كل محاولة تفكير للصنّاع في المجال الفني حول مدى جودة وتقدم الصناعة تبدأ بالنظر أولاً إلى السينما. تختصر السينما الجامعة للفنون، العاملَ الفني الأكثر سحراً، كما تجلب على المنتجين -في حال نجاحها- أموالاً وفيرة. لذلك فإن تحقيق المعادلة يجعلها تنتصر في كل مرة، بينما في أوقات أقل، ترجّح كفة النظر في المعروض على التلفزيون. وربما محاولات تحليل تلك المقارنة تحتاج إلى مقالات أخرى تتفرغ للأمر الذي يبدو مفارقة، لأن التلفزيون ظاهرياً لديه قاعدة جماهيرية أوسع، لكن الشاهد في ذلك هو أن النظر إلى التلفزيون في الأوقات القليلة الناجحة، يبدو من منطلق مسلسلات استطاعت أن تتمدد وتُعرض في أجزاء متتالية تلتقط جمهورها عاماً بعد الآخر.
أحياناً تنجح بعض الأعمال الفنية التلفزيونية، لكن قماشتها الدرامية لا تصلح لتمديدها في أجزاء جديدة أخرى، حتى مع سعي الصنّاع لإعادة تدوير الشخصيات من جديد، لا تحصد النجاح المرجو. لذلك فهناك فرصة مثالية للتلفزيون وجمهوره، تظهر كل عدة سنوات، بوجود نجم ما، يملك قاعدة جماهيرية واسعة، للكبار والصغار، في لحظة زمنية غير مزدحمة بالأعمال الاجتماعية الشبيهة، وقصة استثنائية تشبه صورته التي يصدقها الجمهور، يمكن أن يتسبب ذلك في صناعة سلسلة تلفزيونية تخلُد في الأذهان، يتوّج بها مسيرته. وربما النموذج المثالي في ذلك، هنا والآن، هو إسعاد يونس، ومسلسلها الأحدث الذي يعرض على منصة "ووتش إت"، "تيتا زوزو".
تعود إسعاد يونس من خلال "تيتا زوزو" للبطولة المطلقة بعد سنوات طويلة من التوقف، من خلال المؤلف محمد عبد العزيز، وهو نفسه رئيس تحرير برنامجها التلفزيوني الأشهر منذ سنوات "صاحبة السعادة" التي تبدو فيه "تيتا سوسو" نوعاً ما، وإخراج شيرين عادل، الكلاسيكية الأخرى التي تعتبِر التلفزيون ملعبَها الأهم، أنتجت خلاله أغلب أعمالها الفنية الاجتماعية. وهذه هي اختيارات صائبة بالرغم من عدد التخطيط الجيد بشكل عام والذي نحاول الوقوف أمامه.
يقول المؤلف محمد عبد العزيز في حديث لرصيف 22: "مسؤولية كبيرة أن تكون عودة إسعاد يونس بتاريخها الكبير وحب الجمهور لها، لتتصدى لعمل منفرد. ما كان يطمئنني هو دعمها وإيمانها بموهبتي، لأنها قرأت لي أكثر من عمل سابق من قبل. كما أننا تناقشنا على مدار سنوات ماضية أثناء عملي معها في برنامج 'صاحبة السعادة' في العديد من الأمور الفنية. ومع كل تلك السنوات تراكمت لدي معرفة وثيقة بها وبذوقها والأعمال التي تعجبها. ولذا عندما بدأت في كتابة هذا العمل كانت كل تلك المعلومات موجودةً لديّ بالفعل. ولكن الأهم كان توافقنا سوياً على تقديم مشاكل واقعية يمر بها معظم أفراد المجتمع".
تتقاطع قصة المسلسل مع قضايا تهم الأسرة والمجتمع، وهو ما نحاول الوقوف عنده تحليلياً، لنفهم أكثر لماذا تبدو هذه الفرصة تحديداً، دون غيرها، فرصةً مثالية، حتى لو كانت هناك بعض العناصر في المسلسل تحتاج للتطوير لاحقاً؟
يحكي المسلسل قصة الجدة الأرملة "زوزو"، التي كانت تعمل بالزراعة، ولديها ولدان وابنتان، حيث نتابع علاقتها بأحفادها، وتعاملها معهم ومع المشكلات التي يتعرضون لها. تتقاطع قصة المسلسل مع قضايا تهم الأسرة والمجتمع، وهو ما نحاول الوقوف عنده تحليلياً، لنفهم أكثر لماذا تبدو هذه الفرصة تحديداً، دون غيرها، فرصةً مثالية لصنّاع المسلسل، حتى لو كانت هناك بعض العناصر في المسلسل تحتاج للتطوير لاحقاً؟
زوزو... ونيس اللحظة الحالية
يبدأ المسلسل من نظرتنا إلى زوزو، خريجة كلية الزراعة، التي تعمل في مجال علم المقاومة الحيوية، وهو اختيار وظيفي ممتاز يكشف عن المنطقة المقبلة التي تحاول زوزو بشكل مجازي وفعلي العمل فيها. وهو محاولة إرجاع الأشياء لأصلها؛ زوزو تظل حلقة الوصل بين الآباء الغارقين في مشكلاتهم والأبناء الذين يحملون أحلاماً مختلفة تماماً عن الآباء، فتحل زوزو هذا الصدام في كل مرة.
