شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
بين الخواجة والمصري والملك فاروق... صراع في مَصْلحَة الآثار المصرية

بين الخواجة والمصري والملك فاروق... صراع في مَصْلحَة الآثار المصرية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ نحن والحقيقة

الجمعة 11 أكتوبر 202407:34 ص

في أيار/ مايو عام 1939، أُحيل سليم بك حسن، عميد الأثريين المصريين، إلى لجنة تحقيق قضائية شكّلتها وزارة المعارف بقرار من وزيرها محمد حسين هيكل، من أجل التحقيق معه في اتهامات وُجّهت إليه بسرقة أجور العمال في أثناء التنقيب عن آثار ضمن مشروع "حفائر الأهرام" الشهير في "تل ياسين" في منطقة سقارة. دخل رائد علم المصريات، سليم حسن، إلى غرفة التحقيق، لكنّه امتنع عن الردّ على أسئلة المُحقق. في الجلسة الثانية أُحيل عالم الآثار الشهير إلى النيابة العامة بتهمة اختلاس "4 آلاف و25 جنيهاً ومليم واحد من الأموال الأميرية".

كان سليم حسن، يشغل آنذاك منصب وكيل مصلحة الآثار، كأول مصري يجلس على هذا المقعد وسط خلية نافذة مكونة من موظفين أجانب، تحكّموا لعقود في التنقيب عن الآثار المصرية، وفي إدارتها في المتحف المصري، وفي تخزينها في مخازن المصلحة؛ مسؤولية حصيلتها أن شهدت مصر لسنوات تهريباً "مُعلَناً" لقطع أثرية تُزيّن الآن متاحف عالميةً ولا تستطيع مصر استردادها.

أجانب في موقع الحفائر

بعد إحالة سليم حسن، إلى النيابة العامة، لم يجد النائب العام "أحمد بك ياسين"، دليلاً على الإدانة، فقام بحفظ القضية على غير هوى القصر والأجانب في المصلحة والسفير البريطاني ذاته، وهو قرارٌ عوقب عليه النائب العام بإحالته إلى المعاش، وعوقب أيضاً أحمد محمد خشبة باشا، وزير العدل آنذاك، بعدم تجديد الثقة له.

عدم اختيار خشبة، مجدداً في وزارة العدل، فتح الطريق أمام خَلَفه إلى إحالة سليم حسن مرةً أخرى إلى النيابة، لكن هذه المرة أمام النائب العام الجديد لدى المحاكم الأهلية عبد الرحمن الطوير. في هذا التحقيق، نُنقّب في وثائق رسمية تُنشر للمرة الأولى، عن تاريخ مجهول وضع نقطةً سوداء في سجل العالم الشهير، لم تُمحَ حتى بوفاته عام 1962.

الخروج من قرية ميت ناجي دقهلية

اشتهر سليم حسن، بلقب عميد الأثريين المصريين، باعتباره رائد علم المصريات في مصر، وأول مصري يتولى رسمياً منصباً في المتحف المصري ومصلحة الآثار، وأول مصري يقود مهام التنقيب عن الآثار، بعدما كان الأمر حكراً على الأجانب. ذاع صيت سليم حسن، بفضل أبحاثه في علم المصريات، فيما أعدّ مناهج مادة التاريخ في وزارة المعارف في بداية القرن العشرين. كما أسهمت الحفائر التي قام بها سليم حسن، بين العامين 1929 و1939، في الكشف عن 171 مقبرةً ومصطبةً أثريةً، ومئات القطع الأثرية والتماثيل ومراكب الشمس الحجرية للملكَين خوفو وخفرع، بجانب نشر 50 بحثاً ساهمت في فتح الباب أمام المصريين للدخول إلى علم المصريات الذي كان حكراً على الأجانب، ونشر 53 مؤلفاً آخر بالعربية والفرنسية والإنكليزية. لكنّ عمله الأشهر كان كتابة سلسلة "موسوعة مصر القديمة"، في 16 جزءاً، تناول فيها تاريخ مصر منذ عصر ما قبل التاريخ حتى أواخر العصر البطلمي سنة 31 قبل الميلاد.

كان سليم حسن، يشغل آنذاك منصب وكيل مصلحة الآثار، كأول مصري يجلس على هذا المقعد وسط خلية نافذة مكونة من موظفين أجانب، تحكّموا لعقود في التنقيب عن الآثار المصرية، وفي إدارتها في المتحف المصري، وفي تخزينها في مخازن المصلحة؛ مسؤولية حصيلتها أن شهدت مصر لسنوات تهريباً "مُعلَناً" لقطع أثرية تُزيّن الآن متاحف عالميةً ولا تستطيع مصر استردادها

هذه الإنجازات العلمية حملت سليم حسن إلى مقعد وكيل مصلحة الآثار "المصرية"، في حزيران/ يونيو 1936، كأول مصري يشغل هذا المنصب. لكنّ وصوله إلى هذا المنصب كان محفوفاً بالمخاطر والمغامرات مع لوبي أجنبي سيطر على آثار مصر لعقود. سليم حسن الذي وُلد يتيماً لأسرة فقيرة في 15 آب/ أغسطس 1893، في قرية ميت ناجي في محافظة الدقهلية، شقّ طريقاً صعباً إلى القاهرة لم يبلغه كثيرٌ من أبناء جيله المحرومين من التعليم.

