شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
في شوارع بيروت... الوجه المقلوب للحرب

في شوارع بيروت... الوجه المقلوب للحرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والفئات المهمشة

الثلاثاء 15 أكتوبر 202410:54 ص

"عيشة الحيوان، أفضل": قال لي رجل من ذوي الاحتياجات الخاصة، يفترش الأرض قرب جامع الأمين في وسط العاصمة بيروت، يده تمسك بأدوية لم تعد تكفيه.

في الأسبوع الماضي، تجوّلت مع زميلتي في ساحة الشهداء، حيث تملأ بقايا الأرواح المكسورة الشوارع. تحدثنا مع أسر، أمهات، أطفال وكبار سن، أشخاص فقدوا منازلهم قبل أيام قليلة، وها هم الآن ينامون تحت السماء المكشوفة بعد أن شرّدهم القصف الإسرائيلي المتواصل.

الألم يملأ الأجواء. ارتجفت أصواتهم من اليأس وهم يسردون اللحظة التي تمزّقت فيها حياتهم. كل قصة بقاء كانت أكثر إيلاماً من التي سبقتها. الدمار من حولهم ليس مجرّد دمار مادي، بل جرح عاطفي عميق، يأبى الالتئام. الكلمات التي أحاول بها نقل هذه المعاناة عاجزة أمام حجم البؤس الذي رأيته. واقع يجب أن يسمعه العالم.

مع غروب الشمس فوق بيروت، يسود المدينة هدوء لا يشبه الطمأنينة. الشوارع التي كانت تشهد على حياة يومية مليئة بالحركة والضوضاء، تحولت إلى مكان آخر تماماً، مكان أصبحت فيه الأرصفة فراشاً، والأكياس البلاستيكية حواجز تفصل بين حياة المنكوبين، وأصبح البقاء على قيد الحياة هو التحدي اليومي.

كل قصة بقاء كانت أكثر إيلاماً من التي سبقتها. الدمار من حولهم ليس مجرّد دمار مادي، بل جرح عاطفي عميق، يأبى الالتئام. الكلمات التي أحاول بها نقل هذه المعاناة عاجزة أمام حجم البؤس الذي رأيته. واقع يجب أن يسمعه العالم

ركعت زميلتي لتضع الميكروفون بالقرب من رجل مسن. يخفض رأسه، وكأنه يشعر بالخجل: "لقد مرّ أسبوعان منذ أن استحممت آخر مرة"، يهمس: "أنا آسف". اعتراف هادئ بالكرامة المفقودة. يواصل بصوت مثقل باليأس: "أغلق المسجد أبوابه أمامنا. لا يمكننا حتى استخدام المرحاض". تكشف كلماته ليس فقط عن فقدان المأوى، بل وفقدان الإنسانية. في مكان حيث يجب أن نجد ملاذاً، تُركوا مهجورين، محرومين من كرامتهم.

بين أكوام المتاع المبعثرة، تتجلى قصص لا تُروى في نشرات الأخبار. شاهدت في إحدى الزوايا زوجاً من الأحذية الرياضية القديمة مرمياً على الأرض. لم يعد الحذاء مجرّد قطعة من الملابس البالية؛ بل أصبح رمزاً لأولئك الذين فقدوا كل شيء. أصبح رمزاً للهروب. أحذية ارتدوها على عجل، وهربوا من تحذيرات القصف التي لا تعطيهم حتى الوقت الكافي للخروج. هؤلاء الناس لم يعد لديهم مأوى، والشوارع أصبحت هي منازلهم الجديدة، لكنها منازل بلا سقف، بلا جدران تحميهم من قسوة هذا العالم.

كيف لهذه الشوارع، التي شهدت انتفاضات وحركات تطالب بالحرية، أن تتحول إلى مسرح لمأساة إنسانية بهذا الحجم؟

الوجوه المتعبة التي تجلس على الأرصفة تحمل قصصاً أكثر عمقاً مما قد يبدو للعيان. على بُعد خطوات، مرّت شاحنات محملة بالفرش، قطع صغيرة رفيعة لا توفر الراحة، في وسط هذا الصخب، شاهدت مشادة حادة بين النازحين حول أحقية الحصول على فرش. الأعداد لا تكفي الجميع.

اقتربت من مجموعة من النساء الجالسات على الأرض وسألتُهن عن احتياجاتهن كنساء. قالت إحداهن: "ماذا نحتاج؟ كل شيء. لا نملك شيئاً"، وأضافت أخرى: "انظروا حولكم، لا توجد أي خصوصية للنساء هنا". بجانبهن جلست امرأة حامل، رافضة أن تنطق بكلمة، لكن صمتها كان أبلغ من أي كلام يعكس بوضوح حجم المعاناة.

"لا أحد يسأل عنا": قال لي أحدهم بصوت يحمل في طياته تعب العالم أجمع، وأضاف: "كبار السن هنا لا يجدون أدويتهم". هذه الكلمات لم تكن مجرد شكوى عابرة، بل كانت تعبيراً عن إحساس عميق بالخذلان والنسيان.

مع كل خطوة، يزداد حجم الفوضى، وترى المزيد من العائلات تتشبّث بما تبقى لها من حياة. امرأة ترضع طفلها على فرش مهترئ، بينما تحاول الحفاظ على كرامتها في ظروف غير إنسانية. الأغطية التي تلفّ أجسادهم ليست فقط للدفء؛ إنها حاجز بسيط يضعونه بين أنفسهم والعالم الذي تخلى عنهم.

في إحدى الزوايا، تجد أكواماً من الأكياس البلاستيكية المليئة بالبقايا المتناثرة من حياة هؤلاء الناس. داخل كل كيس، تكمن قصص خسارة: زجاجات مياه، ملابس، وبعض الألعاب البالية التي لم تعد تملك معنى سوى أنها تذكرهم بما كان. إنها رموز لخسارة أكبر، لخسارة الهوية، الأمان والانتماء.

في هذا المشهد الفوضوي، يتكرّر السؤال الذي لا يجد إجابة: ماذا عن الأطفال؟ الأطفال الذين يجلسون بلا حراك، بعيون مليئة بالاستفهامات والصمت. هؤلاء الأطفال، الذين من المفترض أن يكونوا في مدارسهم يلعبون ويتعلّمون، يجدون أنفسهم الآن يتعلمون البقاء على قيد الحياة في شوارع بلا أمان.

هذا الواقع الجديد لا يقتصر فقط على العائلات اللبنانية. العمال المهاجرون، الذين كانوا جزءاً لا يتجزأ من حياة لبنان اليومية، يجدون أنفسهم الآن في نفس القارب، يتشاركون معاناة النزوح والتشرّد. كانوا جزءاً من النسيج الاجتماعي للبنان، لكنهم اليوم يعيشون على نفس الأرصفة مع العائلات اللبنانية. تقول إحداهن: "تركت لوحدي، لا أستطيع أن أجد عملاً حتّى، وحتىّ لو وجدت، كيف لي أن أعمل في النهار وأنا لا سرير أنام فيه ولا أنام أصلاً من أصوات القصف يومياً؟".

وقفت غارقًة في التفكير فيما يمكنني إنقاذه في حال تحتم علي الهروب، لم أستطع إلا أن أفكر في أولئك الذين لم تُتح لهم الفرصة أبداً. الأشخاص الذين التقينا بهم في ساحة الشهداء. حياتهم، ذكرياتهم، وممتلكاتهم تحولت إلى رماد

كيف لهذه الشوارع، التي شهدت انتفاضات وحركات تطالب بالحرية أن تتحول إلى مسرح لمأساة إنسانية بهذا الحجم؟

عدت إلى المنزل، ووجدت نفسي أحدق في كل ممتلكاتي. أدركت حينها أنه إذا تلقيت إخطاراً يهدّد حياتي بضرورة الإخلاء، سأقف عاجزة، غير قادرة على تحديد ما الذي يجب أن آخذه أولاً. الصور المعلقة على الجدران، الأثاث، فنجان القهوة المفضل، مكتبتي... ليست مجرد أشياء، إنها أجزاء مني، منسوجة في تفاصيل حياتي اليومية. هذه ليست مقتنيات مادية فحسب، إنها جوهر حياتنا، القطع الصغيرة التي تربطنا بعالم يمكن أن يتمزق في لحظة.

وبينما وقفت غارقًة في التفكير فيما يمكنني إنقاذه في حال تحتم علي الهروب، لم أستطع إلا أن أفكر في أولئك الذين لم تُتح لهم الفرصة أبداً. الأشخاص الذين التقينا بهم في ساحة الشهداء. حياتهم، ذكرياتهم، وممتلكاتهم تحولت إلى رماد. الصور التي كانوا يعتزون بها، وحتى البساطة التي يجدونها في فنجان قهوة، كلها اختفت في لحظة.

في هذا المكان، في هذه الشوارع المليئة بالفوضى والبؤس، يتجلّى الوجه الحقيقي للحرب: إنها ليست فقط في المعارك والأسلحة، بل في حياة الناس التي تنقلب رأساً على عقب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image