حين أرى صورة لمنطقة وادي غزة من جهة الجنوب، أشعر بحزن فادح يسري في جسدي، تنطلق صرخات من داخلي، وتتملكني حرارة نابعة من قهر لم أتذوقه طيلة عمري.
الصور الجديدة للوادي، تُظهر الحاجز العسكري الذي يحول دون عبوري طريقاً لطالما قطعته نحو منزلي الذي كان يقع قبل الحرب شمال مدينة غزة، ثم أصبح ركاماً في لحظة.
لم أعش عمراً هانئا في غزة، فمنذ بداية التقاط الدهشة في طفولتي، عاصرت الانتفاضة الأولى عام 1987.
كنت أخاف من نظرات جنود الجيش الإسرائيلي، حين يمرون بدوريات راجلة بين الشوارع، وحين يقتحمون البيوت الآمنة.
وبمجيء السلطة الفلسطينية إلى غزة عام 1994، عقب اتفاقية "أوسلو"، فُتح أفق جديد أمام الشباب. لكنها سنوات قليلة، حتى ساءت الأوضاع وقامت الانتفاضة الثانية عام 2001. منذها لم تتوقف غزة عن نزف الدماء.
لكن بطريقة أهل غزة البسيطة والعفوية، كانت غزة دوماً جميلة. تعطيك الفرصة لتكون سعيداً على الرغم من الظروف الاقتصادية السيئة التي لازمت أجيالاً متعاقبة من الشباب.
جمال غزة لم يكن مبنياً على أي شيء مخطط، وإنما على منطلق الاعتدال، والعفوية لدى الناس، وتلاشي الطبقية داخل المجتمع الغزي.
في غزة يدخل أي شخص أي مكان. أهلها بسيطون إلى الحد الذي يصعب عليك التمييز بينهم في المكانة الاجتماعية. يجلس الغني مع الفقير على نفس الطاولة، يأكلان طبقها الشعبي الأول من الفلافل والفول والحمص، أو يتجاوران على طاولتين يشربان الأرجيلة والقهوة، في "كافيه الباقة" على ميناء غزة.
في غزة تفتح حميمية اللقاء الأول بين شخصين البابَ لصداقةٍ ممتدة في ما بعد، والناس في غزة لا يتوقفون عن طرح السلامات على بعضهم بعضاً، على طول الطريق وفي المحال التجارية.
وعلى الرغم من ظروفها القاسية، وتكرار الحروب والموت، كان دوماً سقف الحياة في غزة الأعلى من بين جميع الأسقف.
المسافر والغائب عن غزة، يأكل الحنين قلبه لأماكنها. ومع أنها قليلة تلك الأماكن التي تجمل غزة، فهي عميقة الأثر في نفوس الغائبين عنها.
في واحدة من مدوناته في رصيف22، دعا الصديق والزميل عامر المصري إلى التوقف عن تصوير غزة، قائلاً إنها لم تكن يوماً جميلة، وملمحاً إلى سوء حقبة حكم حماس.
قرأت المدونة وغرت على غزة، لأنها لم تكن يوماً لحماس، ولا لغيرها. لطالما كانت غزة لأهلها وناسها، جميلة في الصورة، وجميلة قبل التصوير، بهية حتى في هيئة الخراب التي آلت إليه.
أراقب كيف تبدل جلد غزة، منذ ثلاثين عاماً، لأكثر من مرة. وفي كل مرة تدهشنا كالصغار، حين تعود جميلة بعد الهدم
كلّ شيء حادّ في غزة
"ليست غزة أجمل المدن"، هكذا قال عنها محمود درويش في زيارته الوحيدة لها عام 1995. كانت غزة في ذلك الوقت جسداً غير مكتمل النضج. تلك المدينة الخارجة من احتلال بشع حدّ من قدرتها على التطور والتجمل، لكنها استفزت درويش للكتابة عنها.
هنالك أمر يمكن ملاحظته في تعريف هذه المدينة من قبل شعرائها وكتابها وزائريها، فلا تقف عندهم عند نسبة جمالية معينة، ولا يذهلهم جمالها كباريس أو روما أو القاهرة، لكنها تترك لديهم ما يقال بعد المغادرة.
أنا أعرف هذه المدينة جيداً، أحفظها عن ظهر قلب، وتابعت جسدها في النمو، كما يتابع شاعر ابنته وهي تكبر، فيكتب عنها وعن جمالها. وفي كل مرة، يتغاضى عن وصف عيب خلقي في جسدها، عيب لا ذنب لها أو له فيه.
يا أهل غزة أكثروا من تصويرها. عذراً عامر، فلا يستطيع ساكن غزة، أو المار عليها، إلا أن يلتقط صورة. تلك فلسفة المدن في التعبير عن ذاتها.
أراقب كيف تبدل جلد غزة، منذ ثلاثين عاماً، لأكثر من مرة. وفي كل مرة تدهشنا كالصغار، حين تعود جميلة بعد الهدم. فالحروب سكنت غزة، وفي كل مرة كان الاحتلال الإسرائيلي يُشوّه عمرانها وشوارعها وبنيتها التحتية، مثل من يهدم بناء لعبة البازل ويطلب من الآخرين إعادة تركيبها.
منذ ثمانينيات القرن الماضي وأنا أخزّن صور غزة في ذهني، حتى صار خيالي شرائط من الجمال والكثافة والتعقيد. ولإتمام فيلم وثائقي من تلك الصور، سأحتاج إلى مخرج لا يتأثر برائحة الدم بين منازلها، ولا يتأثر بالتناقضات. فكل شيء حادّ في غزة؛ الجمال والقبح والانفتاح والتشدد، والطيبة والشراسة.
لا يشبهون غزة
كنت أعتقد دوماً بأن من يحكم غزة يلغي نصف جمالها. فحينما حكمت حركة فتح غزة منذ عام 1994 حتى 2007، جاءت بفكرة الانفتاح في مجتمع يعاند تلك القناعات. فلم تحافظ على المساحة الشفافة التي يمتلكها الغزي مع قناعاته.
فاعتُبر هذا فكراً متطرفاً في الانفتاح، لشعبٍ خرج للتوّ من الانتفاضة الأولى، ملتزماً بعادات وتقاليد تحترم دماء الشهداء، سيما وأن من كان وراء حكم فتح هم "عائدون" جاءوا من المجتمعات العربية، يحملون ثقافات مختلفة عن المجتمع الفلسطيني. فازدادت ردات الفعل المعاكسة، وتطرف الكثيرون.
لسنا في غزة مع ما جاءت به فتح من انفتاح دخيل على المجتمع، ولسنا مع ما جاءت به حماس من تشدد وانغلاق. وهذا لا يعني أنّني أساوي بينهما، لكن مجتمع غزة، بتلقائيته، لم يستوعب نظام الحكمين، لأنهما لا يشبهانه
ثم سيطرت حركة حماس على الحكم بعد أحداث أمنية مؤسفة عام 2007. وبنفس الأخطاء حكمت غزة، عبر قناعات وأحكام متطرفة، لا تشبه مجتمعَ غزة في شيء. فأرهبت الناس الآمنين وقمعت حرية الرأي وتدخلت لوقت طويل في نمط ملابس الرجال والنساء، واستدعت المثقفين المنتقدين لممارستها، لتحقيقاتِ جهازها الأمني، وفرضت الضرائب الباهظة.
فيما كانت فترة حكمها مكتظة بالحروب مع الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما جعل الناس غير متقبلين لوجودها في الحكم.
كما أدت فترة حكمها لانتشار حالات الانتحار والهجرة غير الشرعية للشباب، بسبب عدم توفر فرص العمل وانعدام الأفق.
لسنا في غزة مع ما جاءت به فتح من انفتاح دخيل على المجتمع، ولسنا مع ما جاءت به حماس من تشدد وانغلاق. وهذا لا يعني أنّني أساوي بينهما، لكن مجتمع غزة، بتلقائيته، لم يستوعب نظام الحكمين، لأنهما لا يشبهانه.
نحن في غزة عائلة كبيرة؛ جميع الناس هنا اقربائي وأصحابي، نسيب قريبي يعتبر نسيبي، وصديق صديقي هو صديقي. كلنا متصاهرون متشابكون. غزة مثل خرم إبرة؛ الجميع يعرف بعضه بعضاً.
غزة تتقبل الجميع وتستوعب كافة الأفكار، ويجب على من يحكمها أن يكون متفهماً لبساطة أهلها؛ عائلة كبيرة تحتضن الجميع ولا تتطرف بأي مفهوم.
