أُطلق مسلسل "هيراماندي" الهندي في أيار/مايو الماضي، من تأليف وإخراج سانجاي ليلا بهانسالي، صاحب الفيلم الأيقوني "ديفداس"، وسرعان ما تصدّر قائمة الأكثر مشاهدة على منصة نتفليكس.
تتناول قصة "هيرامندي" جزءاً من حياة ما يُسمى "طوايف" بالأوردو أو المحظيات، خلال أربعينات القرن الماضي في مدينة لاهور، وتحديداً قبيل الاستقلال، بحيّ هيراماندي أو بزار الألماس حيث يستقبلن في بيوتهن أعيانَ المنطقة.
المحظيات في لاهور الأربعينيات
ينير المسلسل جانباً من صراعاتهن الداخلية وعلاقة القوّة مع كلِّ من النخبة الحاكمة الهندية من "النّواب"، ومن سلطة الاحتلال الإنجليزي. وقد استند بهانسالي في كتابته إلى مرويات تاريخية حقيقية، فقد لعبت المحظيات دوراً مهمّاً في الحياة الثقافية والاجتماعية لشمال الهند منذ حكم المغول لغاية منتصف القرن العشرين.
حظي المسلسل بمتابعة كبيرة من قِبَل الجمهور العربي الذي وجد فيه خلطة غابت عن المسلسلات الهندية المدبلجة التي تعتمد على المبالغات الميلودرامية والتشويق غير المقنع.
يتناول مسلسل"هيرامندي" الذي يعرض على نتفلكس جزءاً من حياة ما يُسمى "طوايف" بالأوردو أو المحظيات، خلال أربعينات القرن الماضي في مدينة لاهور، وتحديداً قبيل الاستقلال، حيث يستقبلن في بيوتهن أعيانَ المنطقة.
فمن جهة، مكوّنات الصورة النادرة من حيث الديكورات والأزياء رسمت أجواءً سحريّة، أظهرت جمالية التراث الإسلامي. ومن جهة أخرى، تفاعل الجمهور مع القصة، نظراً لما لها من تقاطعات مع المجتمعات العربية، إذ تلقي الضّوء على معاناة النساء في المجتمعات الذكورية، حيث جنسانية النساء خاضعة لقوانين وضعها الرجال، وحيث ما زال مفهوم الشّرف مرتبطاً بعذريّة المرأة عوضاً عن أن يكون مرتبطاً بالصدق والعدل، بالإضافة إلى ازدواجية المعايير في التعامل مع الجنسين، وهذا يظهر جليّاً من خلال التعاطف الكبير الذي حظيت به بطلات المسلسل.
وقد سميّت المحظيات "طوايف" الأورديّ لاشتهارهن برقص "الكاتاك" الذي يتميّز بالطّواف أو الدّوران. ففعليّاً كانت المحظيات يطفن في دوائر تتداخل تارةً مع قيم "الاحترام" وما يترتّب عن ذلك من الثراء والمكانة المرموقة وبين الوصم بالعار بسبب ممارسة الجنس خارج إطار الزواج.
تصف الباحثة والمخرجة الهندية هذه الوضعية الاستثنائية في كتابها "طوايفنامه"، بأنّهن كنّ في برزخِ ما، على هامش المجتمع الأبوي الأرستقراطي ولكن ليس خارجه تماماً... وضعية ستختفي تدريجياً مع تدخّل الاستعمار البريطاني ويختفي معها موروثها الثقافي.
ثنائية النُّبْل والخسّة
يصوّر لنا المسلسل كيف يصبح الشرف المرتبط بالجنس وليس بالأخلاق والمبادئ، معياراً هشّاً يفرضه الأقوى في المجتمع ولكنّ منطق الواقع يفنّده.
يتردّد الرجال من نخبة المدينة من الأعيان وحتى الأمراء على مهاجع هيراماندي، ليس فقط من أجل إيجاد عشيقة، وإنّما أيضاً طلباً لتعلّم فنّ العيش، فالمحظيات على درجة عالية من إتقان فنون الشّعر والغناء والرّقص وطريقة الكلام والأدب والسياسة والأيتيكيت والإثارة الجنسية.
