بينما كان العالم يحتفل باليوم العالمي للصحة النفسية، عشنا في بيروت فعاليات من نوعٍ آخر. في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2024، قصفت إسرائيل مباني سكنية مكتظة وسط العاصمة اللبنانية، محوِّلةً مساء هذا اليوم إلى حفلة هلعٍ لا تُحصى صدماتها، وكل من فيها مصدوم.
ثلاث غارات عنيفة هزّت أحياء بيروت. ثلاث غاراتٍ إسرائيلية عصفت بكل ما راكمناه من رباطة جأش، وخلقت في نفوسنا تشوهات جديدة نضيفها لتلك التي سبقتها.
دوّى الصوت الأول. شعرت وكأن القصف كسر ظهري. حاولت فهم ما يجري وسط ردود الفعل من حولي. حاولت الحفاظ على ثباتي وسط الفوضى التي اندلعت. لكن سرعان ما دوى الصوت الثاني، فالثالث، وكانت تلك هي الشعرة التي قصمت ظهر البعير.
بينما أسترجع الآن ما حدث، وأقف قليلاً عند ملامح الجميع، أرى وجوهاً خائفة تحتاج إلى حضن دافئ وكوب من الشاي، ليس أكثر. نشتاق الشاي الساخن الذي كنا نتناوله في سهراتنا العادية. نشتاق لتفاصيل حياتنا العادية.
ابتعدوا عن النوافذ والزجاج، اهدأوا، لا تغادروا المكان، لا تستخدموا السلالم، ضعوا كمامات طبية للوقاية من الغازات السامة المنبعثة من القصف. لكن لم يقل لنا أحد كيف نهدئ من روع نفوسنا القلقة. لم تشرح لنا منظمات حقوق الإنسان كيف نلملم أجزاء صحتنا النفسية المتناثرة جراء قصف أماكننا الآمنة
وبالعودة للمشهد نفسه، فإني حتى الآن أستغرب "رصانتي". كيف للمرء أن يكون رصيناً بينما هو يقصف؟ كنت شجاعة بما يكفي لانتعل حذائي، أحمل حقيبتي ومفاتيحي، أحضر حقيبة أختي التي تركتها خلفها هاربةً، وأنطلق. لكن إلى أين؟ لا أدري. لا أعتقد أن ما حدث معي كان رصانة، لعله جمود تام فرضته عليّ ظروف الحرب. إنني متقشفة حتى النخاع في التعبير عن مشاعري، أشعر وكأن لا خيار لي سوى الثبات، وكل ما عدا ذلك من رغبة في الانهيار، ما هو إلا رفاهية لا أملكها الآن.
ركض البعض باتجاه الباب، آخرون تسمّروا في أماكنهم، ومنهم من انهار باكياً. منا من اختار ضبط النفس، فحاول إرشاد الآخرين - ولو بالصراخ. ابتعدوا عن النوافذ والزجاج، اهدأوا، لا تغادروا المكان، لا تستخدموا السلالم، ضعوا كمامات طبية للوقاية من الغازات السامة المنبعثة من القصف. لكن لم يقل لنا أحد كيف نهدئ من روع نفوسنا القلقة المرتعبة. لم تشرح لنا منظمات حقوق الإنسان كيف نلملم أجزاء صحتنا النفسية المتناثرة جراء قصف أماكننا الآمنة.
دقائق ثقيلة مرت قبل أن نهدأ قليلاً ونحاول إيجاد التوازن. أول ما شعرت به هو آلام ظهري، الجزء السفلي منه تحديداً. هذا الألم مفهومٌ جداً بالنسبة لي، إذ إن صدماتنا عادةً ما تُخزن في هذه المنطقة من الجسم.
هناك دراسات تشير إلى أن الصدمات النفسية مرتبطة بتوترات جسدية، إذ يُعتقد أن العقل والجسم مرتبطان بشكل وثيق، وأن المشاعر المكبوتة أو غير المُعالجة يمكن أن تؤدي إلى توتر عضلي وأعراض جسدية أخرى.
في حالة الصدمات النفسية، قد يخزن الجسم هذا التوتر في أماكن معينة، وغالباً ما يكون الظهر واحدة من تلك المناطق. استجابة الجسم للصدمات تستند إلى استجابة "القتال أو الهروب"، حيث يتم إفراز هرمونات مثل الأدرينالين والكورتيزول، وهذه الهرمونات تسبب زيادة في التوتر العضلي واستعداد الجسم لحالة طارئة، ما قد يؤدي إلى إجهاد عضلات الظهر.