"انطلقتُ إلى الحياة فوجدت والدين فقيرين؛ والدي كان فلاحاً يعمل بيديه وأسنانه ويكسب لقمة العيش بالعرق والدم"؛ كتب سليم حسن عن نفسه في صحيفة "الأخبار" عام 1957، ونقل الكاتب الراحل محمد عبد الواحد، ما كتبه حست، في كتابه "مأساة صنعت موسوعةً". بعد "كُتّاب" القرية، نجح سليم في عام 1903، في الانتقال إلى مدرسة ميت غمر، ثم إلى التوجيهية في مدرسة "القربية" في عابدين. نجح في الصف الأول، بينما كان الصف الثاني محجوزاً لأصحاب القدرة المالية على استكمال التعليم. يقول سليم حسن: "خُصص هذا الفصل لأولاد الذوات وليس لنا نحن الفقراء". حمل أوراقه إلى مدرسة "رأس التين" في الإسكندرية، وحصل منها على البكالوريا عام 1909، التي منحته فرصة الالتحاق بمدرسة المعلمين، وهناك اختار قسم اللغة المصرية القديمة. يصف سليم حسن تلك الحقبة الزمنية: "كنتُ أعيش أياماً كثيرةً وبطني تُصفّق من الجوع". بعد ثلاث سنوات تخرّج بتفوق من مدرسة المعلّمين، وعُيّن مُدرّساً للتاريخ وللّغة الإنكليزية في مدرسة "الناصرية" الشهيرة في القاهرة.

كتاب مأساة صنعت موسوعةً

لم يمضِ عامان حتى اختارته وزارة المعارف عام 1915، لكتابة مادة تاريخ مصر في منهجٍ يُدَرّس لطلاب المدارس الثانوية آنذاك. ذاع صيت سليم حسن حتى تم اختياره عام 1921، أميناً مساعداً في المتحف المصري، وصار المصري الأول الذي يجلس على هذا المقعد.

بدأ سليم طريقه بين الأشواك، حيث دخل "عِش الخواجات" المُتحكمين في آثار مصر آنذاك. وفي العام التالي استغلّ احتفاليةً أُقيمت في باريس بمناسبة مرور 100 عام على فك رموز حجر رشيد، وسافر على نفقته الخاصة ليُراسل جريدة "الأهرام" من هناك بعدد من المقالات تتضمن صوراً لآثار مصر المسروقة والموجودة في متاحف أوروبا؛ وكان أول من كشف عن وجود رأس الملكة نفرتيتي في المتحف الألماني. تقول الكاتبة الصحافية في "الأهرام"، سناء البيسي، إن سليم حسن منذ يومه الأول كان يسعى إلى أن يضع المصريون أيديهم على مقدراتهم من آثار مصر، وتضيف في مقالٍ نشرته في "الأهرام" أيضاً، في أيار/ مايو 2008: "قال الملك فؤاد عن سليم حسن: (هو) شاب يعمل ويجتهد، غير أنه لا يرغب أن يرى إفرنجياً واحداً في البلد، بل يُريد أن يكون هو المُسيطر على المتاحف والآثار المصرية".

أجانب في موقع الحفائر

سليم حسن أفندي... إلى الدرجة الثالثة

استمر سليم حسن، في مناطحة الخواجات في الحفريات، بعدما كان الكشف عن كنوز مصر من باطن الأرض حكراً على الإنكليز والفرنسيين والألمان آنذاك. في كانون الثاني/ يناير 1936، بدأ التنقيب بجوار "أبو الهول"، ليكتشف حجراً كبيراً باسم "رع ور" أسفله أكبر مقبرة ظهرت في الدولة القديمة كلها. في وثيقة اطّلعنا عليها في ملف وثائق مجلس الوزراء المصري وتحمل الرقم الوارد 321/13، أثنى مجلس الوزراء على إنجازات سليم، وأشارت الوثيقة المؤرخة بتاريخ 26 نيسان/ أبريل 1936: "كان حضرة سليم حسن أفندي يشغل وظيفة أمين مساعد في المتحف المصرية في الدرجة الخامسة بمهية 37 جنيهاً شهرياً، ثم اختير للتعيين أستاذاً مساعداً للآثار المصرية في كلية الآداب ابتداءً من 10 كانون الثاني/ يناير 1928، وهي وظيفة مرتبة في الدرجة الثالثة، واقترحت وزارة المعارف العمومية ترقيته إلى الدرجة الثالثة مع منحه 60 جنيهاً شهرياً، وقد أقرّ مجلس الوزراء هذا الرأي في جلسته المنعقدة في 23 أيار/ مايو 1928. وزيادةً على ذلك فقد اشتغل حضرته خلال العامين الماضي والحاضر بالبحث عن الآثار ووُفّق توفيقاً باهراً في الحفائر التي أجراها في الجيزة وهو ينشر كتباً قيّمةً تنال رضى علماء الآثار. رأت اللجنة المالية ترقية الأستاذ سليم حسن أفندي إلى الدرجة الثالثة بصفة استثنائية".

