شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أسيرة في سجنٍ كبير اسمه الخوف

أسيرة في سجنٍ كبير اسمه الخوف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الجمعة 20 يناير 202311:48 ص


كنت أشعر، كفتاة وُلدت في مدينة الميناء في طرابلس، بالعزلة التامة عن محيطي، والسبب خوفي من كل شيء. عندما كنا نذهب إلى البحر، كنت أتفادى الوقوف في الماء لأن عشبة البحر كانت تخيفني. كنت أخاف من البائعين المتجولين، من أصحاب الدكاكين، من أي شخص يوجّه لي الكلام. لم أكن أعلم أن هذه العقد والمخاوف هي نتيجة حياتي التي عشتها في الشرق الأوسط، وليس لأنني معقّدة ولا أصلح للمجتمع.

يزرع الأهل الخوف في نفوس أبنائهم وبناتهم كدليل على الحب والاهتمام، من دون مراعاة لما قد تؤول اليه هذه التربية.

تشتهر المجتمعات العربية بقدرتها على زرع الخوف في قلوب وعقول مواطنيها، فالخوف الديني يولد معنا، هدفه تركيع الشعوب والسيطرة عليها عبر إعطاء رجال الدين سلطة مطلقة تخوّلهم التدخّل في كافة شؤون الحياة، من الملبس إلى المأكل، مروراً بالحياة الجنسية والصداقة والجيرة. 

أمّا الخوف السياسي فهو مزروع فينا منذ الصغر: خوف من الاعتقال والقمع، خوف من الآخر الّذي لا يشبهنا، خوف من الاصوات المعارضة لسيادة القائد، الملك، الأمير، المتحدث باسم الله.

يتعمّق هذا الخوف ويتسرّب إلى كافة المجالات الحياتية، فالأساس الفكري مبني على الخوف نفسه: "لا تقولي كذا"، "حرام أن تلبسي كذا"، "لا تجلسي بهذه الطريقة"، "لا تبتسمي للغرباء"، "هذا الطعام ليس حلالاً"، "هذا الرجل كافر"، "هذه المرأة سافرة"، "هذا البلد عدو"، "هذه الشعوب سيئة"، "لا تلمسي هذا الحيوان"... ولائحة الممنوعات والتخويفات تطول.

عانيت شخصياً من الخوف من كل شيء، من الله، من الغرباء والحيوانات، من التحدث بصوت عالٍ، من ركوب الخيل (خوفاً على العذرية)، من الرجل، من الظلمة، كنت أخاف من بيروت، من الجنوب، من المسلمين، من اليهود، من الهواء ومن الماء. أسيرة في سجنٍ كبير اسمه الخوف طوال حياتي في لبنان، والأسرى في هذا السجن معي هم أنفسهم السجّانون.

عانيت من الخوف من كل شيء، من الله، من الغرباء والحيوانات، من التحدث بصوت عالٍ، من ركوب الخيل (خوفاً على العذرية)، من الرجل، من الظلمة، من بيروت، من الجنوب، من المسلمين، من اليهود، من الهواء ومن الماء

يبدأ الخوف من الله منذ أن نتعلّم النطق، يزرعون في عقول الأطفال رعباً شديداً من العقاب الإلهي وجهنم ما بعد الموت، في البيت والجامع والكنيسة وحتى في المدرسة. ثم يأتي الخوف من الحاكم والشرطة والبلدان المجاورة التي تسعى لقتلنا وتدمير مجتمعاتنا، ثم ينتقل هذا الخوف ويتغلغل في كل تفصيل من حياتنا.

كنت أخاف من الكلاب، لأنها "نجسة" وشرسة، من ثم اكتشفت أنه بسبب إهمالنا لكلاب الشوارع وعدم اهتمامنا بها، أصبحت بالنسبة لنا مخلوقات كريهة، تأكل من الزبالة وتعضّ المارّة.

