"كنت أجلس فوق كرسي وأتناول وجبة العشاء مع شقيقي. ولا أذكر شيئاً مما حصل سوى أن أكواماً من الحجارة أصبحت فوقي بشكل مفاجئ".
في تلك الليلة، سقط فوق منزل محمد مسمح (22 عاماً) ركام المنزل المجاور له، فاستشهد شقيقه وتحوّل والده الذي جلس في غرفة مجاورة إلى أشلاء.
"حين كنت لا أزال تحت الأنقاض، كان نصف جسدي السفلي مغطى بالركام ومخدراً تماماً، وكان سقف البيت مفتوحاً فوقي. رفعت رأسي إلى الأعلى وشاهدت القمر والنجوم في السماء الحالكة. فاعتقدت بأن روحي صعدت إلى السماء وأني الآن في الجنة"، يقول محمد لرصيف22.
ثمة آلاف من القصص لغزيين ظلوا وحيدين تحت ركام منازلهم، يفكرون بنجاتهم ونجاة أفراد عائلاتهم الذين فرقت بينهم الحجارة والإسمنت.
منهم من سُمعت أصوات استغاثاتهم فنجوا، وربما سُمعت لكن لم ينجوا في ظل انعدام المعدات والوقود الذي يمكن طواقم الدفاع المدني من إنقاذهم. ومنهم من نجا بمفرده باستخدام أدوات بدائية.
ربما مات كثيرون منهم وهم يعانون من إصاباتهم التي استنزفت أجسادهم، وربما ماتوا من العطش والجوع وانتظار صوت أو معجزة تخرجهم من جحيم الخوف.
وكان الدفاع المدني الفلسطيني قدّر بأنّ ثمة أكثر من 10,000 شخص في عداد المفقودين تحت الأنقاض في غزة.
وأشار إلى أنه يواجه تحديات هائلة في انتشال الجثث، بما في ذلك نقص المعدات والآلات الثقيلة والأفراد، محذراً من أن الأمر قد يستغرق نحو ثلاث سنوات لانتشال الجثث باستخدام الأدوات البدائية المتوفرة لديهم.
لا يسمعون صوت الصاروخ
نجا محمد مسمح وتعرض لإصابة في قدميه جراء هذا القصف الذي استهدف المكان الذي نزح إليه في حي الرمال شمال غزة، في عملية عسكرية نفذها الجيش الإسرائيلي بتاريخ 12 شباط/ فبراير 2024، ادعى على إثرها تحرير محتجزين إسرائيليين.
يؤكد محمد أنه لم يسمع صوت الصاروخ. يعرف الغزيون أن عدم سماعهم لصوت الصاروخ الذي يرميه الجيش فوق رؤوسهم سيعني بالتأكيد بأنه قريب جداً، قريب حدّ قتلهم.
كما يعرفون أنّ مجرد سماعه سيعني أنه بعيد، وسيعني نجاتهم.
"بدأت بالصراخ على مسمع رجال الإسعاف. وصرت أرمي الحجارة للأعلى لتنبيههم بوجود شخص حي في الأسفل، حتى نجحوا في النزول وقاموا بانقاذي"، يقول محمد.
رفعت رأسي إلى الأعلى وشاهدت القمر والنجوم في السماء الحالكة. فاعتقدت بأن روحي صعدت إلى السماء وأني الآن في الجنة
ويرى أنه كان محظوظاً بأن الركام غطّى نصف جسده الأسفل فقط. وهذا ما ساعده على الصراخ وإسماع صوته لمن في الخارج، كما أعانه على إزالته بنفسه قبل مجىء فرق الدفاع المدني والإسعاف إلى المكان.
يعاني محمد من تهتك في عظام قدميه نتيجة إصابته، فلا يقدر على الحركة. ولا يزال يعاني من آثار صدمة الفقد.
ومنذ قصف المنطقة، لم يعد إلى المنزل. "العودة تسبب لي الانهيار وتجدد لدي مشاعر الفقد والألم على عائلتي"، يؤكد محمد.