ألمي في الفقرات القطنية ترجم تماماً حالتي. إحساسي بالعجز تجاه صعوبات الحياة كان جلياً. موقف تخطى بقساوته "الصعوبات"، وخطر فاقت شراسته القدرة على تقبّله والتعامل معه.
بينما تستمر الآلة الحربية الإسرائيلية في تحويل مدننا إلى ساحات دمار، يصعب الحديث عن دعم الصحة النفسية. في عالم يشاهد هذه المآسي بصمت، بل ويشارك أحياناً في تغذيتها، تتصدر ازدواجية المعايير المشهد
قال لي صديقي: "ما تعودتي بعد عالصوت؟"، يقصد أصوات القصف لكثرتها مؤخراً، فأجيبه بوعي تام: "ليس من الطبيعي أن أعتاد هذا الإجرام".
في مراكز الإيواء حكاية أخرى من حكايات الصحة النفسية المشوهة. حاولنا تهدئة النازحين من خلال إعادتهم إلى "هنا والآن". لكن كيف تقنع مصدوماً أن ما حدث قد فات، وبأنه نجا هذه المرة؟ هو يدري، ونحن ندري، والعالم كله يدري، أن هذه المرة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة.
اقتربت منا ملك، طفلة السبعة أعوام، وسألت: "شو يعني فسفوري؟". ملك التي ترتدي الكمامة، مثلنا جميعاً، سمعت أن القصف يحتوي على مواد فسفورية، ورأت بأم عينيها الذعر، وتشم رائحة الهواء الملوث. ماذا نجيب طفلة تلقت صدمة ثلاثية الأبعاد، استقبلتها بجميع حواسها؟ من يُطمئن ملك؟
طبعاً لا يخفى على أحد أن العالم يقف متفرجاً، لا بل داعماً لكل هذا. وبينما تستمر الآلة الحربية الإسرائيلية في تحويل مدننا إلى ساحات دمار، يصعب الحديث عن دعم الصحة النفسية. في عالم يشاهد هذه المآسي بصمت، بل ويشارك أحياناً في تغذيتها، تتصدر ازدواجية المعايير المشهد. يتعامل المجتمع الدولي مع صدماتنا على أنها أضرار جانبية، ويتغنى في الوقت نفسه بأهمية متابعة الصحة النفسية للحيوانات الأليفة، الغربية منها طبعاً.
قال لي صديقي: "ما تعودتي بعد عالصوت؟"، يقصد أصوات القصف لكثرتها، فأجيبه بوعي تام: "ليس من الطبيعي أن أعتاد هذا الإجرام".
أثر الصدمات النفسية الطويل الأمد
الهجمات العنيفة مثل التي شهدتها غزة وبيروت والضاحية الجنوبية وجنوب لبنان تُخلف وراءها ندوباً نفسية قد لا تلتئم بسهولة. وبحسب غنى حمود، الأخصائية النفسانية العيادية، فإن الدراسات تشير إلى أن الصدمات الناجمة عن الحروب تؤدي إلى اضطرابات مثل القلق المزمن، والاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). هذه الصدمات لا تقتصر على الأفراد المباشرين في الأحداث فقط، بل تمتد لتشمل المجتمع بأكمله. الشعور بعدم الأمان والخوف من المستقبل يظل مرافقاً للضحايا حتى بعد انتهاء الحروب.
في اليوم العالمي للصحة النفسية، ننعى ما تبقى لنا منها. هذا الحق الأساسي لنا كبشر، يُنتهك بوحشية لا رادع لها، بينما يتغنى المجتمع الدولي بعبارات رنانة. ما حدث في بيروت ليس مجرد حدث عابر، بل هو جرح عميق في الذاكرة الجماعية للعاصمة اللبنانية، وسيظل طويلاً شاهداً على العجز الدولي أمام معاناة الشعوب.
لطالما بقيت صدماتنا النفسية الناتجة عن عدوان إسرائيل على بلادنا، طي الكتمان والإهمال، لكنها اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تستحق أن تكون في طليعة الحملات والندوات والخطب. وبالتالي، فإن أي تعويض لا يتضمن ترميم جروح أنفسنا، لا يُعوّل عليه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...