يقضي الصياد محمود العامودي (38 عاماً)، وهو من مدينة خان يونس جنوب قطاع غزّة، أربع ساعات يومياً في عرض البحر، علّه يوفر قوت يومٍ لأسرته، مواجهاً المخاوف التي تنتابه خشية استهدافه من قبل الزوارق الإسرائيلية المنتشرة على طول الحدود البحرية لقطاع غزّة.
وعلى قلة ما يجود به البحر من أسماك، لا يجد محمود بُداً من أن يغامر بمركبه المتواضع، قاطعاً مسافة 150 متراً، ضمن مساحة ضيّقة لا تتيح له تنوعاً ووفرة في الأسماك، على غرار ما كان قبل حرب الإبادة الإسرائيلية، كما يقول لرصيف22.
وبالنسبة إليه، فإنّ قرار دخول البحر يعدّ مجازفة خطيرة. "لكن ليس لديّ خيار آخر، ولا أستطيع العمل إلا في مهنة الصيد"، يقول مؤكداً.
والحصار البحري لصيادي غزّة ليس جديداً. إذ سمحت إسرائيل في سنوات سابقة قبل الحرب بمساحة صيد بحري تصل إلى 15 ميلاً، أي ما يعادل كيلومترين ونصف.
لكن الحرب المستمرة لم تقلّص من مساحة عمل الصيادين فقط، بل عرضت حيواتهم للاستهداف والخطر. "قتلت إسرائيل أكثر من 30 صياداً منذ بدء الحرب، كما أصابت حوالي 15 آخرين بجراح مختلفة"، يؤكد نزار عياش، نقيب الصيادين، لرصيف22".
إلا أنه يقدّر أن الخسائر المباشرة التي مني بها قطاع الصيد، تبلغ نحو 60 مليون دولار. "فضلاً عن الخسائر غير المباشرة التي لحقت بالصيادين نتيجة توقفهم عن الصيد لما يقرب من عامٍ كامل وهو ما لا نستطيع إحصاءه حالياً لأن الحرب لم تتوقف بعد"، يضيف عياش.
مسافات الموت والحياة
منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فرضت إسرائيل قيوداً مُشددة على الصيادين، ومنعتهم من دخول البحر، وأطلقت النار على عدد كبير منهم بشكل مباشر.
تُقدّر الخسائر المباشرة التي مني بها قطاع الصيد، بنحو 60 مليون دولار
كذلك، دمّرت إسرائيل ميناء الصيادين الرئيس بمدينة غزّة، وأحرقت معظم مراكب الصيد فيه. وهكذا فعلت على طول الشريط الساحلي لقطاع غزّة الذي يمتد 42 كيلومتراً.
الصياد يوسف اللحام (35 عاماً) يمتلك قارباً يعمل على محركٍ كهربائي، بمقدوره أن يصل لمسافات أعمق، إلا أنه محروم من دخول البحر للمسافات التي اعتادها.
يُجازف يوسف بالصيد على مقربة من الشاطئ بقاربٍ بدائي يعمل على مجاديف يدوية. ومن على تلة صغيرة في الشاطئ، يشير إلى قارب صغير، قائلاً: "وصل هذا إلى مسافة 300 متر تقريباً، وهي أقصى نقطة يمكن الوصول إليها. لكنه أمر خطير، فهو يحمل روحه على كفه".
ويضيف: "الاحتلال استهدف مراكب الصيادين على مسافات أقل من ذلك، والطرّاد (الزورق الحربي) الإسرائيلي يُلاحقنا في كل اتجاه".
"لا أستطيع شراء كيلوغرام واحد من السمك"
وفي أسواق قطاع غزّة التي كانت تحفل بالثروة السمكيّة، تُعرض الآن أسماك قليلة وباهظة الثمن. يصل سعر كيلوغرام ما يتوفر منها إلى 80 شيكلاً (21 دولاراً)، بينما لم يتجاوز سعر الكيلوغرام منها قبل الحرب 25 شيكلاً (6 دولارات).
أمّا الأسماك المُجمدة التي تصل عبر معبر كرم أبو سالم فيطالها الغلاء هي الأخرى. إذ لم يتجاوز سعرها في السابق 9 شواكل (2.5 دولار)، بينما يصل الكيلوغرام منها حالياً إلى 35 شيكلاً (9 دولارات).
يلفت يوسف إلى أن الصياد يخرج بغلة يومية ترواح بين كيلوغرام و3 كيلوغرامات، ثم يبيع معظمها ويُبقي على بعض منها ليعتاش مع أسرته في ظل حرب التجويع المستمرة.
ويقول: "معظم الصيادين يخرجون بشباك فارغة، في موسم كان يملأ شباكهم بصنوف متنوعة وأحجام مختلفة من الأسماك".