أما فداء أحمد (30 عاماً)، فعاشت قصة لا تنساها هي الأخرى تحت الأنقاض. فبعد مرور ساعتين ونصف من تضاؤل الأمل في نجاتها، بدأت تظهر تفاصيل جديدة إعجازية.
نجح رجال الدفاع المدني في إنقاذها، بعدما أكدوا أنها مفقودة تحت أطنان الحجارة والباطون، برفقة أفراد عائلتها الذين كانوا لا يزالون عالقين تحت ركام البيت في مخيم البريج وسط القطاع.
لمدة مئة وخمسين دقيقة، توقف كل شيء في حياة فداء. شعرت خلالها كأنها في تابوت.
"كانت الساعة التاسعة ليلاً، كنت أراسل صديقة تعيش في الخارج عبر "الواتساب". تواصلت معي لتطمئن على وضعنا في غزة. وفجأة تحولت الغرفة إلى ظلام دامس"، تقول فداء لرصيف22.
وتضيف: "لم أسمع صوت انفجار، شاهدت ضوءاً أحمر يشبه النار لحظة اشتعالها. وفي لحظة شعرت بأن الدنيا أطبقت على جسدي. لم أقو على التحرك، كأني مقيدة بأصفاد حديدية قوية جداً".
"نجوت من تحت الأنقاض لكني لم أنج من الخوف"
تصف فداء لحظة إدراكها بأنها تحت الركام: "لم أفهم ما حدث. شيء ما جرفني تحت قاع الأرض، وأصبح سقف المنزل فوق رأسي. حاولت النهوض، لكني فشلت. كان كل شيء في جسدي عاجزاً عن التحرك باستثناء عينيّ".
وتردف: "لم يتوقف حينها هاتفي النقال عن الرنين. إلا أني لم أكن قادرة على الرد. صرت أصرخ بصوت عال ربما يسمعني أحد. وأردد "أنقذوني". لكن من دون مجيب".
بدأت فداء تفقد أنفاسها، ثم نطقت الشهادتين وفقدت وعيها وهي تبكي. ظلت فاقدة لوعيها تحت الأنقاض حتى الدقيقة الأخيرة التي استيقظت فيها على صوت أحد رجال الأسعاف ينادي: "هل من أحد هنا؟".
"صرت أصرخ: نعم أنا ما زلت حية أرجوكم أنقذوني". لكن الرجل لم يسمعني رغم أنه فوقي مباشرة.
ومن حسن حظ فداء أن هاتفها رنّ، فأضاء أمام عيني رجل الدفاع المدني، فتتبع هذا الضوء وأزال الركام تدريجياً عنها حتى بانت يدها.
"حين لاحظ يدي، صار الرجل ينادي زملاءه بأعلى صوته: "يوجد أحياء هنا". بينما واصلت الصراخ حتى بح صوتي. وحين أخرجوني صرت أبكي. لم أصدق أني عدت للحياة من فم الموت مرة أخرى".
ربما ماتوا من العطش والجوع وانتظار صوت أو معجزة تخرجهم من جحيم الخوف
أصيبت فداء ببعض الخدوش في يديها وقدميها. وكانت قد طلبت من المسعفين ألا يحملوها، وتقف لتتأكد بأن قدميها سليمتان. خرجت وأدركت بأنها فقدت والدها وشقيقتها وعمها وعائلته المكونة من ستة أفراد كانوا نازحين عندهم.
"صحيح أني نجوت من تحت الأنقاض، لكني لم أنج من الخوف والرعب الذي لا يزال يلاحقني كلما ذهبت إلى النوم. أنظر إلى سقف الغرفة في البيت الذي نزحنا إليه وأتخيل أنه سيقع علينا في أي لحظة. ربما لن أنجو هذه المرة ولن يحالفني الحظ"، تقول فداء.
باب خزانة أنقذ طفلة
كانت العشرينية وسام جلال تحمل رضيعها محمد (9 أشهر) بين يديها، تجهز له الحليب مساءً في المطبخ. وبشكل مفاجئ، سمعت صوت حجارة تتساقط فوق منزلها في حين ملأ الغبار المكان.
