شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
بين اغتيال

بين اغتيال "الشيخ" واغتيال "السيد"... والاحتراق بين عباءتين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن وحرية التعبير

الأحد 13 أكتوبر 202401:09 م

كان الأحد 21 آذار/ مارس 2004 يوماً ثقيلاً، بساعات بطيئة.

من أين يأتي هذا التوجّس الأحمق وكأنّي ملاحقة من البوليس السياسي؟ لم يكن غريباً في تلك المرحلة من عهد "المخلوع" أن تجد نفسك فجأة في السجن من أجل كتاب ممنوع في بلدك هرّبه لك والدك عبر الحدود من ليبيا، ففي تلك المرحلة قراءة كتاب ممنوع كانت كقيلة لتصنع منك بطلاً ومناضلاً حقيقياً.

ربّما كان ذلك الشعور هو "صيبة عين" أو نظرة حاسد يستكثر عليك البطالة والراحة القسرية في البيت، أتراني محسودة لانسداد الأفق أمامي وانعزالي الطويل في غرفتي أعارك فيها طه حسين تارة وتوفيق الحكيم تارة أخرى؟ بعد أن حاصراني بين مدّ الأمل وجزر الواقع؟ أم لأنني أناقش ميكيافللي لعلي أدفعه للتوبة، وأراجع فصول الحرب العالمية الثانية باحثة فيها عن حفرة جديدة تمتصّنا إلى غياهبها فنُبعث من جديد؟

ثم ماذا أيها اليوم الغريب؟

لا منطق يحدث معي إلا أنني ابتعدت عن قراءة القرآن.  قالت لي أمي: "انهضي، فتوضّئي وصلّي وإقرئي ما تيسّر من القرآن الكريم"، لكنني تذكرت أني أخوض معركة الدورة الشهرية، وأعتكف بها ككل النساء العربيّات في صمت يتذمّر من أجسادهن القذرة والمطلوبة.

الحقيقة أنني لم أكن مطلوبة في سوق "الخطّابة" آنذاك، فقد كنت ذميمة قصيرة وفقيرة. وهو ثالوث قاس في تلك السنوات البغيضة، أي حين بدأت المظاهر تسيطر على مجتمع ينتعش اقتصادياً، فاعتنق الديانة الاستهلاكية والمظاهر. إنما لا أكذبكم القول، لقد أنقذني فقري النوعي من مصير مثيلاتي، وأنا لست نسوية، ولكني أؤمن اليوم أن قدري اختارني جيداً لما يليق بي.

اليوم الذي استنزف كل الإجابات

فلنعد إلى ذلك اليوم الذي استنزف كل الإجابات، وهل فعلاً أريد الأجوبة أم أنها مجرد ترف؟ نحن الجيل الذي انغمس في طين الأسئلة، بين انتفاضة الحجارة، وغزو الكويت، وملف النفط مقابل الغذاء والدواء، وحرب التحرير في جنوب لبنان، وأفغانستان مصنع الأزمات، وسقوط الاتحاد السوفياتي، ومذبحة سيربرينتشا، وثلوج الشيشان الباردة، وملل مفاوضات السلام اللانهائية، وهيستيريا الإسلاموفوبيا.

يا إلهي... لقد مررنا بكل تلك الأحداث، بكل ذلك الجنون، وأكثر. فلا غرابة إذن إن تعرضنا لبعض الاكتئاب الثقيل الذي يعترينا فجأة بدون مقدّمات. 

قالت لي أمي: "انهضي، فتوضّئي وصلّي وإقرئي ما تيسّر من القرآن الكريم"، لكني تذكرت أني أخوض معركة الدورة الشهرية بصمت ككل النساء العربيّات, والحقيقة أنني في تلك المرحلة لم أكن مطلوبة في سوق "الخطّابة"، فقد كنت ذميمة قصيرة فقيرة. ثلاثيٌ قاس في تلك السنوات البغيضة

الاثنين 22 آذار/ مارس 2004، صوت ما أيقظني، حدس قوي حزين دفعني إلى فتح التلفاز بلا تفكير. كانت الشاشة تبتلعني في مربعات رمادية تضيق حتى ذلك الكرسي المتحرّك المهشّم الذي يرفعه أحدهم أمام الكاميرا، كان يتحدّث لكني لم أسمع، فصوت العنوان المكتوب كان أعلى بكثير "إسرائيل تغتال الشيخ أحمد ياسين".