وخلافاً لبائعات الهوى لا تعاشر المحظية إلا سيّداً واحداً تلتزم بالوفاء له يضمن لها مستوى عالياً من المعيشة يسمح لها بالتفرّغ لصقل مواهبها.
في مجتمع طبقي وأبوي، الذكور الأغنياء هم من يضعون القيم ويحاكمون من هو دونهم من خلالها دون أن يخضعوا لها، فشرف المرأة هو العفة والحشمة، بينما شرف الرجل مكانته الاجتماعية ونسبه. فترى طبقة الأعيان بأن من الروتيني أن يكون للرجل خليلة كجزء من نمط العيش، إمّا لتمضية أوقات الفراغ أو للتعلّم، بينما يقوم نفس المجتمع بوصم الخليلة بالعار.
يعرّي بهانسالي التناقض وراء المعايير الاجتماعية، حينما تنخرط نساء هيرامندي في الدفاع عن استقلال بلدهن، فبمساعدتهن للحركة الوطنية يصبحن أكثر شرفاً من النخبة الحاكمة المتواطئة مع الإنكليز. كما يبيّن كيف أنّ "الطوايف" أداة لتمضية أوقات المرفّهين من خلال النهاية المأسوية للمحظية "لاجو جان"، التي رفض خليلها الزواج منها لأنها في نظر المجتمع غير شريفة.
وهكذا لا يحقّ للمحظية الزواج والانتماء إلى الأسر المرموقة، ولكن للأثرياء الحق في إهدار كرامتِها، وبدلاً من إدانة السيد يقوم المجتمع بنبذ الضحية.
المحظيات ممنوعاتٌ من الأحلام
في هيراماندي الأحلام خطيرة لأنها سرعان ما ترتطم بأرض الواقع، لذلك نجد أنّ كلّ امرأةٍ حاولت الخروج عن القدر الذي رسم لها تنتهي نهاية مأسوية.
تسرد الباحثة الهندية صَبا ديوان في كتابها بأن المحظية تتدرّب منذ الصّغر على تجنب الوقوع في حبّ الرجل الذي ترافقه لعدّة أسباب: أولّها أنّ التحكم في العواطف هو السبيل إلى استخلاص أكبر قدْرٍ من الأموال منه، ثانياً أنه يجب أن يكون غنيّاً بما فيه الكفاية لإعالتها هي وأسرتها فهذا العمل هو المصدر الوحيد لعيشها، والغرام قد يقودها إلى مرافقة رجلٍ غير مقتدر. والأهم أن "النواب" قد يهجر المحظية في أي لحظة، لذلك يجدر بها الحفاظ دائما على مسافة عاطفية مع الزبون لحماية نفسها.
مكوّنات الصورة النادرة من حيث الديكورات والأزياء رسمت أجواءً سحريّة، أظهرت جمالية التراث الإسلامي. ومن جهة أخرى، تفاعل الجمهور مع القصة، نظراً لما لها من تقاطعات مع المجتمعات العربية، إذ تلقي الضّوء على معاناة النساء حيث جنسانية النساء خاضعة لقوانين وضعها الرجال
وفي المسلسل، كل البطلات اللواتي حلُمْن بتغيير حياتهن، تعرّضن للعقاب: "عَلَم زِيب" التي حلمت أن تكون شاعرة، و"لاجّو جان" التي حلمت بأن تتزوج السّيد الذي أغرمت به، حتى "ملكة جان" صاحبة المهجع، وأكثر الشخصيات النسائية شرّاً، فقط لأنّها ظنّت لِوَهْلة بأنّها فوق سلطة الاحتلال البريطاني، قام الضباط الإنكليز بإهانتها ومعاقبتها. فالمجتمع يوافق على أن يستمتع بوجود تلك النسوة ولكن لا يسمح لهن باقتسام نفس المركز والامتيازات.
في بداية الدراما لا تجد البطلات حلّاً لهذه المعضلة سوى الموت: السبيل الأوحد للخلاص والحرّية، هذا ما نستخلصه على لسان الشخصيات في مشهد تشييع رفيقتهن بأغنية "نحن نطالب بالحرّيّة مهما كلّفنا الثمن".
