بعد أكثر من عقد على إغلاقها، أعلنت المملكة العربية السعودية، أمس الأوّل الإثنين، عن افتتاح سفارتها في دمشق، استكمالاً لجهود سابقة لإعادة حكومة دمشق إلى محيطها العربي. وكانت الرياض قد أعلنت في أيار/ مايو 2023، عن استئناف عمل بعثتها في دمشق، وتسمية الدكتور فيصل بن سعود المجفل، كأول سفير لها في سوريا منذ قطع علاقاتها مع الأخيرة عام 2012، نتيجة حملة القمع الوحشية التي شنّها الرئيس السوري بشار الأسد، على المتظاهرين المناهضين لحكمه عام 2011.
حينها، أشار بيان وزارة الخارجية السعودية إلى أن "تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة" يقف وراء إعادة فتح السفارة في دمشق، من دون تحديد موعد لذلك، لكنها تأتي في أعقاب قرار الجامعة العربية إعادة عضوية سوريا، قال البيان.
لاحقاً، قال وزير خارجية الأسد، إن دمشق ستستأنف عمل بعثتها في الرياض. وفي خطوة متبادلة، عيّن النظام السوري، نائب وزير الخارجية، أيمن سوسان، سفيراً لدى الرياض في كانون الأول/ ديسمبر 2023.
تمثّل إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين خطوةً حاسمةً نحو مزيد من التعاون والاستقرار الإقليميين، حسب موقع "ليدرز مينا" السعودي. كما أن إعادة فتح السفارة السعودية في دمشق، تشير إلى تقارب عربي أوسع مع سوريا، يتجاوز مجرد الشؤون الثنائية، وقد يؤثر على المنطقة بشدّة، ويشير إلى تحوّل جيو-سياسي وتركيز متجدد على الوحدة الإقليمية.
وكانت الجامعة العربية قد أعلنت خلال العام الماضي، عن عودة مشروطة لسوريا بعد أكثر من عقد من العزلة، في قرار اتخذه وزراء الخارجية العرب في اجتماع طارئ في مقر المنظمة الإقليمية في القاهرة. وبحسب البيان الصادر حينها، ستساعد الخطوة العربية في إنهاء "معاناة" الشعب السوري، وتسمح له "بتحقيق تطلعاته المستقبلية المشروعة". وعليه، حضر رئيس النظام في دمشق، بشار الأسد، قمّتي جدة والرياض والمنامة في ربيع العام الماضي وخريفه، وربيع العام الحالي.
مع خروج مشكلة الكبتاغون عن السيطرة، وتدهور الوضع الإنساني في سوريا بعد زلزال شباط/ فبراير 2023، وعدم إحراز أي تقدّم في العملية السياسية، قررت الرياض إعادة علاقاتها مع دمشق، ودعم إعادتها إلى الجامعة العربية، بهدف حل عدد من المشكلات المستعصية، عبر تقديم حوافز إيجابية للأسد لتغيير سلوكه
مع ذلك، أشار المبعوث الأمريكي السابق إلى سوريا، جيمس جيفري، إلى شعور بالإحباط لدى هذه الدول، نتيجة عدم إقدام حكومة دمشق على أي خطوات جدية تجاه الحلّ السياسي في سوريا، أو إعادة اللاجئين.
العزلة والعقوبات... لن تجدي نفعاً
مع خروج مشكلة الكبتاغون عن السيطرة، وتدهور الوضع الإنساني في سوريا بعد زلزال شباط/ فبراير 2023، وعدم إحراز أي تقدّم في العملية السياسية، قررت الرياض إعادة علاقاتها مع دمشق، ودعم إعادتها إلى الجامعة العربية، بهدف حل عدد من المشكلات المستعصية، عبر تقديم حوافز إيجابية للأسد لتغيير سلوكه. وعليه، تم إنشاء لجنة الاتصال الوزارية العربية الخاصة بسوريا، برئاسة أمين عام الجامعة العربية وممثلين عن السعودية ومصر والعراق والأردن ولبنان وسوريا. وتتولى اللجنة أربع مهام رئيسية: الحدّ من إنتاج الكبتاغون وتهريبه، وإعادة اللاجئين إلى سوريا، ودفع العملية السياسية من خلال اللجنة الدستورية، وتشكيل لجنة "تنسيق أمني إقليمي"، بجانب مهمة خفية هي إخراج أو تحجيم نفوذ إيران وحزب الله في سوريا.
