شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أنا صحافية ومن حقي أن أخاف كبقية البشر

أنا صحافية ومن حقي أن أخاف كبقية البشر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحريات الشخصية

الجمعة 18 أكتوبر 202411:24 ص

كيف تخافين وأنت صحافية؟ تكرّر هذا السؤال على مسمعي خلال الأيام العشرة الماضية أكثر من 20 مرة، 10 أيام قضيناها في لبنان – ولا نزال - على وقع الحرب، بكل ما فيها من خراب ودمار ورائحة يأس وتشاؤم.

يوم الاثنين الماضي، أول يوم من هذه الحرب، كنت قد قرّرت البقاء في ضيعتي الفاكهة في البقاع الشمالي، رغبة مني في قضاء المزيد من الوقت مع أهلي، ولأن الوضع لم يكن جيداً في لبنان على العموم، رغم أن الأزمة كانت منحصرة في مكان واحد، إلا أن القدر شاء أن أستفيق على 8 أو 9 غارات في منطقة بعلبك الهرمل، كانت من أقوى الأصوات التي سمعتها في حياتي، رغم أنني ابنة منطقة "مضطربة"، شهدت على مدى سنوات صراعات متعدّدة.

الخوف...صديق دائم

دعوني أشرح لكم/نّ ما هو الخوف بالنسبة لي، وكيف تغيّر تعريفي له بعدما رافقني لسنوات، وكيف كان شاهداً على مراحل حياتي كلها، ليصبح في ما بعد صديقاً دائماً، يرافقني أينما ذهبت، إلى أن أصبحت أشعر بالقلق إذا تخلّى عني أكثر من عدة أشهر، وتركني لهواجس حضوره مرة أخرى.

نبدأ مع حرب تموز 2006 عندما كان عمري 9 سنوات فقط. تركت منزلي مع أهلي عندما سقط الصاروخ في اليوم الأول أمام منزلنا على الطريق الدولي الذي يصل لبنان بسوريا.

"دعوني أشرح لكم/نّ ما هو الخوف بالنسبة لي، وكيف تغيّر تعريفي له بعدما رافقني لسنوات، وكيف كان شاهداً على مراحل حياتي كلها، ليصبح في ما بعد صديقاً دائماً، يرافقني أينما ذهبت، إلى أن أصبحت أشعر بالقلق إذا تخلّى عني أكثر من عدة أشهر، وتركني لهواجس حضوره مرة أخرى"

وكمناطق عدة في لبنان، كان لمنطقتي بعلبك الهرمل نصيب من الدمار والضحايا وأصوات الرعب والخراب، وصولاً إلى حرب "فجر الجرود"، التي تركّزت في المنطقة دون غيرها.

بقيت راجمات الصواريخ وراء منزلي لسنوات، لا يكاد يمرّ يوم دون صوت انفجارها صعوداً أو نزولاً، دعاني جميع من حولي وقتها إلى التأقلم مع الوضع آنذاك وانتزاع الخوف من داخلي كي أستطيع الاستمرار في العيش هنا في المنطقة، والعودة لممارسة حياتي اليومية، وتقديم شهادة البكالوريا والحصول على علامات جيدة، كما كان معهوداً مني في سنواتي الدراسية.

الخوف بنكهة مختلفة

يعرّف الخوف بأنه الشعور الناجم عن الخطر أو التهديد المتصوّر، ويفضي إلى تغير في السلوك الإنساني في بعض الأحيان، كالهروب أو الاكتئاب أو التجمد أمام الخطر، واليوم، وبعد نحو عشرين سنة على أول لقاء بيني وبين هذا الشعور الذي لا يمكن التحكم به إلا نادراً، عاد الشعور وتملّكني، هذه المرة كان بنكهة مختلفة، فتفاؤلي بوضع لبنان كان قد بدأ يسيطر على ذاتي. المؤسسة التي أعمل بها وافقت أخيراً على نقلي إلى قسم الصحافة الاستقصائية وهو ما كنت أسعى إليه لسنوات، إلى جانب أنني كنت بأعلى مراحل الاستمتاع ببيروت، المدينة التي لا يمكن أن تشعرك بالملل، متى ما قرّرت أن تفتح لها باباً في قلبك، بالإضافة إلى مشاريع كنت قد قرّرت القيام بها على المستوى الشخصي، أبرزها الاهتمام بالذات وتدليلها.

الصاروخ الأول خلال هذه الحرب إذاً لم يكن كما سبقه، فرغم ما عايشته إلا أنني لم أفقد الأمل يوماً، أما هذه المرة فقد جاء بنكهة مختلفة، محمّلاً باليأس والعجز، ولأن القصف هذه المرة طال معظم مناطق لبنان، حتى تلك التي اعتبرت آمنة خلال حرب تموز والحروب الأخرى.

"نعم أنا أخاف هذه الحياة الكئيبة، نعم أخاف فقدان الأمل بمستقبل مهني أفضل. أخاف ألا أستطيع عيش بقية حياتي مع الرجل الذي اختاره قلبي ولم أره منذ أشهر بسبب الحرب. أخاف ألا أستطيع لقاء أصدقائي مرة أخرى لنتحدث عن يومياتنا خلال الحرب، وكيف نجونا من الخطر مرات عدة، ومن منّا كان الأقرب للموت"

سقطت أمامي كل فكرة للنجاة وتداعت خططي المستقبلية، شعرت بأنني مكبّلة داخل جدران غرفتي القلقة ولا أستطيع التحرك، بقيت بلا أكل أو حراك لأكثر من أسبوع، أبدأ يومي بالأخبار ولا أنتهي منها، إلى أن يتغلّب عليّ النوم لساعة او ساعتين في اليوم كحدّ أقصى.

كيف تخافين وأنت صحافية؟ نعود إذن إلى السؤال الأول. كان الاستغراب سيّد الموقف، فمن المعروف عن الصحافي أنه يجب ألا يهاب شيئاً، حتى إذا كان صاروخاً قد يسقط فوق رأسه في أي لحظة ويحوّله أشلاء، أو يحطّم منزله ويبقى سالماً إذا كان حظه وفيراً أو نهايته لم تأتِ بعد!

استفقت بعد أيام وأنا أريد تحدي الخوف أو على الأقل ألا أظهره للآخرين من حولي خوفاً على "سمعتي"، وانتقلت إلى مرحلة إنكاره والدفاع عن نفسي بوجهه. كان كل من يسألني يتلقى جواباً دفاعياً وبنبرة مرتفعة: "نعم خفت قليلاً لكنني أبقى أفضل من غيري".

اليوم وبعد 10 أيام على هذا الوضع المتأزم، عدت وتصالحت مع الشعور بالخوف. نعم أنا أخاف هذه الحياة الكئيبة، نعم أخاف فقدان الأمل بمستقبل مهني أفضل. أخاف ألا أستطيع عيش بقية حياتي مع الرجل الذي اختاره قلبي ولم أره منذ أشهر بسبب الحرب. أخاف ألا أستطيع أن أجوب العالم وأتعرف إلى شعوبه كما كان حلمي منذ صغري. أخاف ألا أستطيع لقاء أصدقائي مرة أخرى، أصدقائي الذين تفصلني عنهم دقائق أو ساعات في السيارة، لكننا لا نستطيع ترتيب لقاء "آمن" لنتحدث عن يومياتنا خلال الحرب، وكيف نجونا من الخطر مرات عدة، ومن منّا كان الأقرب للموت.

نعم أنا أخاف! 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image