وصلت رواية "الأصنام" للروائي والمفكر الجزائري أمين الزاوي، إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية هذا العام 2024. والأصنام هي مدينة في الغرب الجزائري أطلق عليها هذا الاسم العرب الفاتحون لمّا رأوا الأبنية الرومانية والأعمدة الضخمة فيها. ولكن بعد الزلزال الكبير في تشرين الأول/أكتوبر 1980، الذي عُرف بزلزال الأصنام، تم تغيير اسم المدينة بذريعة أنه جلب غضب الله عليها فزلزلها، فسُمّيت مدينة الشلِف (شْلِف).
ومن هذه المدينة ينطلق أمين الزاوي، أستاذ الأدب المقارن في جامعة الجزائر، لرصد واقع المجتمع الجزائري وتاريخ من التحولات المستمرة فيه بعد الاستقلال للنهوض واستعادة الهوية وتشكيلها تزامناً مع الحركة الأمازيغية من جهة، وصعود القوى الإسلامية من جهة أخرى، وما رافق ذلك من أحداث منذ انقلاب العقيد بومدين عام 1965، على أحمد بن بيلا، الرئيس المنتخب، بذريعة تصحيح مسار الثورة وإرهاصاته، وصولاً إلى تجنيد الشباب الجزائري للجهاد في أفغانستان وبؤر القتال المشتعلة في العالم على أسس دينية تحت تأثير الإسلام المتشدد الذي فعل بأبناء بلده ما فعل وزجّ بالشباب منهم في معارك لا تخدم مجتمعاتهم التي تعيش أزماتها الخانقة والحادة.
يفضح الكاتب سلوك الجماعات الإسلامية التي أرادت الاستئثار بالهوية الجزائرية وفرض لونها على باقي المكونات، إذ طرحت الإسلام حلّاً لكلّ المشكلات، فاغتالت الشاب الأمازيغي كمال أمزال، أحد ناشطي الحركة الأمازيغية
حمل البطل اسم محيميد، وهو الاسم المتداول شعبياً للرئيس أحمد بن بيلا، وأخته التوأم حميدة، إذ وُلدا في يوم الانقلاب نفسه وهو ما عدّته السلطة الجديدة انتصاراً للنظام السابق، فقامت باعتقال الأب عللا فليتا، وهو رفيق كفاح أحمد بن بيلا في صفوف الثورة، في رسالة لتطويع الناس وعدم القبول بمساندة القديم ولا بالتطلع إلى جديد غيرها ولا بالاختلاف عنها، وتدليلاً على التحول الذي جرى للثورة وفقدان رجالها مكانتهم مقابل مصالح الحكم، ما يعيد التفكير في ذرائع التصحيح التي قام من أجلها الانقلاب.
وما حكاية الصرصور الذي كان رفيق الأب في السجن وتلاشيه في قميصه ثم ظهره سوى تأكيد على الذل والمهانة اللذين شعر بهما الأب، والتصغير والمسخ الذي يوجبه الذل الممارس من السلطة على الإنسان، معيدةً القراء إلى قصة "المسخ" لكافكا ضمن الإشارات الكثيرة التي استخدمها الكاتب بذكاءٍ لتصوير وتوصيف الأحداث التي كانت تقلب المجتمع الجزائري على سفودها، في تنويع بين الفانتازيا والترميز كإصابة أخت محيميد الشابة بمرض غريب حيث تخرج من ساقها ديدان زرقاء تلتهم اللحم ولا تشفى إلا بتجريف الساق من لحمها مما أبقى الساق في تشوّه دائم.
كان اعتقالُ الأب البدايةَ، وضربةً أولى تلقّاها جيل الثورة ليأتي الغد بأحماله من التغييرات وصولاً إلى الزلزال الحاصل بعد سنوات، إذ يفقد الأب رشده ويتيه في المدينة المنكوبة وكأنه لم يعد يحتمل، متخذاً من ساحة الحرية مكاناً لإقامته في مفارقة قاسية، إذ كان هو من رفع علم الاستقلال فيها لينتهي مشرّداً بين شوارع المدينة ومقبرة الشهداء.
دفع اعتقالُ الأبِ عشيةَ الانقلاب أفرادَ العائلة لمناداة الطفل "محيميد" بأسماء أخرى، أبرزها يونس، الاسم الذي اختارته أمه إحياءً لأخيها الذي تهرّب من النضال ضد الاحتلال فأعلن عن موته غرقاً. أورث محيميد هذا الاسم خوفاً كبيراً من البحر وفضولاً لاكتشافه إلى أن تصالح معه على يد صهره مصطفى الذي أمسك بيده وجعله يغسل فيه قدميه، بعد أن كان يكتفي بمشاهدة صوره في مكتبة السيدة أورطو، التي كانت تقرأ له قصائد عن البحر وتترجمها كما تترجم له طعم الرجولة الأول.