مع ذلك، وُلدت اللجنة ميتةً، نتيجة الفشل المتكرر في عقد اجتماعاتها، وفشل دمشق في الإجابة عن أسئلة اللجنة حول العقار المخدّر وقضايا أخرى، واستمرار تدفّق الكبتاغون، وهو ما أجبر الأردن على توجيه ضربات عسكرية لمواقع سورية معنية بتصنيع وتهريب هذا العقار المخدّر. وكانت الرياض قد ضبطت بعد 48 ساعةً من تعيين سفير لها في سوريا، ما يقرب من 75 مليون دولار من الكبتاغون المصّنع من قبل جهات فاعلة لدى نظام الأسد، و40 مليون دولار أخرى مصّنعة في العراق.
لكن الرياض بما تقوم به اليوم، ترسل رسائل مفادها أنها غير معنية بتحقيق تقدّم من خلال مجموعة الاتصال العربية، حسب الأكاديمي الاقتصادي والخبير غير المقيم في معهد "نيولاينز" في واشنطن، كرم شعار، وتعبّر عن استعدادها للعمل مع دمشق بشكل بيني، ودون التمسك بعمل اللجنة. وهنا يشير شعار، إلى ضرورة التمييز بين موقف دول الخليج عموماً، وموقف دول أخرى مجاورة لسوريا، كالأردن، من حيث المطالب. فالأردن بحاجة إلى بلد مستقر على حدوده، بحيث ينعكس هذا الاستقرار على شكل نشاط تجاري يساعد اقتصاد عمان، وأهم من ذلك، يساعدها على إعادة اللاجئين.
لا تشير الدول العربية المطبّعة مع الأسد بالضرورة إلى إيمانها بالديكتاتور السوري، أو بسوريا كدولة، وإنما تقدّم التزاماً علنياً، تعدّه معقولاً، بالحياد وسط صراع عالمي من أجل الهيمنة بين كتلتين متنافستين تعدّهما متكافئتين أخلاقياً
أما بالنسبة للرياض، فينحصر اهتمامها في ملفّين؛ ملف المخدرات وملف تخفيض الدور الإيراني في سوريا. ويعتقد شعار، خلال حديثه إلى رصيف22، "بتحقيق الرياض تقدّماً، على الأقل على مستوى تخفيض النفوذ الإيراني، وهو ما بدا واضحاً منذ عملية 'طوفان الأقصى' التي نفّذتها حركة حماس في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وما أعقبها من حرب إسرائيلية على غزّة. فخلال الحرب هذه، حاول نظام الأسد قدر المستطاع أن يبتعد عما يُسمّى "محور المقاومة" الذي تقوده طهران، بجانب محاولته تجنّب استخدام الأراضي السورية للهجوم على إسرائيل، مع عدم منح إيران تنازلات أكثر من المجبَر عليها، ضمن هامش يعمل على توسيعه. والرياض تستطيع مساعدته في ذلك، في إطار زواج مصلحي، براغماتي وليس أخلاقياً".
في هذا السياق، تشير مجموعة الأزمات الدولية، إلى أن الدول العربية ترى أن سياسة العزلة والعقوبات لم تحلّ أياً من خلافاتها مع نظام الأسد. وهي مدفوعة إلى ذلك بعوامل عدة، بما في ذلك دور إيران المتنامي في سوريا، مباشرةً أو عبر وكلائها، بجانب الضعف الدائم للدولة السورية، ما يبقيها رهينةً لروسيا وإيران، وتجنّب صعود الجماعات الجهادية ثانيةً، والكميات الكبيرة من المخدرات المصدّرة منها، والتأثير الاجتماعي والاقتصادي للوجود طويل الأمد للّاجئين السوريين في العالم العربي. وهو ما يدعو بمجمله إلى تبرير إعادة التفكير في تطبيع علاقاتها مع نظام الأسد، وفي ظل غياب مؤشرات على استعداد واشنطن أو الحكومات الأوروبية لتعديل سياستها تجاه سوريا، أو جعلها أولويةً لديها، مما يشّجع الدول العربية على اختيار طريقها الخاص، دون توقّع تحقيقها مكاسب فوريةً، جراء تطوير علاقاتها مع دمشق، ربما باستثناء ما يتعلق بتهريب الكبتاغون.
حلفاء الغرب هم الخاسرون
من خلال منع الكونغرس الأمريكي من المضي قدماً في قانون لمكافحة التطبيع مع نظام الأسد، شجّعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، بهدوء، إعادة الانخراط الإقليمي معه، حسب فورين بوليسي. فبرغم معارضتها النظرية للتطبيع، لم تفعل إدارة بايدن شيئاً يُذكر لوقفه، فيما أرسل تدخّلها في صنع التشريعات إشارات مثيرةً للقلق. وبالنظر إلى قرب انتهاء سريان قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا، نهاية هذا العام، ستكون الحكومات من دونه حرّةً في الانخراط والاستثمار في نظام الأسد كما تشاء، وهو فراغ مطلوب ملؤه بسرعة، بحسب المجلة.