ذهبت مسرعة نحو الغرفة التي تنام فيها طفلتها جنى (عام ونصف)، فلم تجد سوى ركام يغطي الغرفة كاملة.
"أصبت بانهيار وحالة من الهستيريا لحظة الركام يغطي غرفة طفلتي. لم أجدها. صرت أصرخ بصوت مرتفع حتى ينقذنا أحد. البارود يملأ فمي، ووجه رضيعي بين يدي يغطيه الرماد. لكنه كان يتنفس فاطمأن قلبي عليه"، تقول وسام لرصيف22.
وتتابع سردها: "هرعت مسرعة إلى الأسفل، فوجدت أن الاحتلال الإسرائيلي استهدف منزل جيراننا. ومع قوة القصف تساقطت جدران غرفة جنى. طلبت من أحد الجيران أن يسعف طفلتي".
كانت عملية البحث عن جنى معقدة جداً، استخدموا أدوات المطبخ والملاعق حتى يحفروا بين الركام، وهواتف نقالة حتى يضيئوا المكان. مرت ساعة دون أن يعثروا على جنى.
تواصلت الأم مع طواقم الإسعاف والدفاع المدني، لكنهم لم يصلوا إليها. "تراءت لي الكثير من السيناريوهات، من المحتمل أن تكون طارت من شباك نافذة الغرفة، أو تبخرت أو تقطع جسدها الصغير إلى أشلاء. صرت أبحث عن أي دليل، كيديها الناعمتين، أو قدمها الصغيرة، أو ربطة شعرها، إلا أني لم أجد شيئاً يدل عليها"، تقول وسام.
"وبعد أن فقدت أملي وعقلي، أزال الشاب الذي ساعدني في البحث، باب خزانة وقع أرضاً، ثم صار يصرخ ويقول "ها هي هنا سبحان الله، حماها بابا الخزانة"، تقول مضيفة.
توقعت الأم أن تشاهد طفلتها مضرجة بدمائها أو بدون رأس، بحسب تعبيرها، لكنها كانت نائمة ولم تشعر بشيء.
"أزلت عن جسدها الحجارة الصغيرة وعن وجهها الجميل غبار الركام. وحمدت الله أنها حية"، تختم الأم حديثها.
من المحتمل أن تكون طارت من شباك نافذة الغرفة، أو تبخرت أو تقطع جسدها الصغير إلى أشلاء. صرت أبحث عن أي دليل، كيديها الناعمتين، أو قدمها الصغيرة، أو ربطة شعرها، إلا أني لم أجد شيئاً يدل عليها
فأس لإزالة العالقين
يدفع تأخر وصول أجهزة الدفاع المدني إلى المكان المستهدف، بالناس إلى التطوع لإنقاذ الجرحى والمصابين بشكل فردي، معتمدين على أدوات بدائية ومتواضعة.
ويستخدم المنقذون الفؤوس والشواكيش لإزالة الركام عن الأشخاص العالقين بعد القصف.
فيما تواجه أجهزة الدفاع المدني تحديات مهولة في عمليات الإنقاذ والإسعاف، ناتجة عن النقص الحاد في المعدات والآلات الثقيلة والطواقم البشرية.
وقد يتأخر وصول الطواقم، بسبب نقص الوقود الذي يشغل المركبات، فيتأخر إنقاذ الجرحى والمفقودين.
وتتبع فرق الدفاع المدني عادة إستراتيجية في إنقاذ العالقين تحت الإنقاض حيث يقومون بوضع جدول بعناوين المنازل التي قصفت، لإنقاذ من ينجحون في إنقاذه بشكل أولي. ثم يعودون إلى المنزل حين يأتي دوره بعد شهر تقريباً، من أجل انتشال جثث الشهداء، كي تتمكن عائلاتهم من وداعهم ودفنهم.
ويلجأ أهالي العالقين تحت الأنقاض إلى الكتابة فوق الجدران الاسمنتية للمنازل المدمرة والتي تشير إلى وجود عالقين، موثقين اللحظة التي حوّلت أحبتهم إلى صروح لا تُرى وإلى ذكريات لا تُمسّ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...