إنها رواية الانكسار والخيبة وصعود الساسة وتجار الأفكار والسياسة. فهل يدرك الجيل الشاب الغارق في بحر الحياة العاتي، طريقَ النجاة منه، على طريقة يونس الناجي، كما أنهى الكاتبُ الرواية؟
يذيّل الكاتب عنوان الرواية بعبارة "قابيل الذي رقّ قلبه لأخيه هابيل"، في إشارة إلى تفكيك سردية القتل التي حملت أعباءها علاقة الأخوة عبر التاريخ، فمحيميد البطل لم يقتل أخاه مهدي بل كان حاميه في البلدة دائماً ثم انتقم له بعد سنوات ومعاناة طويلة كلفته السفر إلى أفغانستان مع قتلته من الشباب المتطوع لنصرة المجاهدين الأفغان. كما يخبرنا عن مصاعب تلك الرحلة وصولاً إلى كابول والمعاناة هناك حيث كل شيء يبيحه الجهاد حتى اللواط بأخوة السلاح، مع أنهم قتلوا مهدي الفنان والمثقف لأنه مثلي! يقتل محيميد قائد الكتيبة انتقاماً لأخيه مخلصاً أخوّة الدم من العبء التاريخي للجريمة! فالقاتل هو المقولة التي تنفي الآخر المختلف والشراكة معه وتعطل عقل أتباعها، إخوة الوطن، وتحولهم إلى قتلة. إنها الطريقة البدائية القديمة لعدم قبول الاختلاف منذ قتل قابيل لهابيل الذي لم يكن إلا تجسيداً لمبارزة بين نمطين من أساليب العيش: مجتمع الصيد ومجتمع الزراعة، وما تلاه من حضارات بُنيت على هامش الأسطورة بما تحمله من حنين إلى الطبيعة والعيش خارج الأسوار.
يفضح الكاتب سلوك الجماعات الإسلامية التي أرادت الاستئثار بالهوية الجزائرية وفرض لونها على باقي المكونات، إذ طرحت الإسلام حلّاً لكل المشكلات، فاغتالت الشاب الأمازيغي كمال أمزال، أحد ناشطي الحركة الأمازيغية إذ رأت أن الربيع الأمازيغي المنطلقة شراراته في ثمانينيات القرن الماضي ليس إلا مؤامرة كبرى مسيحية صهيونية ضد الإسلام والعروبة، حسب رأي دكتور علم النفس المحاضر في الجماعة. كما يفضح كيف كانت هذه الجماعات تستفيد من مؤسسات الدولة وخدماتها لتعمل على هدمها من الداخل وسرقة الشباب وتجنيدهم لأهدافها بعيداً عن الاهتمام بالواقع والمجتمع الذي يعيشون فيه، وكيف وقع المجتمع تحت ضغطها وزيف ما تدّعيه من حرص وإيمان ومبالغة في إظهار التقيد بالشعائر كالتسابق لاقتناء مكبرات الصوت لرفع الصلاة ونمط خطب الجمعة التي تدعو لنبذ الاشتراكية لأنها مسؤولة عن انحدار المجتمع، بينما يكشف النقاب عن الممارسات اللا أخلاقية كالدسائس والاغتيالات والتعاطي وحياة الشيوخ المتناقضة مع الإيمان الحقيقي والشعارات التي يسيطرون بها على عقل الشباب.
كان الزاوي صاحب رواية "حادي التيوس" و"الساق فوق الساق في ثبوت رؤية هلال العشاق"، جريئاً في طرح قضية الأديان ونقدها من حيث تعاطيها مع الإنسان وبنائه الروحي والعناية بالجوانب الجمالية للإيمان وإشباع الروح عند الأتباع الذين يتفاوت احترامهم لطقوس الديانات الأخرى ولبيوت عبادتها، وفي عناية كل منها بدور العبادة -بيوت الله- الخاصة بها من حيث نظافتها ورائحتها وجمالها. ثم كيف بدأ المجتمع الجزائري يفقد التنوع في مكوناته منذ بدء رحيل عائلات من الطوائف المسيحية واليهودية ليفقد أطراف التعدد واحداً تلو الآخر، ويتم الاستغناء عن شركاء الوطن الممتدين في التاريخ والجغرافيا مئات الأعوام من يهود ومسيحيين وأمازيغ.