هذه الاكتشافات المتتالية حملت سليم حسن، إلى منصب وكيل مصلحة الآثار المصرية، كأول مصري يشغل هذا المنصب وسط خلية من الأجانب المسيطرين على المتحف والمصلحة. في وثيقة أخرى اطّلعنا عليها في أرشيف وثائق وزارة المالية تحمل الكود 20/ معارف، رفعت وزارة المالية إلى مجلس الوزراء موافقتها على مذكرة وزارة المعارف التي تطلب فيها إنشاء وظيفة وكيل مصلحة الآثار، وأن يتولى تلك الوظيفة مصريّ، واقترحت تعيين سليم حسن بك وكيلاً للمصلحة في السابع من حزيران/ يونيو عام 1936.

أجانب في موقع الحفائر

نزل خبر إنشاء هذا المقعد الجديد في مصلحة الآثار كالصاعقة على مديرها الفرنسي الخواجة آتيين دريوتون (1889-1961) Étienne Drioton، الرجل الأول في مصلحة الآثار المصرية، الذي يُعاونه موظفون أجانب في المصلحة والمتحف المصري، يأتمرون بأمره ويُعيقون عمل مَن يسعى إلى الرقابة على الحفائر والتنقيب وتخزين الآثار. بتعيين سليم حسن، أصبح الرجل الثاني في مصلحة الآثار المصرية للمرة الأولى مصريّاً. بعدها بدأ سليم يتلقى طعنات متتاليةً من "الخواجات".

"فلاح مصري" في مصلحة الآثار

قبل وفاة الملك فؤاد مباشرةً، في نيسان/ أبريل 1936، أهدى المتحف المصري مجموعة آثار ثمينة كانت في حوزة القصر؛ قام باستلامها سليم حسن باعتباره آنذاك أميناً مساعداً في المتحف. وبعد عامين من وفاة فؤاد، طلب وزير المعارف محمد حسين هيكل، من سليم حسن، جرد مخازن المتحف المصري للمرة الأولى منذ إنشائه عام 1835. تمّت عملية الجرد بين شباط/ فبراير، وتموز/ يوليو 1938؛ وبعد الجرد كتب سليم إلى الوزارة تقريراً يكشف أن قرابة 23 ألف قطعة أثرية قد اختفت من المتحف منذ تأسيسه حتى تاريخ هذا الجرد، كما أن "بدروم" المتحف يحوي آلاف القطع الأثرية المُودعة من دون تسجيل أو جرد، ما يؤهلها إلى "الاختفاء" أيضاً. كشف سليم حسن، ما كان الخواجة دريوتون، يسعى إلى إخفائه، بعد رفضه جرد المتحف مرات عدة بحجة أن "الآثار المكدّسة في البدروم ليست ذات قيمة علمية تستوجب عناء جردها، لأنها قطع مكررة لتماثيل صغيرة لها نظائرها في المتحف المصري وغيره"، وفقاً لما كتبه محمد حسين هيكل، وزير المعارف، في كتابه "مذكرات في السياسة المصرية".

"مذكرات في السياسة المصرية" لمحمد حسين هيكل

منذ إعلان سليم حسن، اختفاء 23 ألف قطعة أثرية من مخازن المصلحة، بدأ الصراع بينه وبين خلية الموظفين الأجانب في الآثار يخرج إلى العلن؛ ثم دخل الإنكليز أيضاً على خط المواجهة مع سليم بعدما رفض مبدأ تقسيم الآثار المُكتَشفة بين المُكتشفين ومصر، وهو المبدأ المُستَنِد إلى "ديكرتو – الأمر العالي" للخديوي توفيق، الصادر في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 1891، وإلى المادة 11 من القانون رقم 14 لعام 1912. لكنّ رفض سليم مبدأ التقسيم وقف ضد رغبة الإنكليز باقتسام آثار توت عنخ أمون، بعد اكتشافها، حيث طلب تقدير المبلغ الذي أنفقه الإنكليز في الحفر وقامت الحكومة المصرية بدفعه، ثم صار لسليم حسن الفضل في بقاء آثار توت عنخ أمون كاملةً في مصر دون قسمة.