حملة التطبيع العربية مع الأسد، والتي تلقى دعم روسيا والصين وإيران، تتحدى النظام العالمي الغربي، وتشكل جزءاً من تطور أوسع نطاقاً نحو نظام متعدد الأقطاب، تتوازن فيه القوة الأمريكية مع تحالف أوراسي قويّ.
وتندرج إعادة فتح السفارة السعودية في دمشق، بعد أشهر من تعيين سفير لنظام الأسد في الرياض، وبعد إعادة النظام إلى الجامعة العربية، في ظل توجّه سعودي بمحاولة إعادة تقريب النظام السوري للحضن العربي، ضمن رؤية وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، حسب الصحافي السوري ومؤسس ومدير عام شركة "فيلد برودكشن" الإعلامية، ومقرّها إسطنبول، محمد حسن العايد. ويشير العايد، إلى "توجّه إقليمي لإعادة تطبيع العلاقات مع النظام السوري، برغم كل الخصومات منذ اندلاع الثورة السورية وإجرام النظام وقمعه شعبه. وإلى جانبها، طلبت دول عدة من أوروبا الشرقية تخفيف العقوبات عن دمشق، وإعادة فتح قنوات دبلوماسية معها من قبل دول الاتحاد الأوروبي".
مردّ ذلك، حسب إفادة العايد لرصيف22، إلى "اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي قد يفوز فيها الرئيس السابق والمرشح الرئاسي الحالي دونالد ترامب. وعليه، تحاول هذه الدول استباق نتائج هذه الانتخابات بإعادة رسم تحالفاتها وإحياء علاقاتها مع النظام السوري وغيره من أنظمة المنطقة، وهو ما بدا من خلال الحراك الإماراتي-التركي. والمصري-التركي، بجانب عوامل عدة تفرض هذا التوجه، منها ضعف أجسام المعارضة السورية، وحالة جمود الملف السوري، واستمرار النظام كنظام حاكم وكجهة معترف بها دولياً بغض النظر عما ارتكبه من جرائم، بالإضافة إلى ما يشكّله الردّ الإسرائيلي الوحشي على عملية "طوفان الأقصى" من تهديد لأمن دول مثل مصر ولبنان والأردن وسوريا".
لكن المجلس الأطلسي يورد تفسيراً أكثر إقناعاً، على حد وصفه، ولا علاقة له بالأسد أو سوريا في حد ذاتها، وهو مستوحى من عودة الملك البلجيكي ليوبولد الثالث، إلى سياسة الحياد الصارم عام 1936، عبر إلغاء الاتفاق العسكري الفرنسي البلجيكي المصمم لردع العدوان الألماني. فبرأي المجلس، الحكّام العرب مثل ليوبولد الثالث، خائفون، وينظرون إلى حزم الصين في تحدّي الهيمنة الأمريكية، وسلوك روسيا الانتقامي في الأراضي الأوروبية، وفوز إيران في جميع حروبها الإقليمية بالوكالة، فيما يخسر حلفاء أمريكا الشرق أوسطيون في كل مكان، سواء القادة الموالون للغرب في العراق ولبنان، أو مختلف أطياف المعارضة السورية، أو السعوديون والإماراتيون في اليمن. فأن تكون حليفاً للغرب أمر يرجّح خداعك والتغلب عليك.
يضيف المجلس، أن حملة التطبيع العربية مع الأسد، والتي تلقى دعم روسيا والصين وإيران، تتحدى النظام العالمي الغربي، وتشكل جزءاً من تطور أوسع نطاقاً نحو نظام متعدد الأقطاب، تتوازن فيه القوة الأمريكية مع تحالف أوراسي قويّ. وعلى ذلك، لا تشير الدول العربية المطبّعة مع الأسد بالضرورة إلى إيمانها بالديكتاتور السوري، أو بسوريا كدولة، وإنما تقدّم التزاماً علنياً، تعدّه معقولاً، بالحياد وسط صراع عالمي من أجل الهيمنة بين كتلتين متنافستين تعدّهما متكافئتين أخلاقياً. والفائز غير المقصود من هذا كله هو الأسد، الذي يسعده أن يكون مقياساً لنجاح المحور المناهض للغرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي