يبدو أن عملية التطبيع الإيطالي مع نظام الأسد، تسير بأسرع مما هو متوقع، وباستعجال وحماسة بالغَين، وبخطوات "منهجية" ومتتالية. في 26 تموز/ يوليو الماضي، أعلنت الحكومة الإيطالية عن إعادة تعيين سفير لها في دمشق، هو السيد ستيفانو رافاجنان، وعن نيتها فتح السفارة هناك في أقرب فرصة ممكنة، بعد نحو 12 عاماً من قطع العلاقات بين البلدين، على خلفية تعامل النظام السوري مع الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت عام 2011 في معظم أنحاء البلاد.
وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني، قال في تصريح له إن هذه الخطوة هي "محاولة لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا لمنع روسيا (الداعم الرئيس للأسد)، من احتكار الجهود الديبلوماسية في البلاد". لكن قبل أيام، ووسط احتمالات انفجارات الشرق الأوسط برمّته، ودخوله في أتون حرب شاملة، وبتاريخ 19 أيلول/ سبتمبر الجاري، انسحبت روما، وبصمت، من مجموعة الأمم المتحدة المخصصة لمراقبة احترام حقوق الإنسان في سوريا، والتي تضمّ فرنسا وألمانيا وهولندا وقطر وتركيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإيطاليا.
تبدو الخطوة الأخيرة التي قد تليها خطوات سريعة وقريبة إضافية، إشارةً قويةً إلى أن حكومة اليمين المتطرف الحالية (أو يمين الوسط كما تسمّى في بعض الأحيان)، بدأت تفترق تدريجياً عن المسار الأوروبي ونهج بروكسل الذي كانت ملتزمةً به لأشهر، وعلى أكثر من صعيد، وضمن أكثر من ملف من بينها ملفات الشرق الأوسط، وأخذت تستبدل العلاقات والتناغم مع الدول الكبرى والرئيسية في الاتحاد، مثل فرنسا وألمانيا، بالعلاقات الأوثق مع دول أوروبية داعية إلى إعادة فتح العلاقات مع الأسد، وهذه الدول هي: النمسا وسلوفينيا وسلوفاكيا وكرواتيا واليونان والتشيك وقبرص. وبالفعل، وجهت هذه الدول ومعها إيطاليا رسالةً إلى المفوضية الأوروبية العليا تدعوها فيها إلى "مراجعة الإستراتيجية تجاه الأسد وتسهيل عودة اللاجئين".
عملية التطبيع الإيطالي مع نظام الأسد، تسير بأسرع مما هو متوقع، وباستعجال وحماسة بالغَين، وبخطوات "منهجية" ومتتالية... أي أفق وأي مستقبل للعلاقات بين الطرفين؟
أيّ تطبيع مع سوريا الحالية؟
في مقابل ما تداوله معظم الإعلام العربي والسوري المعارض وصفحات التواصل الاجتماعي حول هذه الخطوات، ويتراوح بين إعادة إحياء نظرية "المؤامرة على السوريين"، ورفض الخطوة بخطابات إنشائية ونضالية تشتم الغرب "المتخاذل والذي يكيل بمكيالين دائماً"، وفقاً للرطانة القومية واليسارية والإسلامية الشهيرة، كانت لكتَّاب وسياسيين ومثقفين إيطاليين تساؤلات تتعلق بمصلحتهم ومصلحة بلدهم في هذا النوع من التطبيع ومع هذا النظام بالتحديد، في ظل ظروف سوريا الحالية، وبالمكاسب التي يمكن أن تجنيها إيطاليا من ذلك، إلى جانب طرحهم ملفات حقوق الإنسان وانتهاكات نظام دمشق لها طوال 14 عاماً من عمر الصراع في البلاد.
تحت عنوان "سوريا: التطبيع مع العقبات"، كتب الصحافيان الإيطاليان البارزان ماتيو كولومبو وماورو بريمافيرا، مقالاً مشتركاً قالا فيه "إن النظام يظهر قيوداً هائلةً في إدارته للبلاد، ويثبت عدم قدرته على حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة التي ابتُلي بها السكان لأكثر من عقد من الزمن. فعلى سبيل المثال، لا تزال الخدمات الأساسية غائبةً بشكل شبه كامل في مدينة حلب، خاصةً في الأحياء الشرقية، بالإضافة إلى تلوّث المياه والتراكم الهائل للنفايات وانتشار الأمراض المعدية".
