إنها الساعة الثانية بعد منتصف الليل، أمارس هوايةً جديدةً اكتسبتها قبل أيام: رصد بيوتنا المهدّمة من خلال خرائط غوغل والأخبار وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
منذ بداية العدوان الصريح على لبنان، ونحن نعيش رعبًا يوميًا كل ليلة، عنوانه: "شاهد قبل الحذف"... شاهد موقع منزلك الظاهر على خرائط غوغل، التي ينشرها أفيخاي أدرعي قبل أن يتم قصفه، وبالتالي حذفه.
اعتمدت إسرائيل استراتيجية حديثةً في عدوانها على غزة، والآن على لبنان. تحذيرات لإخلاء أماكن القصف، فتسوق نفسها أمام العالم، بدهاءٍ تام، على أنها إنسانيةً وتحيد المدنيين عن حربها مع العسكريين. لكنها تعي تمامًا ما تعنيه هذه التحذيرات: بث الرعب في نفوس الناس وإبقاؤهم في حالة ترقب دائم بانتظار "دورهم".
يظن أصدقاؤنا من دول أخرى أن هذه التحذيرات مفيدةً، وأننا نوعًا ما في مأمن لأن العدو يعطينا "العلم والخبر" قبل القصف. وهذا ما تريد إسرائيل تصديره تمامًا: صورة البريء والإنساني. لكن الواقع يكشف وجه العدو الإسرائيلي الحقيقي: قبيحًا وقاسيًا.
ماذا يحدث حين ينشر "أدرعي" تحذير الإخلاء؟
تبدأ الجولة فور نشر أفيخاي أدرعي، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، منشورًا على منصة "X" مرفقًا بصورة خريطة، يحذر فيها سكان مبنى معين في الضاحية الجنوبية لبيروت، ويطلب منهم إخلاءه. أسلوبه المستفز هو بحد ذاته قصة. تشعر وكأنه تجسيد واقعي لإسرائيل: وجه قاتم، هوية غير واضحة، خطاب استفزازي وفوقي، ونزعة شرسة لا تُطاق.
منذ بداية العدوان الصريح على لبنان، ونحن نعيش رعبًا يوميًا كل ليلة، عنوانه: "شاهد قبل الحذف"... شاهد موقع منزلك الظاهر على خرائط غوغل، التي ينشرها أفيخاي أدرعي قبل أن يتم قصفه، وبالتالي حذفه
نعود للمنشور، فيبدأ بـ "تحذير عاجل لسكان منطقة كذا وتحديدًا مبنى كذا، المحدد في الخريطة في حي كذا، والمباني المجاورة"، ويكمل المنشور: "من أجل سلامتكم وسلامة أبناء عائلتكم، عليكم إخلاء هذا المبنى والمباني المجاورة فورًا والابتعاد عنها لمسافة لا تقل عن 500 متر".
نفتح الخريطة، نتأكد من المنطقة، ونبحث عن بيتنا بين الأهداف. لحظات رعب لا توصف. نجري اجتماعًا عائليًا مصغّرًا نتبادل خلاله المعلومات:
"هل يقصد المنشور المبنى المجاور لدكان الحي؟"
"المقصود هو مبنى الخياطة ليلى، صح؟"
وهكذا، حفلة تكهنات سريعة تنتهي -حتى الآن- بارتياح. ثم تبدأ المرحلة الثانية: مشاهدة القصف على الهواء مباشرةً.
7 دقائق للهروب!
يعطي العدو سكان المباني 7 إلى 10 دقائق للإخلاء. ولنسلم جدلاً بأن المواطنين هناك كانوا متفرغين لمنصات التواصل الاجتماعي وتلقوا الخبر فور نشره، كيف يمكن للمرء أن يخلي بيته خلال 7 دقائق؟ ماذا يأخذ معه؟ هل ستكفيه هذه المدة أصلاً لاستخدام السلالم؟ وإن وصل سالمًا، فكيف سيرحل عن المنطقة كلها خلال هذا الوقت؟
وهنا تقع المجزرة، لا زمان يكفي ولا مكان يؤوي، الموت قادم. عليك فقط الصلاة، -إن تمكنت من ذلك أصلاً- ثم ننتقل جميعًا إلى شاشات التلفزة، حيث تبث المحطات القصف بشكل مباشر. نرى بأم العين الصاروخ الذي سيصيب الهدف المحدد مسبقًا، وكل ما يحيط به من مبانٍ وأحياء وأبرياء.
