شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
توقفوا عن نشر الصور القديمة... غزة لم تكن يوماً جميلة

توقفوا عن نشر الصور القديمة... غزة لم تكن يوماً جميلة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقيقة

الخميس 20 يونيو 202403:07 م

"غزة لم تكن يوماً جميلة". جملة تخطر لي كلما رأيت صورة أو فيديو لغزة قبل الإبادة. وأرغب لو أضعها يافطة فوق كل ما أراه.

إن هذه الصور والفيديوهات هي خداع كامل، فغزة لم تكن يوماً جميلة. كانت دائماً عجوزاً تحاول أن تقف على قدميها، لكنها لا تستطيع، فلا أرض تحتها.

صحيح أن الوضع في غزة قبل الإبادة لا يُقارن بما بعدها من حيث البشاعة التي اقترفت بحق المكان، لكن الزمانين متطابقان من حيث المبدأ. فقد كانت غزّة تباد على مدار 17 عاماً، ذهنياً وثقافياً ونفسياً ومادياً.

أما ما يحدث اليوم فهو تسريع لهذه الإبادة وتعاظم لدمويّتها. لذلك، توقفوا عن نشر الصور القديمة، فغزة لم تكن يوماً جميلة.

غزة العادية

إن كل من يتغزل اليوم بجمالية غزة وأناقتها، لم يعرف يوماً أن المشهد الظاهر لا يتطابق أبداً مع الواقع.

فغزة، على أرض الواقع. كانت مدينة حزينة، لا يعرف سكانها صديقاً عزيزاً سوى البحر. فلا تراهم إلا ذاهبين إليه أو عائدين منه.

لكن الصور خدّاعة يا صديقي. ولأنني ابن المدينة، لم تغرني هذه الصور يوماً. فالشوارع التي تَظهر مضاءة في هذه اللقطات السريعة، كانت مطفأة أغلب الوقت، لأن جدول الكهرباء لم يكن يسمح بإنارتها سوى 8 ساعات.

والابتسامات التي يمنحها الأطفال للكاميرا، لا تُعبّر بالضرورة عن سعادتهم. فقد كانوا يقضون حياتهم دائماً بين تصعيدٍ وحرب وقذيفة طائشة.

أما صور الناس وهي "تُبرطع" على البحر، فليست أيضاً دليلاً على التصييف السعيد، بل هي دليل على انقطاع سُبل الفسحة وانحسارها في بحر غير صالح للاستخدام بسبب تلوثه بالمياه العادمة.

بينما صور المولات والأماكن الفاخرة، بدءًا "بكابيتال مول" وصولاً إلى مترو، فلا تُعبر عن حياة مُرفّهة إطلاقاً. إذ لم يكن باستطاعة الغالبية العظمى من الناس أن يشتروا أي منتج من هذه الأماكن، فاكتفوا بدخولها والتقاط صور فيها.

إلى جانب ذلك، فإن صور البنايات والمساجد الفاخرة الأخرى لم تكن خادعة من حيث المظهر، ففي عمرانها بالفعل ما يستحق التأمل.

لكن كان على الكاميرا التي وثّقت هذا الجمال أن تسير أمتاراً قليلة، كي يكتمل المشهد ببيوت المخيم المهترئة.

إن صور البنايات والمساجد الفاخرة الأخرى لم تكن خادعة من حيث المظهر، ففي عمرانها بالفعل ما يستحق التأمل. لكن كان على الكاميرا التي وثّقت هذا الجمال أن تسير أمتاراً قليلة، كي يكتمل المشهد ببيوت المخيم المهترئة

ليتكِ يا حبيبتي جميلة

قبل الإبادة، لم يستطع أي مشهد من غزة أن يخدعني. وكنتُ أرى انبهار الناس بجمالية المدينة في الصور شيئاً سخيفاً. وإلا فكيف يكون الفقير سعيداً بفقره؟ وكيف يستطيع الحزين ألا يرى أنه حزين فعلاً؟

لذلك، لم أقم يوماً بنشر هذه الصور أو التعاطي معها بأيّ نوع من الحنين والحُب. وفي كل مرة كنت أرى جزءاً منها، كانت جملة واحدة تدقّ رأسي: ليتكِ يا غزة يا حبيبتي جميلة في الواقع مثلما أنتِ جميلة في الصور.

ولأنّ الزمن في غزة شيء آخر، لأن الزمن في غزة ليس عنصراً محايداً، كنت دائماً أرتطم بالحقيقة ولا يغريني الجمال غير المكتمل.

وفي كل مرة كان يحاول فيها أحد الأصدقاء/ الغرباء التغني بجمالية المدينة، كنتُ أقف في وجهه غاضباً، كأنني أدافع عن مبدأ لا أرضى التنازل عنه البتّة.