وأضافا: "في محافظة السويداء الجنوبية، تتواصل مظاهرات الطائفة الدرزية المناهضة للنظام، والتي بدأت قبل أكثر من عام وإن بشكل أقل حدّةً. وإذ حاولت الحكومة المركزية في البداية التوصل إلى تسوية مع الأقلية الدينية، إلا أنها حاولت في الأشهر الأخيرة نزع شرعية الحركة من خلال حملات التضليل والاعتقالات والاختطاف والاغتيالات؛ وتشمل القضية الأخيرة، قضية مرهج الجرماني، قائد إحدى المجموعات المسلحة المحلية الذي قُتل في 17 تموز/ يوليو الماضي. الجهود التي بذلتها الحكومة لم تكن كافيةً لتلبية الطلبات الأولية للسكان المحليين، كمكافحة الجريمة ومكافحة تهريب المخدرات. وأدى ذلك إلى صدع نهائي بين الطائفة الدرزية والحكومة المركزية".
ويتابع المقال مستعرضاً سوريا الحالية التي تطبّع معها إيطاليا: "يتزايد عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في أراضي الجزيرة التي يسيطر عليها التحالف الكردي، بالإضافة إلى عمليات الجيش التركي وهجمات خلايا تنظيم داعش، وهجمات القوات الحكومية على ثلاث قرى شرقي محافظة دير الزور في شهر آب/ أغسطس الماضي. وقد أدت العمليات العسكرية المستمرة، إلى جانب آثار الجفاف في المنطقة، إلى خلق حالة طوارئ صحية وغذائية خطيرة، بالإضافة إلى ما تسببت به أعمال المدفعية التركية من حرائق في حقول القمح المزروعة وبساتين الزيتون... وهناك أيضاً قضية أخرى ذات أهمية أساسية تتعلق بازدحام مخيم الهول للاعتقال، حيث تعيش مئات العائلات المرتبطة بمقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية السابقين منذ سنوات. وقد أصدرت الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا في 10 آب/ أغسطس الماضي، العفو العام العاشر، حيث نقلت 347 شخصاً من الهول إلى دير الزور ضمن خطة إعادة رجال الميليشيات الجهادية السابقين إلى قراهم وبلداتهم الأصلية".
يفنّد الكاتبان الواقع السياسي والاجتماعي والعسكري والأمني في عموم البلاد، وفي مناطق مختلفة أخرى، قبل أن يصلا إلى الخطوة الإيطالية وتطبيع حكومة بلدهم مع دمشق وسط محيط أوروبي رافض بمعظمه للتطبيع، وانتخابات أمريكية منتظرة لن تسهّل هذا المسار بالضرورة، حيث "لا تزال هناك عقبات مختلفة في وجه عملية التطبيع السياسي هذه، كما يتضح من القرار الأخير لمحكمة فرنسية بإصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوري بشار الأسد، بالإضافة إلى قرار الاتحاد الأوروبي مؤخراً فرض عقوبات على وزير الدفاع ورئيس الأركان. وأخيراً، لا يزال موقف الولايات المتحدة ثابتاً، وهو موقف معارض بحزم للتطبيع مع الأسد ولا ينبغي أن تكون هناك تغييرات مفاجئة خلال الأشهر المقبلة، إذ أكد المرشحان الرئاسيان موقفهما السياسي تجاه سوريا، المؤيد لعزل النظام. وفي هذا السياق، من المفيد التأكيد على أن عقوبات قيصر تمت الموافقة عليها من قبل إدارة ترامب، وتالياً فإنّ انتخابه قد لا يغيّر هذه السياسة على المدى القصير. أضف إلى ذلك أن هناك إحباطاً قوياً في الغرب مرتبط بعدم تعاون النظام السوري في مكافحة تهريب المخدرات، لا سيما الكبتاغون، المتهم بإنتاجه وتسويقه".
اللاجئون السوريون... أزمة أم ذريعة؟
منذ بداية عام 2024، وحتى لحظة كتابة هذا المقال، وصل إلى الشواطئ الإيطالية نحو 8،061 سورياً، وهو رقم كبير يجعل السوريين يحتلون المرتبة الثانية من بين الجنسيات الواصلة إلى إيطاليا. هناك مشكلة إيطالية حقيقية في القدرة على استيعاب واستقبال اللاجئين في ظل ضعف برامج الاستقبال على الصعيد الوطني، وفي ظل إغلاق أوروبا حدودها مع إيطاليا في وجههم، بحيث يُجبَرون على البقاء في هذه الأخيرة رغماً عنهم وعلى عكس رغبتهم، ما يزيد من شحن الأجواء المشحونة أصلاً بين اللاجئين والمهاجرين من جهة، وبين المجتمعات الإيطالية من جهة ثانية. وقد ورد في الرسالة آنفة الذكر والموقّعة من قبل إيطاليا وسبع دول أخرى أن "السوريين لا يزالون يغادرون بأعداد كبيرة، مما يزيد من الضغوط على الدول المجاورة، في فترة يتصاعد فيها التوتر في المنطقة، ما ينذر بخطر موجات جديدة من اللاجئين".
هناك تحليلات متفائلة تقول إن هذه الخطوة/ الخطوات الإيطالية تهدف إلى جرّ الأسد للدخول في عملية سياسية من خلال الانفتاح عليه، والضغط لأجل الحلّ السياسي وبما يتيح دوراً أكبر لإيطاليا على طاولة الحل، لكن هذه الفرضية غير دقيقة
حول مسألة الهجرة واللجوء وعلاقتها بالتطبيع الجاري، كتب الكاتب والصحافي الإيطالي ريكاردو كريستيانو، وهو المعروف بقربه من البابا فرنشيسكو شخصياً، (كتب) مقالاً حمّل فيه بعض دوائر الفاتيكان وأطرافاً مسيحيةً مشرقيةً (لبنانية خصوصاً) مواليةً للأسد، مسؤولية الضغط باسم المسيحيين لصالح النظام السوري والتطبيع معه، مشيراً في مقاله إلى أن "اللاجئين الذين هجّرهم الأسد قبل عقد من الزمن على الأقل، يشكّلون كابوس دبلوماسيتنا التي تثق به... ومنذ أن غرق لبنان في هاوية التحلل، لم يجد كثيرون كبش فداء أفضل من اللاجئين بدلاً من الضرر الناجم عن فساد الطبقة السياسية التي التهمت البلاد حرفياً... وقد أخذ حسن نصر الله على عاتقه شرح كيفية تحقيق الهدف: سيكون كافياً إطلاق بضع سفن مليئة بالسوريين نحو السواحل الأوروبية، وهو لم يكن مخطئاً في توقعاته. إن الدول الأكثر عرضةً للخطر، مثل إيطاليا، التي لا تعرف من الذي يدير حقاً الاتّجار بالبشر في تلك المناطق، لم تكن لتتمكن من فعل أي شيء آخر غير الذهاب إلى النظام. الأسد يقدّر ذلك، لكن لا أحد يتوهم أنه سيستعيدهم حقاً، بل سيفتح لهم دوامات معسكرات الاعتقال التي تملأ البلاد".
وفي ربط منه بين المتاجرة باللاجئين في لبنان، وفي تركيا، يقول كريستيانو: "انظر فقط إلى المثال التركي. لقد أثرى أردوغان نفسه بالأموال الأوروبية المخصصة لإبقاء اللاجئين السوريين، أي عدة ملايين منهم. وهو الآن يطردهم بوتيرة محمومة، مستخدماً كل الوسائل المتاحة لها لإعادتهم إلى سوريا"، ويختم مقاله بالقول: "إن حقيقة أن هذه الصفحة الحزينة للغاية (التطبيع)، قد كُتبت على وجه التحديد في الساعات التي حدثت فيها الذكرى الحادية عشرة لاختطاف الراهب اليسوعي الإيطالي باولو دالوليو (تموز/ يوليو 2013)، الذي طرده الأسد واختطفه داعش، والذي يمثل مجموعةً من المرحَّلين والمستبعَدين والمرفوضين".