فور مشاهدة خريطة التحذير، تظهر تساؤلات من نوع: "هل يقصد المنشور المبنى المجاور لدكان الحي؟، أم المقصود هو مبنى الخياطة ليلى، صح؟
أما عن الثلاثين ثانيةً التي نقضيها في البحث عن منزلنا، فتقول نور، النازحة من ضاحية بيروت الجنوبية، إنها تقضيها في محاولة الإجابة عن أسئلة صعبة تثقل كاهلها:
"هل سأندم على الصور الفوتوغرافية التي تركتها في المنزل ولم أصطحبها معي؟"
"هل سيبقى عندي أمل بالغد؟"
"هل سأتمكن من الذهاب غدًا للمنزل لأخذ ما تيسر من الأغراض؟".
تشرح نور قسوة هذه الثواني، مدة البحث في الخريطة عن بيتها المستهدف، وتقول:
"أحار ماذا أفعل حينذاك، أأندم على ما تركته خلفي؟ أخاف من الآتي؟ أأغضب من الظلم؟ أأضع خطةً لمرحلة ما بعد خسارة المنزل أم أتأمل خيرًا؟"
حال نور يشبه حالنا جميعًا، أكثر من مليون نازح يترقبون وينتظرون ويصلّون. المحظوظ منا هو من اطمأن على منزله، لكنه يغرق حتمًا في دوامة عقدة الناجي. نجونا اليوم، الحمد لله، لكننا سنبقى بالانتظار حتى إعلان طلب الإخلاء التالي.
شكراً أيتها التكنولوجيا
تجسّد كلمات الأخصائية النفسانية العيادية غنى عبد الرحمن حمود عُمق الأثر النفسي الذي يتركه تهديد الاستقرار على النفس البشرية. فالبيت ليس مجرد مكان مادي، بل هو رمز للأمان والدفء الذي يربط الإنسان بجذوره. عندما يتعرض هذا الركن المهم للاضطراب، نجد أنفسنا في مواجهة مع مشاعر عارمة تراوح بين الخوف العميق والغضب المكبوت، وبين القلق الذي يأكل الروح والذعر الذي يعمق الفجوة بيننا وبين إحساسنا بالسيطرة على حياتنا.
لا بد أن أشكر التطور التكنولوجي الذي سمح لنا بمراقبة الحدث عن كثب. الحدث الأهم في حياتنا: تدمير بيوتنا، وبينما تناقش دول "العالم الأول" ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيحل محل الإنسان، نحدق نحن في خرائط غوغل ونجري هنا نقاشًا تكنولوجيًا من نوع آخر: هل هذا منزلنا الذي سيقصف؟
إن الرحلة النفسية التي يمر بها المرء في مواجهة هذا التهديد ليست بسيطة، بل مليئة بالتناقضات والمشاعر المتداخلة. كل لحظة في هذا الواقع تحمل في طياتها مشاعر متضاربة. فهناك لحظات يحاول فيها الإنسان التشبث بالأمل والطمأنينة، وأخرى يجد فيها نفسه غارقًا في اليأس والهلع.
أخيرًا، لا بد أن أشكر التطور التكنولوجي الذي سمح لنا بمراقبة الحدث عن كثب. الحدث الأهم في حياتنا: تدمير بيوتنا. وبينما تناقش دول "العالم الأول" ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيحل محل الإنسان، نحدق نحن في خرائط غوغل ونجري هنا نقاشًا تكنولوجيًا من نوع آخر: هل هذا منزلنا الذي سيقصف؟
نحن يا عالم نشاهد قصف بيوتنا مباشرةً على الهواء، نسمع صوت الصاروخ قبل أن يصيب الهدف، فيصيب قلوبنا أيضاً. فهل هناك قهرٌ أكبر من هذا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...