إنه التنوع الذي خاض الحرب ضد فرنسا بكامله كالشيخ اليهودي الشوراكي الذي كان يستقبل الثوار في كنيسه للاجتماع، ويقول هذا ليس سوى ردّ صغير لجميل فعله شيخ جزائري أخفى الأطفال اليهود في جامع للمسلمين في فرنسا على أنهم مسلمون وحماهم من النازية، ثم نرى انقلاب الحال وسيطرة البلدية على الكنيسة والكنيست اليهودي وتحويلهما إلى مساجد، كما أزيح شركاء الثورة المنتخبون عن سدة الحكم ولهذا كان السؤال المكرر الذي يتردد في رأس محيميد: "ماذا يعني الاستقلال؟ هل يعني أن نعيش وحدنا دون الآخرين؟ فها هي الكنائس والكنيست تحولت إلى مساجد للمسلمين لكنهم بقوا غير سعداء، أين يكمن الخلل فينا أم في غيرنا أم في طريقة تعاملنا مع الآخرين ومع المكان؟".
لم يخفف ذلك الخلل انتهاء فترة العنف وظهور الأحزاب السياسية إلى العلن والنشاط بعد أن بقيت أكثر من ربع قرن في حياة سرّية. أحزاب متنوعة الاتجاهات من عروبية وأمازيغية، شيوعية ودينية، أي أكثر من 66 حزباً، فالأمل تسحبه الصدمة وسنرى أن هذه العودة رافقتها عودة الخال يونس وكأن البحر قد نطقه ليصبح شخصيةً مرموقةً في السلطة يمثلها في حضور جنازة عللا فليتا، صهره، وهي المفارقة المرّة إذ تم تحييد الثوار الحقيقيين الذين حملوا أرواحهم على كفوفهم دفاعاً عن حرية البلاد بينما استلم السلطة يونس وأمثاله الهاربون من واجب الكفاح الوطني ضد الاحتلال. لقد فازوا بالكعكة وقضى المناضلون تائهين.
تناول الزاوي الأحداث السياسية والاجتماعية الكثيرة والمتشعبة عبر مرورها بوعي الشاب محيميد، ليبدو السرد في كثير من الأحيان صوتاً داخلياً يستعيد فيه الأحداث ويمررها عبر خلجات نفسه تجاه المحيط والأحداث والعالم وفي طرحه الأفكار الوجودية التي شغلته
تناول الزاوي الأحداث السياسية والاجتماعية الكثيرة والمتشعبة عبر مرورها بوعي الشاب محيميد، ليبدو السرد في كثير من الأحيان صوتاً داخلياً يستعيد فيه الأحداث ويمررها عبر خلجات نفسه تجاه المحيط والأحداث والعالم وفي طرحه الأفكار الوجودية التي شغلته كموضوع الموت والعلاقة بالزمن وضياع الأب، فيقوم بتشكيل حكايات الشخصيات كما لو أنه يركّب قطع بازل، إذ أدار السرد الذي لم يلتزم بخط زمني بل تناوب بين الاسترجاع والاستباق وأخبار الحكايات، ليتجاور الماضي والحاضر في فصلين متعاقبين وفي قفزات زمنية ليست معنيةً بالتأريخ. ففي بعض الأحيان كان السرد يأخذ شكل لوحة متكاملة ومستقلة أي خارجة عن سياق التتابع الزمني في أسلوب يشدّ القارئ ويتركه متأهباً ومتابعاً بمتعة واكبتها متعة اللغة والشاعرية المنبثقة في أثناء السرد واعتماد تقنية اللعب على المفردات لتبدو أحياناً كالصدى.
كان محيميد شخصيةً رئيسيةً تتلقى العالم وتخبر عنه، وتتحول عبر الزمن من حال إلى حال، ويصف هذه التحولات بأسلوب المرايا والسرد الاستبطاني إذ يقدّم الجيشين والتحول داخل شخصية البطل وما يحدث فيها، خاصةً أن أخاه مهدي المقتول عاش في داخله فترةً طويلةً من الزمن وكان يستحضره ليجسده أمامه بشكل حقيقي ويدير معه الحديث والحوار بشكل مسرحي مشوق ظهر بقوة في فترة انتمائه إلى الإخوان الجهادي حيث كان يعيش شخصيتين، إحداهما معلنة كعضو معهم، والأخرى سرّية رافضة لهم، متنقلاً بين الذكريات والحدث والحلم وبين الحكاية والإرث التاريخي بأسلوب يتراوح بين القسوة والفانتازيا والحميمية التي تجذب القراء وتمتعهم.
إنها رواية الانكسار والخيبة وصعود الساسة وتجار الأفكار والسياسة. فهل يدرك الجيل الشاب الغارق في بحر الحياة العاتي، طريقَ النجاة منه، على طريقة يونس الناجي، كما أنهى الكاتب الرواية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.