياس، فلم تقدّم المذاهب التي تأخذ به أي آليات تضمن تطبيقه بشكل ممنهج في ما يتعلق بحقوق النساء.

إعادة بناء أصول الفقه؟

ترى رضا ضرورة مراجعة أصول الفقه وإعادة صياغتها على نحو يتسق مع طبيعة التراث الإسلامي الحيوية والتفاعلية، وبما يتناسب مع السياق الحالي، من خلال منهج فقهي روحاني يتمركز حول القرآن، ويعطيه ثقلاً أكبر من المصادر الأخرى.

وعن سؤال عمّن يحدد السياق الحالي، تجيب رصيف22 أنهم مَن يتصدون لعملية الاجتهاد الأخلاقي/ القانوني، فيمكن أن يكون البرلمان أو المجالس النيابية، كما يمكن أن يقوم بذلك الأفراد حينما يقومون باتخاذ قرارات خاصة بهم.

وتقترح الكاتبة إعادة النظر في الأصول بحيث يتم التعامل مع القرآن بدمج البعد الأخلاقي والروحاني، والاعتماد على جميع آيات القرآن (وليس آيات الأحكام فقط).

وفي ما خص السنّة، تقترح الاستعانة بالأحاديث إلى جانب مصادر أخرى، مثل القرآن والعقل، بشرط ألا تتعارض مع القرآن وإطاره الأخلاقي.

كما تقترح الاعتماد على الشورى بدلاً من الإجماع، لأن الإجماع يقتصر على نخبة من العلماء، في حين تسمح الشورى بتوسيع رقعة المشاركة.

بعد انتقاله من العراق إلى مصر، طوّر الإمام الشافعي نظريته الفقهية وآراءه بما يتناسب مع الزمان والمكان. ربما حان الوقت للتفكر في هذه القصة وفي غيرها من القصص التي تضفي على الفكر الفقهي في الإسلام طبيعة تعددية ومنفتحة

وتتحدث عن إمكانية تنفيذ مبدأ الشورى قانونياً، من خلال البرلمان والمؤسسات التشريعية، لكن ذلك يتطلب وجود تمثيل مناسب للنساء في تلك المؤسسات. أما بالنسبة إلى تطبيق الشورى فقهياً، فيمكن أن يتم عبر المجامع الفقهية التي تمارس الاجتهاد الجماعي، ولكن مع الأسف، فإن أغلب تلك المجامع لا يوجد فيها تمثيل عادل للنساء، بل لا يوجد فيها تمثيل للنساء بالأساس!

وتقترح آلية جديدة تسمّيها "الاستعدال"، وهي للأدوات العقلية في أصول الفقه، وتتمثل في المراعاة الدقيقة للعدل والقسط وفقاً لما يمليه السياق.

بعد انتقاله من العراق إلى مصر، طوّر الإمام الشافعي نظريته الفقهية وآراءه بما يتناسب مع الزمان والمكان. ربما حان الوقت لقراءة هذه القصة والتفكر فيها وفي غيرها من القصص التي تضفي على الفكر الفقهي في الإسلام طبيعة تعددية ومنفتحة، بدلاً من الإصرار على إعادة استنساخ أحكام زمن آخر، تتعارض بشكل صارخ مع العقل والواقع.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

لا يزال الماضي يحكمنا ويمنعنا من التقدّم، ولا يزال فقهاء عصرنا ينسخون من أفكارٍ بعضها فاق عمره الألف سنة، من دون التفكير في العلاقة بين النص الديني والواقع المعيش، وهو ما نسعى يومياً إلى تحدّيه، عبر احتضان الأفكار التجديدية الساعية إلى بناء عقد اجتماعي جديد يحدد دور الدين في الحياة ويحرره من السلطة السياسية. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image