شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"برغر" الحرب و"لازانيا" الحرب وأطعمة أخرى... الشيف الغزاوية ريناد، ابنة العاشرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والطفولة

السبت 19 أكتوبر 202411:18 ص

"تتمتع الفعالية الاجتماعية للأساطير بارتباط وثيق مع الحفاظ على الثقافة، خصوصاً ما يتعلق منها بالطقوس المترافقة مع المعرفة التي أنتجها الإنسان، فهي ليست قصصاً فولكلورية فحسب (وفي حالتنا هذه فيديوهات قصيرة)، بل أيضاً سياق ثقافي وسياسي".

لم أكن لأتخيل أن أكتب شيئاً مماثلاً وأنا أتحدّث عن طفلة في العاشرة من عمرها، أي في العمر الذي يجب فيه أن تكون أقصى أحلام الطفل هي حجم قطعة المارشميلو أو لون غطاء السرير وأي شخصيات الألعاب الكرتونية التي يجب وضعها على الحائط، لكني وجدت نفسي أكتب عن ريناد، الطفلة الغزاوية، التي تضع على كاهلها الصغير مهمة توثيق حياة لا كالحياة تحت موت لا كالموت، تتحدّث في الفيديو الذي نشرته الواشنطن بوست عن غزة كأنها "غزّتها" بمفردها، كأنها غرفتها المصنوعة من غيوم و"غزل بنات"، وتطبخ طعامها على طاولة خشبية صغيرة، وسط الشارع الذي أقفرته الحرب، بمساعدة أختها الكبرى.

لا تفقد أبداً ريناد الغزاوية، لمستها الضاحكة في صناعة "برغر" الحرب، و"فلافل" الحرب و"لازانيا الحرب، في سخرية مريرة من العالم الذي يرسل وجباته الجاهزة ساخنة إلى القاتل إضافة إلى صواريخه المعدّة لتقليص الفارق بين الجائع والميت

ما يهمني هنا هذه الأساطير الصغيرة، لا تلك التي تتحدّث عن الخلق والرسل وصراع الأنبياء والآلهة، بل تلك الأساطير الحديثة نوعاً ما، التي أنشأت مدناً صغيرة وقواعد للتعامل اليومي مع الدمع وبعض أشكال الأطعمة أيضاً، أنشأت شعباً لا ينسى طعام أمّه وأطفالاً يسحبون الموت من شعر أجفانه إلى حيث يرى كيف "يدحبر" المنسف ويقلّى البصل.

renadfromgaza

لم يتم توثيق كلمة "أسطورة" باللغة الفرنسية قبل عام 1803 وفي الإنكليزية عام 1838، وفي العربية، يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي: "سَطَّرَ فلانٌ علينا تسطيراً إذا جاء بأحاديثَ تُشبهِ الباطِلَ. والواحد من الأساطير، إِسطارةٌ وأُسطورةُ، وهي أحاديثُ لا نظام لها بشيء"، إذ إن الأساطير هي أباطيل لا سند لها، ويقول البعض إنها تعريب جاهلي للكلمة اليونانية "Historia"، وتفيد معنى الإخبار والسرد والخرافة، ولم يستعمل العرب كلمة أسطورة قبل الإسلام، لكن ما الذي يعرفه الفراهيدي، أو أي لغوي، عن أطفال غزة، ما الذي يمكن أن يقوله اليوم حين يرى ريناد، ابنة العاشرة، التي تروي حياتها بنتف صغيرة وابتسامة آسرة على مواقع التواصل، وتشارك جمهورها الواسع شغفها بالطهي ووصفاتها المفضلة، باستخدام الـ "لا شيء" تماماً، إذ إن "اللا شيء" هو الشيء الوحيد الذي تركه لوياثان العصر وآلته المدمّرة.

أدوات ريناد، بالإضافة لابتسامتها وإشراق وجهها وسمارها المتوسطي الساحر، وبقايا أطباق وطناجر مدعوكة وموقد "سفاري"، المواد الغذائية المقدّمة كمساعدات لأهل غزة، الملقاة من الطائرات أو المهربة مع المهربين، فتصنع منها ما يشبه الأسطورة، بمسميات مختلفة وظروف مختلفة، كالمقلوبة وشرائح السمك، وحتى الحلويات، ككعكة الشوكولا أو لفائف الموز، وهي حين تحصل على بعض اللحم يكاد وجهها يضيئ لطبخ المنسف الأردني، ولا تفقد أبداً لمستها الضاحكة في صناعة "برغر" الحرب، و"فلافل" الحرب و"لازانيا الحرب، في سخرية مريرة من العالم الذي يرسل وجباته الجاهزة ساخنة إلى القاتل إضافة إلى صواريخه المعدّة لتقليص الفارق بين الجائع والميت.

ريناد تفعل كالطفل الذي يقرع جرس بابك كل خمس دقائق ويهرب، ليخرجك من قيلولة الميت، من سكون الجثة، من العالم الذي تعرفه خاملاً وهامداً ومستسلماً كبرتقالة على طاولة، تحاول عصرها فينبثق العصير على وجهك، ليحرق عينيك ويوقظك من غفلة طالت

لا تنسى ريناد وهي تقوم بتحمير البصل، أو خفق القشطة، أن تتحدث عن المشاكل والظروف التي يعيشها أهل غزة، كالنظافة وشحّ المياه والأمراض، في وعي يتعدّى سنواتها العشر ليصبح الفيديو الصغير أشبه بتوثيق يومي للحياة الغزاوية تحت آلة القصف الإسرائيلية، أو الزقزقة التي يقوم بها عصفور في غابة يدرك أن مصيرها سيؤول للحرق.

لا أدري أين يقع تصنيف نشاط ريناد في حساب الأرباح والخسائر، لكني أرى أنه عبث ضاحك من لوثة القتل الإسرائيلية ومن أساطير الكتب المقدسة، لهو طفولي بمنتجات التكنولوجيا ما بعد الرقمية، وتحدٍ أيضاً، ليس على طريقة "الأبطال وأنصاف الآلهة" الذين يحتلّون الأسباب والحروب والمؤتمرات، بل على طريقة الطفل الذي يقرع جرس بابك كل خمس دقائق ويهرب، ليخرجك من قيلولة الميت، من سكون الجثة، من العالم الذي تعرفه خاملاً وهامداً ومستسلماً كبرتقالة على طاولة، تحاول عصرها فينبثق العصير على وجهك، ليحرق عينيك ويوقظك من غفلة طالت.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image