ويعزو يوسف غلاء الأسماك لقلة المعروض منها، قائلاً: "الأسماك في هذا الموسم تكون على مسافات أعمق، تتجاوز 9 أميال بحرية (1.5 كيلومتر)، لكن لا يتاح لنا الوصول إليها واصطيادها".
ويردف: "ما هو معروض حالياً هو أسماك الشاطئ الصغيرة وسمك السلطعون".
يلاحظ المواطن محمد أبو غنيم (42 عاماً) هذا الغلاء، فيقول لرصيف22 إنه لا يستطيع شراء كيلوغرام واحد من السمك. "أصبح يُوزن السمك بالغرامات لقلته. بالكاد أستطيع شراء المجمّد منه، بعد أن كنت اشتريه طازجاً كل أسبوع قبل الحرب".
الصياد يخرج بغلة يومية ترواح بين كيلوغرام و3 كيلوغرامات، ثم يبيع معظمها ويُبقي على بعض منها ليعتاش مع أسرته في ظل حرب التجويع المستمرة
قطاع الصيد المحاصر والمُهمل
أمّا الصياد هيثم ماضي (32 عاماً)، فيعمل في الصيد على إطارٍ مطاطي، ولا يستطيع الصيد بقاربه المُتهالك لعدم قدرته على صيانته، نظراً لغلاء ثمن قِطع الغيار.
"يمنع الحصار الإسرائيلي الصيادين من صيانة مراكبهم وقواربهم، عبر منع إدخال مادة "الفايبر غلاس" اللازمة للصيانة، وبالتالي ارتفع سعرها أضعافاً مضاعفة"، يقول هثيم لرصيف22.
ويتابع: "كان ثمن الكيلوغرام منها 40 شيكلاً (10 دولارات). أمّا الآن فسعرها يتجاوز 500 شيكل (133 دولاراً). وحجج منعها من قبل الاحتلال واهية".
ويرى أن مجال الصيد بات محصوراً أمام الصياد بفعل اكتظاظ الشاطئ بالنازحين ونزولهم إلى البحر في معظم الأوقات. وهذا ما شكل بيئة طاردة للأسماك إلى العُمق، الذي لا يتاح العبور إليه بفعل الاستهداف الإسرائيلي أيضاً.
وعلى بعد أمتارٍ معدودة من مياه البحر، تتكدّس خيام النازحين التي ازدادت مع بدء دخول فصل الصيف، وتتالي موجات النزوح من المناطق التي هدّدها الجيش الإسرائيلي وأمر سكانها بالانتقال غرباً.
وعلى جانبٍ ليس ببعيد، يرمي الصياد رائد قنن (56 عاماً) بصنارته في عرض البحر منتظراً رزقه من الأسماك.
يقول رائد الذي امتهن الصيد قرابة 25 عاماً، إنه كان يوفرُ غذاءً له ولأسرته، ويُهدي إلى أقاربه وأصدقائه من غلته. لكنه الآن بالكاد يوفر قوت عائلته مما يصطاده.
ويشير إلى أن انحسار البحر وتراجعه دفن كثيراً من الصخور التي تتعاش بداخلها الأسماك وهو ما دفعها للوجود في الأعماق. "هذه الأسماك لا يُتاح للصياد بالصنارة الظَفْر بها"، يقول رائد.
ويُحذر من أن بعض الصيادين يصطادون أسماكاً صغيرة نتيجة استخدامهم شِباكاً ذات فتحات صغيرة، مؤكداً أن هذا الصيد يضر بالثروة السمكية في قطاع غزّة.
كيف يتعافى البحر والصيّاد؟
يطالب رائد، كغيره من الصيادين، نقابة الصيادين ووزارة الزراعة، بدعم الصيادين الفلسطينيين الذين تعطلوا عن العمل منذ بدء الحرب.
وإذا انتهت الحرب، يتوقع عياش أن محاولات التعافي لقطاع الصيد بحاجة إلى أكثر من عام- مع تكثيف الجهود لدعم الصيادين مادياً وبالمعدات اللازمة لعمله- نظراً لحجم الخسائر الهائلة في القطاع.
وذكر عياش أن بعض الصيادين، ورغم المنع الإسرائيلي من نزولهم إلى البحر، يصطادون في مجالات محدودة لتوفير لقمة البقاء لهم ولأسرهم.
ولفت النقيب إلى الجهود التي تبذلها نقابته بالتعاون مع منظمة "الفاو" ووزارة الزراعة والصليب الأحمر وجهات ومؤسسات أخرى لدعم الصيادين وعودتهم للعمل فور انتهاء الحرب، آملاً رجوع قطاع الصيد لسابق عهده في دعم الاقتصاد الفلسطيني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 11 ساعةجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 6 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.