نقطة القوة وربما الضعف في الوقت ذاته، هو محاولة العمل منذ الحلقات الأولى في فتح عدد غير قليل من الملفات التي تسعى الجدة على حلّها على المستوى العام، بمواجهة الفساد، والخاص بالتوفيق بين أسرتها وجمع شملهم بأي ضريبة ممكنة؛ تلك الأسرة التي تبدو وتد العمل، وسبب وجود زوزو نفسها، وهو ما يظهر من اختيارات التتر في البداية والنهاية الذي يتحدث عن العائلة والتمسك بها برغم كل شيء.
ما يمكن الوقوف عليه من الحلقات الأولى هو تفهّم زوزو لعوالم يبدو أن بعضها شديد التعقيد والفهم على الكبار والأخرى على الصغار؛ زوزو التي تستكشف مع حفيدتها عالمَ الذكاء الاصطناعي من خلال النظارة السحرية، هي ذاتها التي تتحدث مع أرواح هائمة يبدو أنها تعيش معها في الشقة.
وربما القضية الاجتماعية الأولى التي يطرحها العمل هو مساحات التعلق الأحدث بنماذج الذكاء الاصطناعي التي تزيد من قيمة الفردانية لدى الأفراد، وربما تجعلهم يرغبون أكثر في الاكتفاء من محاولة التعرف على العالم الحقيقي. يخبرني الكاتب سريعاً أن شخصيات الذكاء الاصطناعي صعبة الكتابة، كما أنها خطرة.
يقول المؤلف إن هناك اختلافاً كبيراً بين الأجيال، حتى أن السنة الواحدة الفارق في العمر في الأجيال الجديدة تفرق كثيراً؛ أصبح المجتمع سريعاً، وأصبحت الفروق بين الأجيال رهيبة وكبيرة للغاية. العصر التكنولوجي الذي سيطر على العالم حالياً جعل الجميع يلهث. نحاول بشتى الطرق أن نتعرف على تلك الأجيال. ننجح أحياناً ونتخلف كثيراً أحياناً أخرى.
يضيف محمد عبد العزيز: "لدي ابن لم يكمل السنتين أصبح يعرف مطربين محددين، ويبحث عنهم على الإنترنت، ليستمع لأغانيهم، وهو لم يتكلم بعد، وابنة في التاسعة تعرف نجوم الغناء الكوري بالاسم وبحكاياتهم وخلافاتهم. التطور أصبح مرعباً، ومقاييسنا التي تربينا عليها اختلفت تماماً، وعلينا أن نحاول التماشي مع هذا التطور، وإلا سوف نكون في جزر منعزلة وبعيدين كل البعد عن الأجيال الجديدة، وهو الأمر الذي تحاول زوزو طوال الوقت لفت انتباه أبنائها له، وتحاول على قدر استطاعتها أن تفهم هذا العصر الجديد حتى تستطيع أن تفهم أحفادها وطريقة تفكيرهم".
ويتابع: "كتبت 'بلومبيرغ' قبل شهور أن الردود العاطفية لروبوت المحادثة الخاص بمتصفح 'بينغ' دفع شركة مايكروسوفت إلى وضع حد لتفاعلات المستخدمين مع الروبوت، كما حددت مايكروسوفت جلسات الدردشة مع متصفحها (بينغ) إلى 60 محادثة يومياً، وسط تغييرات في المحادثة في كل جلسة، في محاولة لتقليل المحادثات الطويلة جداً، التي قد تربك نموذج الدردشة. أيضاً نقلت إنتربرايز أن ذلك يأتي بعد انتشار عبر الإنترنت لمحادثات غريبة وتنطوي على تلاعب بين روبوت المحادثة والمستخدمين. تبدو هذه الأمور بعيدة ومزعجة لجيل قديم نسبياً، لكن مواجهتها مع أجيال جديدة يبدو أكثر رعباً، من خلال حفيد زوزو مثلاً، الذي يخبر فتاة الذكاء الاصطناعي أنه الرجل الأخير على الأرض".
نقطة القوة وربما الضعف في الوقت ذاته، في المسلسل، هو محاولة العمل منذ الحلقات الأولى في فتح عدد غير قليل من الملفات التي تسعى الجدةُ على حلّها، والتوفيق بين أسرتها وجمع شملهم بأي ضريبة ممكنة
بشكل كلاسيكي معتاد تمط المخرجة مساحات تقديم الشخصيات في العمل، وربما كان الدافع هو خروج المسلسل في شكل خفيف الاستقبال، لكنه يظل نقطة تحتاج إلى إعادة نظر. كما يبدو عدم الاستغلال الكافي لبصمة موسيقية قوية تتعلق بها الآذان في عمل يعتمد أساساً على الفرط في تلك الحميمية.
يقول الصنّاع إنهم تعمّدوا على أن يكون عرض المسلسل بعيداً عن الموسم الرمضاني، لأن المسلسلات الرمضانية تعتمد أكثر على التشويق والإثارة. قد لا يتقبل البعض، وسط سيل المسلسلات الكثيرة في هذا الموسم، مسلسلاً اجتماعياً عن الأسرة، وفي النهاية، وأبعد من كل نقاط القوة والضعف، يبدو أن المسلسل يستند على قوة وجود إسعاد يونس في ذاتها، وصورتها المحببة للكبار والصغار، ولكنه لم يستغل ذلك جيداً.
سنوات عجاف من الوقت الضائع
"وسيط المسلسلات التلفزيونية أصبح من أهم وسائط الكتابة في الوقت الحالي، فالتلفاز في كل بيت وحتى على الهاتف الجوال. والمنصات الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي أصبحت في متناول الجميع. لذا فالمسلسل أصبح وصوله أسهل، كما أن المسلسل نفسه بالدراما الاجتماعية الموجودة فيه هو أقرب للبيت والأسرة. وأيضاً هي فرصة تأتي لك في حين كنت تنتظرها بفارغ الصبر، حتى مع لحظات اليأس التي تصيبنا أحياناً، فلن تنظر إلى الوسيط"؛ هكذا يقول المؤلف، وهو الأمر الذي يكشف لأي مدى لدينا صعوبة إنتاج في اللحظة الراهنة، لكنه يكشف كذلك نقصاً نسبياً في إدراك الفرصة المثالية التي يقف الجميع أمامها، باستغلال أقوى لكل العناصر وصناعة سلسلة تلفزيونية تحديداً، تتحرك بها إسعاد يونس لتخاطب المجتمع درامياً.
قبل هذا المسلسل، شارك المؤلف في عدد من الأعمال خلال ورش الكتابة فيها، مثل "البيوت أسرار"، الذي كان يتكون من 60 حلقة، ثم مسلسل "نوايا بريئة" (30 حلقة)، والموسم الرابع والخامس من مسلسل "حكايات بنات". كما كان هناك العديد من المشاريع الأخرى التي كتبت ولكنها لم تر النور لأسباب مختلفة. وربما منها التفكير في نظرته إلى الرقابة في هذا المسلسل تحديداً؛ يقول: "أعتقد أننا يجب أن نراعي أنه مسلسل اجتماعي يقدم للأسرة. أفكر كذلك فيما أمنع ابنتي عن رؤيته أثناء الكتابة، لذا فأنا نفسي أمارس الرقابة الاجتماعية على نفسي قبل أي شخص. قد تكون حريتنا أكثر في السينما حينما تأتي الفرصة المناسبة، وحسب الموضوع الذي يتم مناقشته".
يبدو المسلسل على كل حال نظرة شاملة للصناعة الفنية وربما السينمائية والتلفزيونية، وكيف تتحرك المشروعات فيها بالرغم من تكامل عناصرها. وربما هو الأمر الذي يخلق مشكلاتها نوعاً ما: البطء والتردد ومحدودية النظر. حتى أن مشروعاً بهذا التكامل لا يهتم أصحابه جيداً ببنائه بالشكل الذي يجعل تسلسله أكبر للحديث عن المجتمع بشكل أوسع. وهو ما كان يجب أن تتجاوزه قصة المسلسل، ليضمن نجاحه بالبناء.
"تيتا زوزو" حاوية يمكن أن نضع فيها أزماتنا، للتحديق فيها أكثر، وربما بنظرة متفائلة لمحاولة حلها، فرصة مثالية للهروب من مباشرة إدانة كل جيل على حساب الآخر، ومحاولة معالجة ذلك درامياً، وطرح تساؤل أكثر من تقديم الإجابات الأنانية لحساب كل جيل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 8 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.