كثيرون ينجون من الحروب، لكن عقولهم لا تنجو من هول الصدمة التي يختبرونها، فتحمل نفوسهم جراحاً عميقةً قد يعيشون معها بقية حياتهم جرّاء الرعب الهائل الذي يخلّفه الصراع.
تتفاوت شدة هذه الحالة من شخص إلى آخر، فقد يعاني البعض من الأرق أو فقدان الشهية، والبعض الآخر من العمى أو فقدان السمع والنطق أو حتى الشلل.
وتسمّى هذه الحالة بـ"صدمة القصف"، وهو مصطلح تمت صياغته خلال الحرب العالمية الأولى.
مظاهر الصدمة المكبوتة
في الحرب العالمية الأولى، فوجئ الأطباء بحالة مزرية تفشت بين الجنود البريطانيين الذين صاغوا مصطلح "صدمة القصف"، وأطلقوه على الحالة التي شملت فقدان الشهية والأرق والرعشة والارتباك والكوابيس وضعف البصر والسمع، وتالياً عدم القدرة على مواصلة القتال، وهو ما عُدّ في البداية نوعاً من الجبن أو التمارض، حتى أنه تم اتهام العديد من الجنود الذين يعانون من هذه الحالة بالفرار من الخدمة، أو الجبن أو العصيان. وقد تعرّض بعضهم لمحاكمة صورية، واتُّهموا وأُدينوا وقُتلوا رمياً بالرصاص.
كثيرون ينجون من الحروب، لكن عقولهم لا تنجو من هول الصدمة التي يختبرونها، فتحمل نفوسهم جراحاً عميقةً قد يعيشون معها بقية حياتهم جرّاء الرعب الهائل الذي يخلّفه الصراع
وكان يُعتقد أن صدمة القصف هي نتيجة لإصابة جسدية في الأعصاب والتعرض للقصف العنيف، لكن الطبيب النفسي البريطاني تشارلز مايرز، خلص إلى أن هذه الحالة كانت نتيجة إصابات نفسية لا جسدية، واعتقد أن الأعراض كانت مظاهر علنيةً للصدمة المكبوتة، وأقنع الجيش البريطاني بأخذ الأمر على محمل الجدّ، وطوّر أساليب لا تزال توجّه العلاج حتى اليوم.
واللافت أن أعراض صدمة القصف قد تشمل الهستيريا والقلق، الشلل، العرج وتقلّصات العضلات، العمى والصمم، الكوابيس والأرق، خفقان القلب، الاكتئاب، الدوخة والارتباك، وفقدان الشهية.
مشاهد مؤلمة
مع اندلاع النزاع المحتدم بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، في 15 نيسان/ أبريل 2023، باتت الخرطوم ساحةً رئيسيةً للقتال.
كانت صفاء (اسم مستعار)، تسكن بالقرب من "مناطق القصف والمعسكرات"، وبرغم عدم إصابتها جسدياً إلا أنها تضررت نفسياً جرّاء هذه العمليات العسكرية المستمرة في محيط سكنها فاضطرت إلى الفرار إلى مصر.
صفاء، البالغة من العمر 28 عاماً، لم تكن تعرف أن ما أصابها يُسمّى "صدمة القصف"، وفق ما تقول لرصيف22: "خرجت من السودان إلى مصر دون أي إصابة، لكن عانيت كثيراً من ناحية الأمراض النفسية والخوف والهلع"، كاشفةً أن مشاعر الخوف الشديد كانت تسيطر عليها خلال وجودها في الخرطوم، وكانت تشعر باستمرار بحالة من الهلع والقلق وخفقان القلب كما عانت من الاكتئاب.
وتشير صفاء إلى أنها كنت تواجه صعوبةً كبيرةً في التعامل مع هذه الحالة بشكل متوازن، لكنها باتت الآن أفضل نسبياً.
"خرجت من السودان إلى مصر دون أي إصابة، لكن عانيت كثيراً من ناحية الأمراض النفسية والخوف والهلع"
جرّاء الحرب الأخيرة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أُصيبت نادين (اسم مستعار)، وهي فلسطينية تبلغ من العمر 38 عاماً، بـ"صدمة القصف"، كاشفةً لرصيف22، أنها عانت من هستيريا وقلق شديد وأرق، بالإضافة إلى بعض الأعراض الأخرى التي اختبرتها جرّاء الحرب على غزّة، مثل خفقان القلب، الاكتئاب، فقدان الشهية، والأحلام المفزعة والمخيفة، مع العلم بأنها لا تزال تعاني من بعض هذه الأعراض.
أما كريم حسين، وهو شاب لبناني يبلغ من العمر 29 عاماً، فيقول لرصيف22، إن مشهد النازحين الذين فرّوا من القصف الإسرائيلي الكثيف في جنوب لبنان وهم يفترشون الأرض في بيروت لا يغادر مخيّلته.
وبسبب هذه المشاهد، لم يعد باستطاعته خلال الأيام الماضية النوم، وبات يعاني من الأرق: "أظل مستيقظاً بلا نوم لمدة تصل إلى 48 ساعةً، وإذا نمت قليلاً أرى كوابيس، كما أنني أعاني من الاكتئاب".
الصدمة مستمرة
تقول الدكتورة هالة حمّاد، استشارية الطب النفسي للأطفال والمراهقين، وزميلة الكلية الملكية البريطانية للطب النفسي، لرصيف22، إن ما يصيب الأشخاص في مناطق الحروب وقت القتال من خوف وهلع وقلق وغيرها من أعراض نفسية هو ما يُعرف بـ"صدمة القصف"، لكن ذلك يتحول لاحقاً إلى اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD): "من الممكن أن يستمر ذلك بعد انتهاء الحرب/ القتال لسنوات، فكلما سمع الشخص صوتاً مشابهاً لأصوات القصف والقنابل يدخل في حالة من الهلع والقلق، وكأنه يتعرّض للتجربة السابقة نفسها التي اختبرها".
إنّ اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، هو حالة صحية نفسية يستثيرها حدث مخيف، وقد تتضمن الأعراض استرجاع الأحداث والكوابيس والقلق الشديد، بالإضافة إلى الأفكار التي لا يمكن السيطرة عليها بخصوص الحدث.
وبحسب موقع مايو كلينك، فإن "أغلب من يمرّون بأحداث مؤلمة قد يصابون بصعوبة مؤقتة في التأقلم والتكيف، ولكن مع مرور الوقت والعناية الجيدة بالنفس، عادةً ما يتحسنون".
وتوضح هالة حمّاد، أن عدداً كبيراً من الأطفال السودانيين الذين قدموا إلى مصر برفقة أهلهم، تعرّضوا لـ"صدمة القصف"، وهم الآن يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة: "فحصت العديد من الحالات خلال الفترة الماضية، وكان الطفل من هؤلاء يعاني من قلق وغير قادر على النوم بشكل جيد، وحينما ينام يرى كوابيس، والبعض منهم أصبح عصبياً ويرفض الذهاب إلى المدرسة".
وحول ما يحدث في قطاع غزّة ولبنان، تقول حمّاد، إن المشكلة هي أن الصدمة مستمرة وغير متوقفة ولا يمكن منعها لأن حالة العدوان مستمرة، وفي ما يخصّ غزّة فإن المنظومة الصحية شبه مدمّرة، لافتةً إلى أنه "من الممكن عمل جلسات أونلاين للعلاج، لكن العلاج الحقيقي يكون بعد أن يتحركوا من منطقة العدوان إلى منطقة آمنة. العلاج في ظل استمرار العدوان كأننا نضع الميكروكروم (مادة مطهّرة) على الجرح".
وتشير حماد إلى أن استمرار المعارك كل هذه المدة ستكون له آثار نفسية سلبية طويلة المدى على الناس، خاصةً الأطفال: "لقد فقدوا الكثير من أحبّائهم واختبروا آلام الفقد وعاشوا إحساس عدم الأمان لمدة سنة كاملة، وهذا من الممكن أن يترك أثراً نفسياً كبيراً عليهم".
المكوّن الوراثي
بحسب الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، فإن الوراثة تلعب دوراً في الإصابة بـ"صدمة القصف": "إن الأشخاص الذين يصابون بهذه الحالة لديهم جينات وراثية تجعلهم أكثر عرضةً للإصابة بها"، مشيراً إلى أن معظم الحالات التي فحصها لعدد من الجنود المصريين الذين شاركوا في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 ضد إسرائيل، واختبروا هذه الحالة التي تحولت إلى اضطراب ما بعد الصدمة، كان لديهم أقارب مصابون بأمراض نفسية، وهو ما يعني أن المكوّن الوراثي يزيد من احتمالية إصابة الشخص بهذه الحالة.
ويوضح فرويز أن علاج الحالات المصابة بـ"صدمة القصف"، وكذلك اضطراب ما بعد الصدمة، يكون بالعلاج المعرفي السلوكي (CBT)، والعلاج الجدلي السلوكي (DBT)، مع بعض الأدوية مثل الأدوية التي تساعد على النوم، والمهدّئات ومضادات الاكتئاب.
كما يلفت إلى أن الدعم الاجتماعي والنفسي والمعنوي من الأهل والأصدقاء يساعد في تعافي المريض من هذه الصدمة.
"كلما سمع الشخص صوتاً مشابهاً لأصوات القصف والقنابل يدخل في حالة من الهلع والقلق، وكأنه يتعرّض للتجربة السابقة نفسها التي اختبرها"
وتقول منظمة الصحة العالمية، إن واحداً من كل خمسة أشخاص (22%) من الذين شهدوا حروباً أو نزاعات أخرى خلال السنوات العشر الماضية، سيُصاب بالاكتئاب أو القلق أو الاضطراب الثنائي القطب أو الفصام، كما تشير إلى أن الأشخاص المصابين باضطرابات نفسية شديدة معرّضون للخطر بالأخصّ في أثناء الطوارئ ويلزم أن تُتاح لهم رعاية الصحة النفسية وأن تُلبّى احتياجاتهم الأساسية الأخرى.
يُذكر أن تقديرات سابقة لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف"، تشير إلى أن هناك نحو 250 ألف طفل من أطفال قطاع غزّة يعانون من مشكلات نفسية وفي حاجة إلى المساعدة والدعم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...