ومع ذلك لم تكن المحظيات مجرّد ضحايا لمجتمعهن، بل بيّنَ المسلسل أيضاً قسوة المحظيات بعضهن البعض واستراتيجياتهن للنفوذ والاستمرار.
ملكاتٌ منبوذات
بالرغم مما تعرّضت له المحظيات من تمييز من مجتمع ما قبل الاستعمار، إلّا أنّ وجودهن كان مقبولاً، بل وقد كنّ يحظين بالهيبة والثروات المعتبرة قبل أن يشرع الاحتلال البريطاني بمصادرة سلطتهنّ بموجب القوانين التي وضعها.
أراد الاستعمار أن يفرض التصورّ الفيكتوري للأخلاق العامّة على المجتمع الهندي، فاعتبر المحظيات مجرّد عاملات جنس، وجرّدهن من كلّ أدوارهنّ الثقافية، تشرح الباحثة الهندية جوهي دروفا هذه الدينامية كالتالي:
"في عالم أبوي، كانت "الطوايف" في الهند يحظين بسلطة ونفوذ لم يكن أغلب الرجال يحلمون بها حتى. في الأرشيف البريطاني يتبيّن أنّ هؤلاء النساء كن من بين الأعلى دفعاً للضرائب من بين المواطنين الهنود، وكنّ ينظّمن سهرات لا يستطيع تحمّل تكلفتها سوى أغنى الأغنياء. نزولهن الاضطراري من قمّة الثراء إلى فنّاناتٍ تستجدي الأموال، هو مثال مهمّ عن كيف قطع الاستعمار شرايين الثقافة في الهند."
وبحسب صبا ديوان، ترى المحظية من "الطوايف" نفسها بأنّها تبذل مجهوداً كبيراً لتعلّم فنونٍ عدّة يحتاج سنوات من التدرّب، وغير متاحةٍ للعموم بسبب تكلفة تعلمّها المادّية، فقد توارثت فنوناً قديمة تعود إلى بلاط الملوك المغول الذين حكموا شمال الهند.
بالرغم مما تعرّضت له المحظيات من تمييز من مجتمع ما قبل الاستعمار، إلّا أنّ وجودهن كان مقبولاً، بل وقد كنّ يحظين بالهيبة والثروات المعتبرة قبل أن يشرع الاحتلال البريطاني بمصادرة سلطتهنّ بموجب القوانين التي وضعها. وفرض التصورّ الفيكتوري للأخلاق العامّة على المجتمع الهندي
في حين لخّص الاحتلال البريطاني دور المحظية في "الخدمات الجنسية" وربطها بانتشار الأمراض، وبدأ بسنّ قوانين تفرض عليها الإقامة بأحياء محددة داخل المدينة حتّى يسهل فحصها دوريّاً وفرض عليهن التسجيل في لوائح، بينما في نفس الفترة ظلّ ذلك اختيارياً بالنسبة لعاملات الجنس في بريطانيا، ما أدّى بهنّ إلى تدهور أوضاعهن و الانتهاء في بيوت دعارة مكدّسة بالنساء.
كما منعن من تبنّي الأطفال بدعوى محاربة الاتجار بالبشر، بينما كان الهدف الحقيقي هو محاربة استقلالية المحظية المادّية، إذ لم يمنع الأعيان أو الإنكليز من تبنّي الأطفال لجعلهم خدماً. ومع تدخلات سلطة الاستعمار في الشؤون الخاصّة للناس، تغيّرت حتّى قيم المجتمع الذي أصبح أكثر تزمّتاً نتيجة استعمال الإنكليز لنصوصٍ من الإسلام و الهندوسية في فرض "الفضيلة".
اتفاقاَ مع الأحداث التاريخية، تنضمّ نساء "هيراماندي" إلى المظاهرات المطالبة بالاستقلال، بعدما قاطع "النواب" حيّهن و ضيّق عليهن الاستعمار الإنكليزي الخناق، حلٌّ تلجأ إليه البطلات للخروج من وضعيتهن عوض انتظار الموت، وكأنّ بهنسالي يقول لنا إنّ مطالبة النساء بحريتهن لا تنفصل عن المطالبة بحرية الوطن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 6 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.