حين يطلّ علينا أفيخاي أدرعي ليلاً، لا يكتفي بنشر صور الأماكن التي ينوي الجيش الإسرائيلي قصفها، بل يكتب مقدمةً لرواية متجدّدة من القتل المجّاني أو تتراً لمسلسل رعب، بكل ما يصحبه من موسيقى وأسماء المشاركين في المقتلة، أشبه بمشهد من رواية "قصّة موت معلن" لغابرييل غارسيا ماركيز، حيث الجميع يعرف أننا سنموت، إلّا نحن، حيث نسير ونحن نحمل ورقة نعوتنا على ظهورنا. نعيش حالة انتظار دائم، ونتساءل بمرارة: من بين كل الشائعات اليومية، بين مليار ونصف خبر كاذب يُنشر يومياً على الإنترنت، لماذا تكون تغريدة تهدّدنا بالموت هي الوحيدة التي لا نملك رفاهية الشك حولها؟ لماذا يبدو خبر موتناً أكيداً في تغريدات الكل؟
بدأ الأمر من استهدافات أجهزة البيجيرز في لبنان، مروراً بأجهزة "walkie talkie"، لتتحوّل بعدها إلى اغتيالات بأدق التفاصيل، اغتيالات تتحرّى درجة سخونة قهوتنا الصباحية، نوعية طبخة الغداء، وأي الثياب الداخلية التي سنرتديها لهذا الموعد أو ذاك.
لم تكن هذه العمليات مجرّد طريقة لإسكات الأصوات، بل كانت أشبه بكتابة سيناريو لفرقة مسرحية تتمرّن على أداء "النزوح الكبير". ذلك اليوم الذي حدث في 23 أيلول/ سبتمبر الماضي، لم يكن مجرّد يوم في الروزنامة، بل كان بداية حقبة من الرعب المعلّق. يومٌ آخر في روزنامة الخوف، يتغيّر فيه شكل الهلع لكن يظل طعمه مرّاً ووقعه ثقيلاً. هل كانت هذه العمليات جزءاً من خطة متقنة أم مجرد عبث بأرواحنا؟ هل يمزح معنا هذا الأفيخاي ابن العاهر؟
عندما يكتب: "من أجل سلامتكم، عليكم الابتعاد لمسافة 500 متر عن هذه الأبنية"، نتساءل بسخرية: ما هو هذا "الأمان" الذي يتحدّث عنه؟ أهو مجرّد وعود وهمية كتلك التي تقال عند إخلاء المباني قبل أن تُهدم على رؤوس أهلها؟ أليس هذا هو "التجسّس العلني" الذي يسخر منا؟ حين يُجبرك عدوّك على الهروب من منزلك، لا يزرع فيك فقط الخوف، بل يزرع فيك فكرة أنك أصبحتَ هدفاً، تسير وأنت تحمل دائرة الأهداف تلك على خلفية جمجمتك، أو بداخلها، تسير وأنت تحمل موتاً فجائياً قد يحدث في أي لحظة.
بين مليار ونصف خبر كاذب يُنشر يومياً على الإنترنت، لماذا تكون تغريدة تهدّدنا بالموت هي الوحيدة التي لا نملك رفاهية الشك حولها؟ لماذا يبدو خبر موتناً أكيداً في تغريدات الكل؟
في كل ليلة، ترسم خارطة ذهنية جديدة، ليس فقط للبيوت والمباني، بل أيضاً للذاكرة، لذكريات المشي والتوقف والانتظار والابتسام والتحية. لا يستهدفون الجغرافيا فقط، بل الذاكرة نفسها، يجعلون كل مكان مألوف مفخّخاً، وكل زاوية كانت يوماً فرصة عادية لقبلة أو سلام، تتحوّل إلى بقعة محاطة بالريبة.