لكن منذ السابع من أكتوبر، وبعد أكثر من 250 يوماً من الإبادة، اختلف كل شيء. أصبحَ الحنين هو مسيطراً على جميع الأحاديث التي تكون البلاد طرفاً فيها.

واتفقنا جميعاً، أنا والأصدقاء والغرباء وأبناء المدينة والأمهات والكادحين، أن غزة كانت جميلة وبتجنن وست العرايس، على الرغم من أنني لم أرها كذلك يوماً، لكنني لم أجرؤ أبداً على قول ذلك.

فجرت الإبادة فوق ماضي الغزيين بالوناً أبيض

فجأةً ودون مقدمات، انفجرت في وجه الناس ذكريات جميلة لا تشوبها شائبة حُزن أو ألم. كأنهم نسوا فجأة كلّ ما كان يحدث في غزة، نسوا الفقر والجوع والبطالة وانقطاع الكهرباء وصعوبة السفر.

وتوّلدت لديهم رغبة بالانغماس في الذكريات التي أصبحت بيضاء تماماً رغم وحشتها، خصوصاً عند مقارنتها بواقع الإبادة.

فالشوارع القديمة المُتّسخة أجمل بالطبع من الممرات الرملية التي خلقتها الجرافات الإسرائيلية

وجنازير الدبابات. والمباني المهترئة ذات النوافذ السليمة والحوائط الواقفة بالتأكيد لا تستطيع أن تتفوق على تلك المُدمرة والمُنهكة من صواريخ الطائرات.

وإذا أجرينا مقارنةً بين 1000 شيكل يحصل عليها موظف بوظيفة محترمة، وصحن طبيخ من التِّكية،

فلن يكون منطقياً أن ينتصر الصحن المُشبّع بالذّل على أيّ مبلغ مالي في العالم مهما كان متواضعاً. وعند الحديث عن السّفر، فدَفع 200-400 دولار كتَنسيق من أجل السفر من معبر رفح قبل الإبادة، أهون من دفع 5 آلاف دولار مع احتمالات الرّفض الكثيرة.

لم يعد يمتلك أيّ غزّي ذكريات سيئة. كأن الإبادة فَجّرت فوق ماضي الغزيين بالوناً أبيض حَوَّل كلّ القبح إلى جمال، والحزن إلى فرح، والفقد إلى تَمسّك

لأجل كلّ ذلك، لم يعد يمتلك أيّ غزّي ذكريات سيئة. كأن الإبادة فَجّرت فوق ماضي الغزيين بالوناً أبيض حَوَّل كلّ القبح إلى جمال، والحزن إلى فرح، والفقد إلى تَمسّك.

باتَ يشتاق المرء منهم إلى روتينه الممل الذي لطالما تذمر منه وأصابه مراراً بالاكتئاب بسببه. وتحولت في نظره كلّ صعوبات حياة ما قبل الإبادة إلى مسخرة، نعم مسخرة.

فعندما يقارن الموت الجماعي بأي شيء آخر، ستبدو كلّ الأشياء مسخرة.

أرجوكم توقفوا عن النَشر

لا يحتاج العالم أن يرى غزّة القديمة. فقد كان يغضّ الطرف عنها دائماً. وليس ضرورياً الفصل بين ما قبل الإبادة وما بعدها عند الحديث عن البلاد.

لقد كذب الغزيون على العالم حين قالوا إن هذه البلاد جميلة وآمنة. فمنذ عقدين تُباد هذه المساحة التي لا تتجاوز 365 كم2، تُباد بالطائرات والفقر والبؤس وقلة العمل وصعوبة السفر وانقطاع الكهرباء وضيق الشوارع واختفاء الأمل. تُباد باليأس، نعم، كانت غزة تُباد باليأس. واليوم تُباد بالدّم. ومَن لم يعش في الحصار لا يعرف معنى أن يُباد الإنسان دون أن يُقتل.

لذلك، لا تأخذكم بالذكريات شفقة أو رحمة، ولا تنشروا الصور القديمة. بل انشروا الصور الحديثة البائسة، ولا تتحدثوا عما مضى، بل تحدثوا عما يحدث اليوم وسيحدث غداً.

وإذا كان لا بد من الحديث عن الماضي، فلا تغرينّكم المدينة ولا تضحك عليكم الذكريات. فقد كانت غزة تباد قبل بدء الإبادة، وصارت غزة تُباد بعد بدء الإبادة.

ومن يدري، فقد لا تتوقف هذه الإبادة ما دام الغزّي قادراً على العيش ليومٍ إضافي جديد.

لأجل ذلك كله، أرجوكم، أتوسّل إليكم، توقفوا عن نشر الصور القديمة، فمدينتكم التي أعرف أنكم تحبونها جداً لم تكن يوماً جميلة.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard