شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
لن نتأقلم مع هذه الحرب أبداً

لن نتأقلم مع هذه الحرب أبداً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقيقة

السبت 5 أكتوبر 202411:02 ص

فجأة، وعلى مائدة الطعام في وسط الحرب، أخبرتنا أمّي أن شعرها شاب بعد حرب الثمانينيات في زحلة، وأنها كانت في العشرينيات حينها، تتنقل بين الغارات لتأمين الطعام وتعود للاختباء في الملجأ. أكملت بعدها سكب الطعام لنا وهي تخبرنا أن الشعر الأبيض ظهر بعدما شهدت مقتل بعض أبناء الحي أمامها، وعندما انتهت، تباهت أنّها لم تخف حينها، ولم تخف في حرب 2006 من التجوّل لإحضار الطعام في البقاع، ثم قالت: "كان الوضع أسوأ من هلق بحرب زحلة، ما كنت خاف. ما بخاف".

عادة أسألها أسئلة كثيرة عن الحرب، فتحاول تجاهل الموضوع كل مرّة، لكنني هذه المرة لم أغتنم الفرصة لفهم المزيد، اكتفيت بالصمت وأكملنا طعامنا ونحن نشاهد الأخبار ونسمع الغارات المجاورة على البقاع، ثم عُدت إلى بيروت.

في بيروت، خلال الأسبوعين الماضيين، أصبحت أنتبه أكثر لتفاصيل منزلي، صرت أصرف وقتاً أكبر لترتيب الفراش، تنظيف البيت ومراقبة زواياه.

لطالما عانيت من القلق الزائد وعدم القدرة على البقاء في الحاضر وصعوبة اتخاذ القرارات، لكنني مؤخراً، صرت أكتفي بالجمود والعيش في اللحظة، أو حرفياً الثانية. فجأة، أصبحت الأسرع في اتخاذ قرارات توضيب الحقيبة التي تتحرّك بين البقاع وبيروت.

تعوّدنا، لقد وضّبنا الحقيبة نفسها مرّات عدة منذ الثامن من أكتوبر، في كل مرّة سمعنا فيها أن الأمور ساءت أو ستسوء، نوضبها، ثم نفرغها، ثم نحضّرها مجدداً وهكذا. لكن هذه المرّة غير كل المرات. لا مساحة للقلق والتفكير، لا مساحة لاتخاذ القرارات، نعيش فقط غيمة من الحاضر السوداوي. لا صورة للمستقبل، لأي مستقبل.

هذه المرة، ندرك أن توضيب الحقيبة هذه أصبح رفاهية زائدة، فنختار أي شيء بسرعة، لأن الوقت قد يسبقنا. إسرائيل قد تسبقنا. قد يصبح الواقع أفظع بكثير من أي حرب سبقتها، وقد لا تكون أمي على حق.

تعوّدنا، لقد وضّبنا الحقيبة نفسها مرّات عدة منذ الثامن من أكتوبر، في كل مرّة سمعنا فيها أن الأمور ساءت أو ستسوء، نوضبها، ثم نفرغها، ثم نحضّرها مجدداً وهكذا

كل أزمة عشناها تزيد صعوبة الأشياء وتضيف شيئاً على لائحة الرفاهيات والصدمات وردود الفعل. بلحظة واحدة، أصبح البيت، الأكل، الشرب، الجلسات مع الأصحاب، المزاح السام، شراشف السرير النظيفة، الذكريات، الحب، القدرة على الرحيل، على الاختباء، وحتى على النزوح، كلها رفاهية.

بلحظة واحدة، أصبح، لدى كل من أحب، رصيد جديد من ردود الفعل الغريبة. فجأة، اختفى اللون من وجوه البعض، ظهرت الهالات السوداء على الوجوه، خفّت الكلمات وتلاشت المشاعر، تورّمت العيون وسال الدمع الجاف.

منا من لا ينام لحظة بسبب صوت القصف العنيف، فإسرائيل تنفّذ الغارات الأعنف وأحزمة النار في منتصف الليل، لكنها "تنذرنا" بإخلاء المنازل قبل دقائق... منا من جرّب شعور نوبات الهلع للمرة الأولى، من اختفى عن السمع واختبأ، من أنهك نفسه بالعمل، من خطّط للرحيل قبل إغلاق المطار. لكلٍ وجعه، ولكلٍ طريقته في مضغ هذا الوجع.

أصبحنا نتواصل كل ثانية للتعبير عن حبّنا لبعض خوفاً من الفقد. يكفي تبادل سؤال: "كيفك"، لنشرح كل شيء، اختفت نكاتنا السامة حول أزماتنا حتى.

كيف نغسل وطأة هذا كله؟ هل هذا شكل النجاة؟ فقط "ألا تقتلنا غارة مباشرة"؟ 

مرّت علينا 5 سنوات مرهقة، من انتشار كورونا والحجر، ثم الأزمة الاقتصادية ونهب أموالنا، إلى تفجير بيروت القاتل، والزلازل المتتالية، الحرب على غزة والحرب علينا. كل أزمة عشناها أعادت لنا شعوراً أقوى بذنب النجاة، علماً أننا جميعاً نُقتل بطرق مختلفة بشكل يوميّ هنا.

غريبة عبارة "ذنب النجاة" هذه. أقوم بمتابعة أخبار كل من أعرفه من هاتف غبي. كيف نصف أنفسنا بالناجين ومنا مَن فقد أحباءه، أو من يخبرنا أنه نزح ولا يزال ينزح كل أسبوع إلى منزل جديد، بسبب أزمة المنازل وتوسّع القصف الى مناطق "آمنة"؟ كيف نجا الذي انتظر عائلته يوماً ونصف وهم عالقون بسياراتهم من جنوب لبنان؟ أو من لا يدرك إذا كان سيرى سريره أو نباتاته المفضلة مرة أخرى؟ كيف نجى من يرى ذكرياته ومستقبله تمحى في ثوان معدودة؟

كيف نغسل وطأة هذا كله؟ هل هذا شكل النجاة؟ فقط "ألا تقتلنا غارة مباشرة"؟

كلنا نشعر بذنب النجاة، لكن في الحقيقة لا ناجين في هذا السيناريو.

بالحديث عن الرفاهية والنجاة، لم أكن أقدر أن أكتب هذا من بلدي بسبب غباشة المشهد. فأنا أكتب من بلد آخر حالياً. استطعت أن أسافر البارحة لأسبوع، لأن تذكرة الرفاهية المحجوزة مسبقاً لم تلغ. طارت إحدى الطائرات الأخيرة المتوفرة بعد إلغاء معظم الرحلات، بعد ساعة من القصف الأعنف على بيروت الصغيرة.

وصلت الى بلد آخر، أنظر إلى من حولي باستغراب: كيف يعيشون تفاصيل حياتهم اليومية وأنا سأعود إلى مشاهدة آلة القتل بشكل مباشر بعد أسبوع؟ هل هذا دخان انفجار؟ ههه، لا انفجارات هنا. إنها بلاد آمنة.

أصبحنا نتواصل كل ثانية للتعبير عن حبّنا لبعض خوفاً من الفقد. يكفي تبادل سؤال: "كيفك"، لنشرح كل شيء، اختفت نكاتنا السامة حول أزماتنا حتى

لماذا لا نعيش نحن في أمانهم الدائم؟ حتى من يرحل، لا ينجو، لأننا ولدنا في الجزء الجنوبي من العالم، مجرّد حظ عاطل وعالم شمالي متواطئ بتهميش وتنميط قتلنا واختفاء قصصنا بلحظة.

قبل الرحيل، كنت ألتقي ببعض الأصدقاء في الشوارع القريبة، تطلب إحداهن أن نأخذ صورة سوية: "بركي ما عدنا شفنا بعض". أردّ: "لا ولو، مش هلقد".

اعتدنا أن نقول "مش هلقد" في لبنان. اعتدنا أن نجد مخرجاً من السيء دائماً، ليس لأننا متفائلون بل لأن ليس لدينا خيار آخر. لا يمكننا العيش هنا إن لم نخفّف وحدنا على قلوبنا، ولا يمكننا الرحيل من هنا حتى لو رحلنا.

العالم كله منفصل عن واقعنا، عن آلامنا، وعن جملنا المجتمعية والتي نستخدمها كآليات مواجهة... هذا لا يعني أن مجتمعاتنا مثالية، لا بل هي عفنة في الكثير من المجالات. لكن حرب اليوم لها طعم آخر، يجعلك تضع كل ما تحمّلناه في لبنان للحظة على جنب، لتستوعب أنه فجأة، أصبح عادياً أن تسقط غارة في أماكن كنت تمرّ فيها دائماً، أصبح عادياً أن تخلي إسرائيل الجنوب كله، وتطلب علناً من أهله عدم العودة كي تكمل مشروع التطهير العرقي وتحتل بيوتهم.

يهدّدنا المتحدث باسمهم كل يوم، يطلب من أهالي منطقة أن يخلوها، ثم يضربونها. ألقوا على بيروت حزاماً نارياً البارحة. سمعه كل من يسكن في بيروت وخارجها، وظنوا أن حياتهم انتهت.