خوّفتني الراهبات في المدرسة من التحدث بصوت عالٍ والجلوس بطريقة قد تثير شهوة الرجل، والأكل بأسلوب معيّن، خوّفتني الكنيسة من المسلم والبروتستانتي وشهود يهوا واليهودي. تطوّرت حالة الخوف عندي وتسرّبت إلى تفاصيل في حياتي اليومية، فقد كنت أخاف من الباعة في محلات الثياب، ومن طلب الطعام عبر الهاتف، من القطط، من ملامسة عشبة البحر. لم أكن أعرف وقتها أن بعض الأشخاص تتحوّل مشاعر الخوف عندهم إلى severe anxiety أو إضراب قلق مزمن.

لم تكن والدتي تعرف أنني أختلف عن باقي إخوتي. كانت تظن بأنني خجولة، مسالمة، ابنة مطيعة. كانت تبرر خوفي من عشبة البحر والعصافير والقطط بأنني فتاة حساسة زيادة عن اللزوم. لم تسأل، لم تقرأ ولم تبحث عن الموضوع، لأن لا وجود لمرض اسمه "اضطراب القلق الاجتماعي" في قاموسها، وهو الخوف من الناس والاتصال البشري، حيث يشعر المريض بالقلق الشديد من المواقف الاجتماعية اليومية.

بعد أن تهدّمت أمام عينيّ أصنام آلهتهم المرئية والغيبية، تحوّلت من فتاة مطيعة تربّت على الخوف من كل شيء، إلى امرأة تحارب الأديان الذكورية والديكتاتوريات القمعية، التي لا زالت حتى اليوم أداة تخويف وإخضاع لشعوب كثيرة

كانت والدتي تتبع مبدأ "ما تعلّم ابنك، الدهر بيعلّمو"، أي أن من شأن الحياة أن تعالجني وتغيّر من طباعي من دون اللجوء إلى الطب النفسي أو حتى الحوار الصريح بينها وبيني، لأنه مضيعة للوقت، فهي المدرّسة والأم والطبّاخة والابنة والزوجة التي تتحمّل إهمال وعدم اهتمام والدي لشؤون المنزل والأولاد، إذ لا يمكنها أن تضيّع وقتها بأمور تافهة بالنسبة لها، مع أنها كانت من المشاركين بتكوين شخصيتي والاضطراب المزمن الذي كنت أعاني منه.

كيف لا يصيبنا الخوف المزمن ونحن نعيش الحروب ونشهد على المذابح. كيف يتوقعون ممن عانوا من الخوف من الدين والآخرة أن يتحوّلوا لأفراد أسوياء وناشطين في المجتمع؟ تربينا في بيوتنا على الخوف من الحب، وحتى من السعادة، فكنّا نشعر بالذنب ونخشى أن تتحوّل حياتنا إلى جحيم بعد لحظات من الفرح، كنّا نقول: "الله يستر"، لأننا معتادون على القلق والخوف.

يزرع الأهل الخوف في نفوس أبنائهم وبناتهم كدليل على الحب والاهتمام، من دون مراعاة لما قد تؤول اليه هذه التربية.

كانت أول نقطة تحوّل بالنسبة لي هي التحرر من قيود الدين والمجتمع، عندما غادرت لبنان، أما الخطوة الثانية فكانت معالجة خوفي من الحيوانات التي أصبحت اليوم جزءاً مهماً في حياتي، خاصة الكلاب. لم أتمكن بعد من التخلص من خوفي من عشبة البحر، لكنني على الطريق الصحيح نحو الشفاء.

خفت كثيراً في الماضي، سكت عن حقوقي، سمحت للكثيرين باستغلال صمتي، فالصمت في الشرق الأوسط دلالة على تهذيب وأخلاق الفتاة.

بعد أن تهدّمت أمام عينيّ أصنام آلهتهم المرئية والغيبية، تحوّلت من فتاة مطيعة تربّت على الخوف من كل شيء، إلى امرأة تحارب الأديان الذكورية والديكتاتوريات القمعية، التي لا زالت حتى اليوم أداة تخويف وإخضاع لشعوب كثيرة. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image