بين الحروف والصور المختارة بعناية، يختبئ شيء أشد من القنابل. يغزو أفيخاي تويتر وكأنّه قاتل يسير بين أزقة يعرفها جيداً، يألفها ويعرف فجواتها وفتحاتها المناسبة لإطلاق النار والهروب بعدها. يغزوها كما يغزو الموت أفكارنا، ببطءٍ وهدوء. تغريداته ليست مجرد تهديدات بالدمار، بل هي محاولات لإبادة الروح قبل الجسد وإلى الاستشهاد نفسيّاً. إنها رسائل تهدف لقتلنا مرّة تلو الأخرى، قبل أن تطلق الطائرات صواريخها. كل مرة، نقرأ تغريدة قاتلة، نبدأ بتفكيك صورها، نراقب الزوايا ونقيس المسافات: هل هذه البناية هي نفسها التي أراها كل صباح؟ هل هذا هو الشارع الذي أمشي فيه؟ كيف يمكن لصورة واحدة أن تحتوي على كل هذا الموت؟
ربما نعرف الآن، أكثر من أي وقت مضى، أن الخوف لا يحتاج إلى قنبلة ليسبّب الدمار، أحياناً، كل ما يحتاجه هو 280 حرفاً لا غير
هذه الصور، التي يفترض أنها مجرّد إعلانات عسكرية، تتحوّل إلى شيء أشد ترويعاً. يصبح كل مبنى يظهر في الصورة رمزاً لاحتمال الخسارة والفقدان. خلف كل تلك الجدران، هناك أشخاص، عائلات، هناك حيوات كاملة ترقد بانتظار أن تنمو. كيف يمكن لتغريدة أن تحمل معها كل هذا الرعب؟ كيف يمكن لمنشور عابر في عالم الإنترنت أن يتحوّل إلى كابوس يسيطر على الآلاف من العائلات المهجّرة من بيوتها؟ تصبح كل إشارة، كل معلم، كل بناية، مساحة غريبة تخفي خلفها أسئلة لم نتخيل يوماً أننا سنطرحها: "هل هذا هو منزلي؟ هل سأكون أنا الضحية القادمة لهذه التغريدة القاتلة؟ هل أنا الاسم القادم في بيانات الدفاع المدني؟".
أصبحت هذه التغريدات السوداوية جزءاً من حياتنا اليومية، أصبحت رعباً إضافياً كقطعة من "كيك" لا نحبها لكننا مجبورون على وضعها قرب فنجان القهوة. التغريدات التي حوّلت أبنية إسمنتية متعالية وفخورة بصلابتها إلى أشياء هشة كورق الحمام، وحوّلت الشعور بالأمان إلى حالة مشروطة، أشبه باتفاقية مؤقتة مع الموت نفسه: "اتركني ليوم آخر أرجوك". في تلك اللحظة التي يظهر فيها أفيخاي على الشاشة، نعود إلى دائرة الأسئلة: هل سيكون هذا المكان هو التالي؟ وهل نملك حقاً الوقت للهروب؟
لا وقت للتفكير. لا وقت حتى للحزن. إننا محاصرون بالأسئلة: ماذا سيحدث غداً؟ هل سنفقد شخصاً عزيزاً؟ هل ستصبح هذه "التغريدة" هي النبأ الأخير؟ نعيش حالة من الانتظار القاتل، وكأننا أبطال مأساة نعرف نهايتها مسبقاً، لكن لا نستطيع تغيير شيء. تماماً كما في "قصة موت معلن"، نعيش وكأن الموت سيأتي، لكننا لا نعرف كيف ولا متى. ومع ذلك، نظل نبحث في تفاصيل صورهم عن بصيص أمل: "هل يمكن أن يكون هذا المكان وهمياً؟".
أصبحت هذه التغريدات السوداوية جزءاً من حياتنا اليومية، أصبحت رعباً إضافياً كقطعة من "كيك" لا نحبها لكننا مجبورون على وضعها قرب فنجان القهوة. التغريدات التي حوّلت أبنية إسمنتية متعالية وفخورة بصلابتها إلى أشياء هشة كورق الحمام
نعم، ربما في عالم مليء بالأكاذيب، نتمنى لو كان خبر موتنا كاذباً أيضاً، مجرد إشاعة سيئة مثل غيرها، مجرد تغريدة لن تتحقق أو مزحة ثقيلة من صديق غبي، لكن الحقيقة الوحيدة التي تظل تقف أمامنا اليوم، هي أننا نحيا في ظلّ احتمالٍ أبدي: أن كل صورة، كل جملة، كل حرف يمكن أن يتحوّل إلى إعلان عن موتٍ نعيشه ونحن على قيد الحياة. موت يُعلن في صورة، يُنشر في تغريدة، يكتب في بوست على فيسبوك، ويترك فينا أثراً يستحيل محوه.
ربما نعرف الآن، أكثر من أي وقت مضى، أن الخوف لا يحتاج إلى قنبلة ليسبّب الدمار، أحياناً، كل ما يحتاجه هو 280 حرفاً لا غير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...