شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"آخر إيام الصيفية" للبناني في بلاد "الباغيت"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الجمعة 18 أكتوبر 202411:31 ص

كلما طلع الضوء، أفتح هاتفي، مذهولاً، مترقباً ما قد أرى. هل انمحى البلد؟ هل انهار العالم بأجمعه؟

أفتح هاتفي مرة جديدة، فالصباح رباح، وقد يخبئ أملاً جديداً: نهاية الحرب وبالتالي تساقط الكونفيتي وفتح قناني الشامبانيا احتفالاً، لكن كما كانت تقول تيتا لطيفة في ذلك الإعلان: "يلا معليش، أوتْر فْووا".

أشعر أنني عالق في حلقة مفرغة: أفتح الهاتف، يأكلني القلق، أقفل الهاتف، يأكلني الفضول، وأعيد، كأني مزروب في لعبة "الثعبان" التي كنا نلعبها على هاتف النوكيا، إنما لا تنتهي اللعبة عندما يأكل الثعبان ذيله، لا بل يعتاش منه، فيتابع الأكل.

على سيرة الأكل، هل ستتوقف هذه الشراهة التي بدأت منذ اندلاع الحرب؟ لو كان بإمكاني لغطّست البرّاد بالنوتيلا وأكلته بأمه وأبيه. أعود وأقفل البرّاد، فليس عندي نوتيلا ولا أحبها أصلاً.

*****

أتصل برفاقي لأطمئن عليهم، وبعد كل اتصال، أزيد معلومة على جدول إحصاءاتي. حسب ما راقبت حوالي، اللبنانيون ينقسمون إلى قسمين: قسم ينام وقسم يسهر.

القسم الذي ينام يعيش في غيمة. تراه على إنستاغرام، يتسكّع ويتمختر وحياته "رواء كتير". قد يعيش في كسروان أو في برمانا، حيث السماء صافية، الطبيعة خلابة والصيف يبرعم من جديد، وقد يكون في قلب بيروت ويقول: "ما عم نسمع شي والله، نمنا كل الليل".

أو قد يعيش في الاغتراب، فيعظك: "عمول متلي ما تسمع أخبار، ما فيك تعمل شي أصلاً".

أشعر أنني عالق في حلقة مفرغة: أفتح الهاتف، يأكلني القلق، أقفل الهاتف، يأكلني الفضول، وأعيد، كأني مزروب في لعبة "الثعبان" التي كنا نلعبها على هاتف النوكيا، إنما لا تنتهي اللعبة عندما يأكل الثعبان ذيله، لا بل يعتاش منه، فيتابع الأكل

أغتاظ من هذا النائم، يخطر على بالي أن أخضّه ليستيقظ ويشعر بما نشعر، ثم أقول في نفسي: "نيالو، عالقليلة يكون في حدا منا منيح".

أما القسم الثاني، قسم "السَهّيرة".

يتغير السهر إذا ما كنت في لبنان أو خارجه. للمقيمين على أرض الوطن، عدم النوم يأتي من الخوف ومن صوت القنابل، أما عند غير المقيمين في لبنان، تأتي اليقظة مع خياله الكبير الذي يأخذ كل المساحة... سيداتي سادتي، نقدم لكم: (دق طبول) فيلم "الشعور بالذنب".

لا أعلم ما إذا كان ضرورياً التعريف عن هذا الشعور، ولكنه يبقينا، نحن المغتربين، متسمّرين أمام هواتفنا، فنسمع فيروز تارة، نبكي تارة أخرى، ننشر فيديوهات وصور على مواقع التواصل الاجتماعي، نذهب إلى التجمّعات، نصرخ، ننادي ونغني: "من هون ما منفل، حصرم بعين الكل"، ثم تسكت الموسيقى، ينتهي التجمّع، فنذهب كلنا معاً إلى مقهى باريسي لنحتسي الماتشا.

هنالك، نعبر عن قلقنا ونشعر بالذنب، إنما هذه المرة كلنا مع بعض، كأننا فرقة مياس لكن بدون الغلامور. ندفع 6 يورو ثمن الماتشا، بينما نقارن رسائل الرجل الأبيض التي تنهمر علينا منذ أكثر من أسبوعين.

*****

يطمئن الرجل الأبيض علينا كل يوم تقريباً. يسألنا ماذا يمكن أن يفعل لنا، فهو يشعر بالعجز التام أمام مأساتنا، "وأنا كمان يا صديقي الرجل الأبيض، أنا كمان أشعر بالعجز التام أمام مأساتنا".