المستقبل المحتمل لهذا التطبيع
في حديث له إلى رصيف22، يرى الكاتب والأكاديمي الإيطالي-السوري سامي حداد، وهو أستاذ الدراسات الشرقية في جامعة نابولي، أن "ثمة تيارين أوروبيين اليوم في ما يتعلق بهذه المسألة: تيار متشدد مناهض للأسد ورافض لكل انفتاح عليه قبل تحقيق انتقال سياسي حقيقي وفق القرار 2254، وتيار منفتح عليه (تندرج الحكومة الإيطالية ضمنه). وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الحكومة الحالية هي ائتلاف ثلاث قوى سيادية ويمينية متشددة، فإن موضوع اللاجئين سيكون جزءاً أساسياً من الدعاية السياسية لها، أسوةً بحركات اليمين المتطرف والشعبوي كافة في أوروبا اليوم، وليس بلا دلالة أن الرؤية الإيطالية في ما يتعلق بحلّ قضية اللاجئين تسير عبر اتفاقيات مع نظم ديكتاتورية في سوريا وليبيا وتونس".
ويتابع حداد، مضيفاً عاملاً آخر يمكن أن يفسّر، من وجهة نظره، هذه الاندفاعة الإيطالية نحو النظام السوري، عادّاً أن الحكومة تحاول أن تجد موطئ قدم لها في الشرق الأوسط قياساً بالدول الإقليمية (تركيا ودول الخليج)، وبدول أوروبية أخرى (فرنسا مثلاً)، وحجز مكان لها في عملية إعادة الإعمار المستقبلية في سوريا من خلال خطوات استباقية تتواجد من خلالها في البلد. هناك تحليلات متفائلة تقول إن هذه الخطوة/ الخطوات الإيطالية تهدف إلى جرّ الأسد للدخول في عملية سياسية من خلال الانفتاح عليه، والضغط لأجل الحلّ السياسي وبما يتيح دوراً أكبر لإيطاليا على طاولة الحل، لكن هذه الفرضية غير دقيقة لأن عملية إعادة الأسد إلى الجامعة العربية، على سبيل المثال، كانت مشروطةً بالتزامات عدة لم يتحقق أيّ منها، وهو لا يستطيع التنازل وتحقيق ما يطلب منه كضمانات أو مقابل".
القضية إذاً أكبر من إيطاليا كما يرى حداد، "ولا دور فاعلاً لها قياساً بدور الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، خصوصاً أن إيطاليا الحالية والسابقة لم تكن يوماً جزءاً من محاور المنطقة ولم تشكل ثقلاً وازناً فيها".
"الحكومة الحالية هي ائتلاف ثلاث قوى سيادية ويمينية متشددة، لذا موضوع اللاجئين سيكون جزءاً أساسياً من الدعاية السياسية لها، أسوةً بحركات اليمين المتطرف والشعبوي كافة في أوروبا اليوم، وليس بلا دلالة أن الرؤية الإيطالية في ما يتعلق بحلّ قضية اللاجئين تسير عبر اتفاقيات مع نظم ديكتاتورية في سوريا وليبيا وتونس"
أخيراً
بالإضافة إلى ما سبق عرضه من مقالات وتصريحات حول هذه المسألة، قد يكون مفيداً أيضاً القول إن التحالف الحاكم هو تحالف بين أحزاب غير متفقة في ما بينها حول مسائل وقضايا بالغة الحساسية، من حرب أوكرانيا إلى حزب غزّة وصولاً إلى مسائل العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. فرئيسة الحكومة جورجيا ميلوني (زعيمة حزب أخوة إيطاليا)، هي مؤيدة للخط الأطلسي (اليوم)، ولتسليح أوكرانيا ضد روسيا، على عكس حليفها القوي في الحكم، ماتيو سالفيني (زعيم حزب الرابطة)، البوتيني الهوى والتفكير والمعارض لذلك التسليح، فيما يحاول وزير الخارجية الإيطالية الوقوف في المنتصف بين الاثنين.
وبرغم التغيّرات الواضحة في سلوك بعض تلك الأطراف، وتغيير برامجها السياسية السابقة بعد وصولها إلى السلطة في انتخابات 2022، إلى برامج وخطابات معتدلة نسبياً قياساً بالسابق، يبقى أنّ بعض الخطوات والسياسات، وربما من بينها الانفتاح والذهاب إلى التطبيع مع الأسد، قد تكون مرهونةً، أيضاً، بكونها جائزة ترضية من طرف إلى طرف آخر بهدف الحفاظ على توازن التحالف الحكومي الذي تتهدده خلافات كبيرة قد لا تبقيه متماسكاً، ولا حتى حاكماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...