وفجأة امتصني مشهد قديم من دراما سورية إسمها "باب حديد"، كان المشهد يتحدّث عن الصدمة التي استقبل بها السوريون خبر وفاة الزعيم المصري جمال عبد الناصر في سوريا. وهناك طفلة صغيرة ضائعة في حارات البلدة القديمة تبكي وتجري بلا هدف ولا وجهة.

هل مصير الأجيال المتعاقبة اليتم المتجدّد؟ لا يكاد الأمل يتجدد حتى تقتلعه تلك اليد البغيضة من جذوره. وماذا الآن؟ هل انتهى الحلم؟ هل توقفت تلك المسيرة التي فتحنا أعيننا عليها؟ حين كنّا نمنّي أنفسنا بأنّنا أفضل حظّاً من آبائنا، وأنّنا جيل التحرير وسنعيد فلسطين.

واكتشفت سر الحزن البغيض الذي تملكني بالأمس. كان الحدس بهول المصيبة التي حلّت عليّ وعلى جيلي قوّياً، لأننا من طين فلسطين ورحم حجارة انتفاضتها، ولأننا ولدنا من خاصرة وجعها، وكبرنا على ترانيم شهدائها.ورأيتني كتلك الفتاة أجري وجيلي في الأزقّة المظلمة نتلمّس حلمنا ونمد أيادينا نحوه فتجرحنا بقايا الكرسيّ المهشّم.

تلقّفتنا العباءة البنّية، ونفضنا الظلمة التي أحاطت بنا، فتشبّثنا بتلابيبها، كطفل يتمسّك بخطوة أبيه يتبعها، ويقلّدها، ويمتثل بإيقاعها، ويحتمي بظلّها. كنّا جيلاً مكبوتاً، محكوماً بالصمت والخوف، نجترّ مرارة آبائنا وأجدادنا وحكايات النكبة والنكسة، ونستشعر صلاح الدين بطلاً أسطورياً لا يحتمل زماننا انبعاثه من جديد.

الغرور… الخطيئة المفضلة

ربّما هذا الماضي الذي لم يكن يوماً ماضينا بكل أمجاده خلق بذرة التمرّد فينا وسحب لحظة 14يناير/ كانون الثاني من كينونتها التاريخية، فدخلنا لأوّل مرة إلى التاريخ. في لحظة ما ظنّنا، أنّنا صنعنا التاريخ فتملّكنا الغرور، والغرور بداية السقوط، كما يقول ألباتشينو على لسان الشيطان في فيلم The Devil’s Advocate "الغرور خطيئة الإنسان المفضّلة لديّ". أو ربّما لم نكن مستعدّين جيّدا للحظة التاريخية، فانغمسنا في مدّ الحماسة التي اكتسحت الشعوب العربيّة، كنّا كأي جاهل لا يحسن اللغة الأجنبية، وبدلاً من أن يلقي التحيّة على جيرانه الجدد توجّه لهم بشتيمة عنصرية. 

كنت أحارب أبي وسؤاله الحائر المتكرّر "ما الذي دفعني إلى ترك بلدي وعملي من أجل المجهول؟ ما دخلي أنا بفلسطين" كان أبي رجلاً مخذولاً حتى موت الانتماء.

نحن قادمون من رحم القمع الذي مارسه بن علي والقذافي ومبارك وعلي عبد الله صالح وبشار، جميع أولئك اللذين كانوا يجلسون حول تلك الطاولة سنوّياً، ويطحنون خوفهم منا حديداً لشبابيك الزنازين، وقوتاً لكلابهم المترصّدة خلف النظارات السوداء.

لم نتعلّم الحرّية، فالحرية لها أبجديتها وقوانينها ومحاذيرها، لقد مارسنا الحرّية على طريقة ذلك الجاهل وسلّمنا ثورتنا إلى تلك العاهرة التي استبدلت جسدها البالي بالطلاسم.