كنت أحب أن أصب غضبي عليه كما يفعل البعض: "كل الحق عليكن أصلاً وعا احتلالكن"، ثم أتذكر إني لا أملك الطاقة للجدال مع أحد بهذا الموضوع. 

عزيزي القارئ، إذا كنت قد أحببت لقب الرجل الأبيض، وأردت الحصول عليه، عليك أن تملأ هاتين الخانتين: الأولى أن تكون قد كبرت دون أن تعرف الحرب في بلدك، والثانية أن تحمل جواز سفر يجعلك تتنقل أينما تريد بدون أي مشكلة. أما إذا استطعت قراءة هذا المقال دون مساعدة المترجم الإلكتروني، فعلى الأرجح أنك لا تمتّ للرجل الأبيض بصلة.

المهم، أكره شفقة الرجل الأبيض، ولكن تقلقني فكرة عدم تلقي رسائله، فهذا يعني أن المعلومة لا تصله، أو أسوأ: هذا يعني إنو تعوَّد... فأفضل كلامه على صمته، وقلقه على اطمئنانه.

سوف أشارك معه مرة أخرى هذا الفيديو الذي تظهر وحشية الإسرائيليين، فما أكثر هذه الفيديوهات، على الرجل الأبيض أن يختار فريقه وأنا أحمل مسؤولية التبشير والتنوير: "أنظر ما قالوا! أنظر كيف دمروا بلدي".

هل أُرسل له الرابط الذي يمكّنه من تحويل المال إلى الجمعيات اللبنانية؟ هل يشعر أقل بالذنب إذا صرف ماله على الزكاة؟ هل يُخفض هذا صوته وتضامنه معنا؟ وما نفع هذا التضامن أصلاً؟

سألت صديقي رشاد، ما النفع، فأوروبا كلها لا تستطيع أن تحرك ساكناً؟ أحببت إجابته: "تغيير السردية. علينا نشر قصتنا من منظارنا، فيستمع الرجل الأبيض، وعندما ينقل كلامنا، يسمعه رجل أبيض آخر، هاي صارو رجلين بيض يخبران السردية نفسها"... يا للحظ السعيد.

عزيزي القارئ، إذا كنت قد أحببت لقب الرجل الأبيض، وأردت الحصول عليه، عليك أن تملأ هاتين الخانتين: الأولى أن تكون قد كبرت دون أن تعرف الحرب في بلدك، والثانية أن تحمل جواز سفر يجعلك تتنقل أينما تريد بدون أي مشكلة

أذكر عندما غطت طائرتي في أوروبا بعد أن علقت خمسة أيام في لبنان، انهالت عليّ الرسائل: "وصلت عا أوروبا؟ يعني أنت في أمان الحمدالله".

غطيت في أوروبا وانتابتني نوبة قلق دامت ساعتين. كيف يعني "الحمد لله أنت في أمان"؟ كل بلدي لا يعرف الأمان، من أين يأتي الحمد لله؟

لم أهدأ إلا عندما كلّمت معالجتي النفسية، استمعت لي وساعدتني من خلال بعض تمارين التنفس، فكل هذا ترف: عائلتي في منطقة آمنة، ولدي معالجة نفسية كفؤ، وأحياناً، عندما يضمحل القلق، أسخّر طاقتي للاستماع والاطمئنان على الأصدقاء.

"أنا محظوظ لكوني بعيد وبأمان"، قلت لصديقي إيلي، رد قائلاً: "محظوظ؟ والله يا شربل ما حدا محظوظ غير اللي فلّ وما عندو تعلّق بالبلد. إذا معلق بالبلد، وين ما حا تروح، متل الشبح رح يلحقك".

كيف أتخلّص من البلد، ومن تعلقي به؟ فلي عائلة هناك، لي أصدقاء هناك، لي أماكن هناك، لي طفولة هناك، ولي قصص حبّ هناك، وأريد أن أعود وأجدها كلها هناك، كما فعلت منذ هاجرت البلد. ولكن ها أنا هنا. في بيتي الباريسي، أكتب مقالاً عن بلدي، لعلي أقلّل شعوري بالذنب ولو قليلاً، وأذكّر وطنيتي بشبابها، وأتحسّر على أيام مضت، عندما كان أكبر مشاكلنا هو غلاء سعر بطاقة طائرة "الميدل إيست" للنزول إلى لبنان. آه لحظة، ما زالت بطاقة "الميدل إيست" غالية.

خلص... انس. سوف أفتح البرّاد وآكل مشاعري مرة أخرى أيضاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image