خيوط العنكبوت تلتفّ حول قلبك
لا أعتبر غزة صورة ثابتة، تلك المتغيرة المتموجة، اللاعبة بأقدار أهلها، وكأن أرضها رمال متحركة، تبتلع قصص الكثيرين، تطويهم، لكن صورهم فيها تبقى، وتبقى الصورة تتحدث عن أهل غزة، ضحكاتهم وأصواتهم، وعلاقاتهم المتشابكة، بحيث لا يفنى هذا المكان ولا يهجره أصحابه.
مشيت كثيراً بين شوارعها الضيقة ليلاً؛ شارع الرمال، الشهداء، الوحدة؛ حيث المصابيح الصفراء. وكانت بعد منتصف الليل فارغة إلا من القليل من الناس. هذه عادة أهل غزة، لا يسهرون كثيراً؛ أو لربما هي عادة مكتسبة منذ الانتفاضة الأولى، حيث كان يمنع التجول بدءاً من الساعة الثامنة مساءً.
مرات لا تُحصى مشيت فيها وحدي أو مع عائلتي أو مع الأصدقاء، لم نشعر يوماً بالخوف من اعتداء أحد المارين؛ فلا تهديد ولا سرقات في طرقات غزة، بعكس بلاد أخرى كثيرة يخشى ناسها المشي ليلاً. غزة تكاد تكون هواية جمع طوابع تذكارية لأهلها.
لا أعتبر غزة صورة ثابتة، تلك المتغيرة المتموجة، اللاعبة بأقدار أهلها، وكأن أرضها رمال متحركة، تبتلع قصص الكثيرين، تطويهم، لكن صورهم فيها تبقى
لا تخاف العائلة الغزية على ابنتها أن تمشي في شوارع غزة بعد منتصف الليل، لأن الجميع على ثقة بأن لا إيذاء سيطالها من أي شخص. ولو لمحها أحد في ذلك الوقت، سيعرض عليها المساعدة حتماً.
يخطر لي شارع الرشيد في غزة، حيث البحر مساحة خاصة من الحب، لم يزر أحد هذا الشارع إلا ووقع في غرامه، حيث الإطلالة البحرية الفارقة، والجلسات المبهجة على امتداد الشاطئ.
ليس من السهل أن تجد مكاناً يمنحك في كل مرة نفس شعور الجذب للحياة بخيالها ودفئها ومساحة الحنين القادرة على خلقها. لكن شارع الرشيد في غزة يفعل ذلك.
جلسة صباحية في هذا الشارع كفيلة بأن تمسح أحزان العمر، وليلة واحدة فيه تكفي لإلغاء ذاكرة الأماكن الأخرى.
في جلسة تصارح مع صديقي أحمد، خلال زيارته لغزة عام 2022، وكان قد هاجر منها إلى النرويج عام 2007، اعترف لي بأنه لا يشعر بقيمة أي شيء في النرويج، على الرغم من توفر جميع أشكال الرفاهية.
وحين عاد إلى غزة، استعاد ذلك الطعم الحلو في حلقه، كما يقول. وحين زار بحر غزة، انهار باكياً أمام جماله، وأخبرني: "لم أزر البحرَ منذ 2007". على الرغم من أنه يصطاد السمك بشكل دائم.
لا يمكنك التخلّي من مزيج المشاعر التي تحيطك بها غزة إن عشت فيها أو زرتها. تلك الحفاوة في التعبير عن الحب، الأحضان التي يحضرها هواء بحر غزة لأهلها ولزائريها، تجعل منها بيتاً لا مدينة.
غزة خيوط العنكبوت الحميدة، التي تلتف حول قلبك، فتجبرك على تذكرها.
أصدقائي، أهلي، أحبابي… أكثروا من تصوير غزة، فالصورة في غزة، بألف مما سواها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 5 ساعاتtester.whitebeard@gmail.com
Ahmad Tanany -
منذ 9 ساعاتتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
Ahmad Tanany -
منذ 10 ساعاتتلخيص دسم
Ahmad Tanany -
منذ 10 ساعاتتلخيص دسم
Husband let me know -
منذ يومهلا
Husband let me know -
منذ يومهلا