القهر هو أن نعلم أننا في قعر العجز، ألا نستطيع مساعدة من يشاركنا هذا القعر، وأن نكتشف أننا وحدنا

العالم كله لا يشعر بما شعر به أصدقائي البارحة، هو لا يدرك أصلاً، لأن الإعلام الغربي يركّز على أن إسرائيل تغتال "أهدافاً". وفيما تغتال "الأهداف"، قتلت ما يقارب 2000 شخص، معظمهم في أول أسبوعين. تقتل الآلاف من الأطفال، تقصف المناطق السكنية المكتظة في بيروت والبقاع والجنوب، تزيد منطقة جديدة على لائحة أهدافها كل يوم، وتسوّق لشعبها بأن أراضينا الجنوبية ستصبح لهم، من خلال نشر إعلانات لمنازل وهمية في جنوب لبنان للبيع، ثم تُعلن بدء الغزو البرّي في اليوم التالي.

تغضبني إسرائيل عن قصد طبعاً، وتقهرني تفاصيل الآثار التي ستبقى معنا أكثر. يقهرني أن أكثر من مليون شخص نزحوا من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، وفي كل مرة ينزحون إلى منطقة جديدة يكتشفون أن عليهم أن ينزحوا مرة أخرى.

يقهرني تجميع أرقام قتلانا. أرقامٌ مرعبة. تذكّرني فقط بأرقام غزة. بأن أهل غزة ليسوا أرقاماً. بأننا لسنا أرقاماً أيضاً. تقهرني وقاحة من يظن أن المساحات الخاصة والعامة تُنتزَع. تقهرني رغبة الكيان الصهيوني باستخدام اختلافاتنا لشرعنة استباحة الأرض.

القهر هو أن نولد هنا، ونبقى هنا، هو أن يغفل العالم كله عنا

أن يمنعنا من الرحيل من هنا، أو التنفس والعيش هنا

هو أن نحزن على أهالينا وأصدقائنا كل يوم

أن نعلم أن كل صوت يعود بهم إلى صوت أقسى منه، وأن الحكاية ستتكرّر قريباً، أو غداً حتى

أن يقف الكثير ضد الفقير منا، وأن نخجل من عجز دولتنا أمام الفقير منا.

القهر هو أن نعلم أننا في قعر العجز، ألا نستطيع مساعدة من يشاركنا هذا القعر، وأن نكتشف أننا وحدنا.

لقد أخذوا مساحات تفكيرنا بالفعل: "سمعتوا؟"، "كيفكم؟"، "انتو مناح"، "لقيتوا بيت؟".

القهر هو أن نولد هنا، ونبقى هنا، هو أن يغفل العالم كله عنا، أن يمنعنا من الرحيل من هنا، أو التنفس والعيش هنا، هو أن نحزن على أهالينا وأصدقائنا كل يوم، أن نعلم أن كل صوت يعود بهم إلى صوت أقسى منه، وأن الحكاية ستتكرّر قريباً، أو غداً حتى

أخذوا المساحة الشخصية لكل فرد نزح من منزله، لكنهم لن يحصلوا على مساحات منازلنا يوماً، لأننا، وعلى الرغم من تأقلم معظمنا على انتهاكات كثيرة لحقوقنا في لبنان، لن نتأقلم مع هذه الحرب أبداً. لن نتأقلم مع من يسرق حدائق أهالينا المتواضعة، وشجراتهم اليانعة، وطبخاتهم المفضّلة لينسبها لحضارته يوماً. لن نعتاد سرقة شوارعنا والدكاكين الصغيرة التي تفوح منها رائحة الألفة. لن نعتاد أن يقهر مجدداً كبار السن الذين شهدوا محاولة السرقة نفسها مرة سابقة.

لا أعرف أين سيذهب كل هذا القهر، وما نوع الصدمات وآليات النجاة والتخطي الجديدة التي سنتعلمها، لكنها ستكون صعبة ومن حقنا ألا نعيشها، كما من حقنا ألا يعتدي أحد على تاريخنا وأرضنا.

بصراحة، ظننت أنني سأكتب فقط عن حزني الشديد على انتهاء كل شيء جميل في بلدي، لكنني كتبت عن المقاومة دون الانتباه. أصبحت أنتبه لتفاصيل السرير والستائر لأنني أقاوم وسأعشق مساحتي أكثر. أحزن كثيراً. أختبئ من شدة القهر، من أنني حاولت أن "أتخلص" من الكثير من الصدمات في السنوات الخمس التي مضت.

أختبئ من الصفر الذي سنعود إليه مثلما عاد جيل أمي.

بلحظة، يصبح كل شيء سخيفاً. بلحظة، يمتلئ رأسي بالضباب. أتناقض بمشاعر مختلفة في لحظة واحدة. أحزن، أبكي، أحب، أندم، أحلم، أرغب بالرحيل، أغضب، أكره هذا البلد، أعشقه، أخاف على أحبائي، من شيب شعرهم وزوال مستقبلهم ومنازلهم، لكن شعوراً واحداً يبقى كما هو، حين أتذكر ما قالته أمي على المائدة، أشعر أن الأرض وطعامها الدافئ باقون لنا، وأنني، ولو بأمل كاذب، من غزاة الأرض "لا أخاف". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image