كانت العباءة منبع الروح الجديدة، ربّما دماء الياسين دعت لنا في ذلك الفجر أن لا نُترك وحدنا، لقد صرنا من نسيج العباءة وخيطها حتى تماهينا مع حركتها وهي تتطاير على إيقاع خطى "السيد".

لكنّنا جيل اعتاد الخذلان، ذلك أصيل فينا، في ماضينا الذي ليس ماضينا، وفي حاضرنا أيضاً.

كان سقوط بغداد بعد ملاحم الصحّاف الخطابية وخطابات صدام العروبية هزيمة لقلوبنا المعتلّة أيضاً. لكن خذلان السيّد أشدّ ايلاماً لو يعرف.

كنت أقضي اللّيالي الطويلة في نقاشات حادّة مع أبي، أدافع عن خيارات المقاومة وحرب السيد التي كانت حربنا، أبي الذي ذاق مرارة الهزيمة وهزمته شخصياً، فهو أحد أولئك الشباب التونسيين الذي ارتحلوا بهمّة وإيمان إلى معسكرات التدريب في ليبيا ثم لبنان من أجل الاستعداد لحرب تحرير فلسطين ليجد نفسه فجأة يدفع ثمن عمالة القذافي، وحيرة عبد الناصر.

كنت أحارب أبي وسؤاله الحائر المتكرّر "ما الذي دفعني إلى ترك بلدي وعملي من أجل المجهول؟ ما دخلي أنا بفلسطين" كان أبي رجلاً مخذولاً حتى موت الانتماء. ولم أعتقد يوماً أنني سأواجه نفس الخذلان، لقد خانني السيد شرّ خيانة، وهزمني أمام أبي وأمام ثورتي وأمام نصري الشخصي والقومي، وتلطّخت العباءة بدماء إخوتي في سوريا، حتى صرنا نبيذاً لسكرة تنسينا نشوة الانتصار.

"السيّد" العنوان صار نقطة سوداء، والعباءة الأمان صارت خبل إعدام، العمامة الشريفة خذلتنا حتى شطبت كل الأبجدية وقصفت إيماننا وشمّتت فينا جيل الآباء. وسجّي جسد الثورة على حافة الآمال الحائرة والواقع الذي يرجعنا إلى كوابيس قديمة عن روايات آبائنا، وأجدادنا، وعدنا تائهين نبكي في الحارات القديمة. إلاّ من تلك البقعة الساقطة من السّماء المنعزلة في صمتنا وخذلاننا تنسج منهما أسطورة كنّا نظنّها لا تحدث، كانت لها شمسها الخاصة تبزغ كل فينة وأخرى فنرضع منها بعض الأمل، وحتّى هذا الأمل، كنّا نتعارك حوله نتجاذبه يمينا ويسارا.

كانت لحظة بين الحقيقة والخيال، نحن جيل خذلته الحقائق فصار يتعامل معها كخيال إلى أن تثبت براءتها. فهل كان السابع من أكتوبر براءتنا كلنا من دنس الماضي؟ الفجر الذي ابتلع السردية القديمة بكل أبجديتها ومسح ملامحها القديمة بكل قسوتها، حتى أعادت لنا العباءة البنّية بعبق مسك الشهداء الذي يرتحلون على طريق القدس كل يوم. 

لم نتصالح مع السيد 

لم نتصالح مباشرة مع السيد، من السهل أن تسامح شخصاً غريباً لا يعني لك شيئاً، ولكن الأمر يختلف لمن كان لك الأب الرّوحي والسّند المعنوي والمثل الأعلى المقدّس. ليس سهلا أن تسامح أباك الذي تركك في منتصف الطريق لقمة سائغة للذئاب بل وطعنك في ظهرك، ولم يلتفت لتوسّلاتك ووجعك.

لكن حنيناً دافئاً كان يتسرّب على الرغم منا إليه، حنين اليتيم للملاذ، والحائر للمعلّم، والشكّ لليقين.  

لقد خانني السيد، وهزمني أمام أبي وأمام ثورتي وأمام نصري الشخصي والقومي، وتلطّخت العباءة بدماء إخوتي في سوريا، لكنني صدقتك مرة أخرى يا أبا الهادي، وبعفوية مطلقة وجدت نفسي أدافع عنك بنفس الإيمان واليقين 

أمّا عنّي، ورغم أنّك كنت نكستي الشخصية وغضبي القومي، فمن الغريب كيف صدقتك مرّة أخرى يا أبا الهادي بعفوية مطلقة، حتى وجدت نفسي أدافع عنك بنفس الشراسة والإيمان واليقين.

الخميس 26 أيلول/ أيلول 2024، لا شيء يعجبني، حبري يعاركني منذ يومين، هواء خانق يعتصرني، لا أشعر بالأشياء من حولي، أشاهد الأخبار ولا أسمعها، أتمشّى في شقّتي الضّيقة وكأنها غابة شاسعة، وأدور في حلقات مفرغة من تلك الأسئلة غير المفهومة. ربّما هي تقلّبات الاعتدال الخريفي واعتداءات الانقلاب السياسي، ثنائي مدمّر عندما يمتزج برائحة الدّم المتسرّبة من غزة ولبنان.

مرّ اليوم بين نوم متقطّع وتفكير طويل في اللّاشيء.

الجمعة 27 سبتمبر/أيلول 2024، لا شيء جديد، نفس الهواء الخانق يلفّني، التجأتُ إلى "محمّد منير" كالعادة لعلي أعثر في صندوق أغنياته عن رسائل تُركت لي لفهم ما يحدث لي. فتحدث لي الكينغ وأخبرني "بعد ما أدا وبعد ما خد، بعد ما هد وبنا واحتد، شد لحاف الشتا من البرد، حط الدبلة حط الساعة، علّق حلمه عالشمّاعة".

يا إلهي أحدهم سيرحل، هذه المرّة ترقبت خبر وفاة، لم يصل إدراكي أو ربّما عقلي الباطني إلى خبر "اغتيال" جديد. كنتَ الأسطورة التي لا تحتمل الغياب، فكانت ليلة طويلة في انتظار صوتك ليخبرنا "انظروا إنّها تحترق". لكن العنوان الأصفر على الشّاشة زرع صباحنا بالصمت المطبق.

ما زال بيننا الكثير يا أبا الهادي، لم نقبّل عباءتك، لم نلمك ونحاسبك، لم نشكرك، انتظر قليلاً... يجب أن تسمع كل هذا الحديث عن الأمل والإيمان والحقيقة والخذلان والغضب وعودة الأمل، عن حبيبين لم يلتقيا، لم يتغازلا ولم يتحاسبا.

نحن وأنت حبيبان خضنا كل معاركنا القيمية معاً، خذلنا معاً في ساحة الوغى محاصرين بين الصهيونية والقادة العملاء وعالم متربّص بمقدراتنا، وبين عروبتنا اليتيمة التي تحمّلتَ وزرها بكل قدسيتها ودنسها.

نحن اليوم جيل محاصر بين اغتيالين، وبينهما أسئلة عالقة، واغتيالات، اغتيال الرمز، واغتيال الأمل، واغتيال الخطوة، واغتيال الثقة، واغتيال القيم.

وما بين اغتيالين وفجر منبثق ما زلنا نلملم جلدنا المتهالك ونجمّع الثأر المتراكم ونفجّر الصمت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

معيارنا الوحيد: الحقيقة

الاحتكام إلى المنطق الرجعيّ أو "الآمن"، هو جلّ ما تُريده وسائل الإعلام التقليدية. فمصلحتها تكمن في "لململة الفضيحة"، لتحصين قوى الأمر الواقع. هذا يُنافي الهدف الجوهريّ للصحافة والإعلام في تزويد الناس بالحقائق لاتخاذ القرارات والمواقف الصحيحة.

وهنا يأتي دورنا في أن نولّد أفكاراً خلّاقةً ونقديّةً ووجهات نظرٍ متباينةً، تُمهّد لبناء مجتمعٍ تكون فيه الحقيقة المعيار الوحيد.

Website by WhiteBeard
Popup Image