منذ إعلان سليم حسن، اختفاء 23 ألف قطعة أثرية من مخازن المصلحة، بدأ الصراع بينه وبين خلية الموظفين الأجانب في الآثار يخرج إلى العلن؛ ثم دخل الإنكليز أيضاً على خط المواجهة مع سليم بعدما رفض مبدأ تقسيم الآثار المُكتَشفة بين المُكتشفين ومصر

بعد تحركات سليم حسن المتعددة ضد الأجانب، قام الخواجة دريوتون، بإبلاغ القصر بأن مجموعةً أثريةً ثمينةً أهداها الملك فؤاد إلى المتحف المصري واستلمها سليم حسن، وحان وقت عودتها إلى القصر. طلبت السرايا من سليم استرجاع الآثار لكنه رفض، ثم قام بتسجيل المجموعة الأثرية في سجلات المتحف، وهو ما يعني عدم القدرة على استردادها من قبل "فاروق"، إلا بموافقة البرلمان المصري. يقول سليم حسن: "منذ ذلك الحين بدأ الملك فاروق حربه ضدّي"؛ ثم جمع سليم مندوبي الصحف وأعلن أمامهم: "مولانا المبجّل يفتخر بهذه الآثار وبأنها أصبحت ملكاً للدولة، فأُحرج فاروق الذي قال لرجال السراي: هو برضه الفلاح ابن الكلب اللي عملها فيّه"؛ وفقاً للكاتبة سناء البيسي، في مقالٍ نشرته في الأهرام أيار/ مايو 2008.

لعنة خطة هيكل

جاءت الفرصة للفرنسي دريوتون، كما خطط؛ لذلك طرق على الحديد وهو ساخن. كانت مصر قد وقّعت آنذاك ما يُعرف باتفاقية إلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر عام 1937، وهو إلغاء يعني تمصيراً تدريجياً للوظائف العامة التي يشغلها الأجانب في مصر.

عملية تحميل الآثار بعد الحفائر

عملية تحميل الآثار بعد الحفائر.

في هذه الأثناء، كان محمد حسين هيكل، وزير المعارف، يُخطط لتمصير مصلحة الآثار بالكامل، وإحلال مصري محل الفرنسي دريوتون، ليشغل مقعد مدير المصلحة، والذي من المقترح أن يكون سليم حسن نفسه. علم الخواجة دريوتون، بخطة هيكل، فسبقه وقدّم له مذكرةً تتهم سليم حسن، بسرقة أجور العمال واختلاس بضعة جنيهات من خزينة المصلحة. تعجب هيكل، كما يقول في كتابه "مذكرات في السياسة المصرية"، من قيام الخواجة دريوتون، بتقديم تلك المذكرة إلى وزارة المعارف في الوقت الذي كان يُخطط فيه لتمصير كامل لمصلحة الآثار المصرية عام 1939. يقول هيكل: "شعرتُ بأن في الأمر سرّاً لا بد أن تكشفه الأيام عمّا قريب". ويضيف: "حرصت فرنسا على أن تكون الآثار المصرية تحت لوائها (...) وهذا ما دفع فرنسا في أثناء انفراد إنكلترا بالسلطان في مصر لأن تستمسك بأن يكون مدير الآثار المصرية فرنسيّاً. (...) وكنتُ أفكر في إسناد الوظائف المتصلة بسيادة الدولة إلى المصريين. واتجهت مثل هذا الاتجاه أريد أن أعيّن مديراً مصرياً لدار الآثار المصرية والمتحف المصري وأن يكون مديرها الفرنسي، الأب دريوتون، مستشارها الفني (...). وإنني لفي صدد هذا التفكير وتنفيذه إذ حمل إليّ الأب دريوتون بلاغاً موقّعاً عليه من عدد من خفراء الآثار في منطقة الأهرام، يتهمون فيه الأستاذ سليم حسن وكيل المتحف المصري بأنه استغل نفوذه حين قيامه بالحفريات الأثرية في منطقة أهرام الجيزة، واستحوذ من الأموال المخصصة لهذه الحفريات على مبالغ طائلة لنفسه (...). لم أكن لأحفظ بلاغاً عن جناية قدّمها مدير دار الآثار موقّعاً من عدد غير قليل من العمال لهذا أحلته إلى التحقيق الإداري".

تحميل التوابيت بعد اكتشافها

تحميل التوابيت بعد اكتشافها.

بعد تشكيل لجنة التحقيق، وبينما كان محمد حسين هيكل، مسافراً في 11 أيار/ مايو 1939، في قطار الملك مع حاشيته إلى الإسكندرية، جلس بجواره رئيس الديوان الملكي آنذاك علي باشا ماهر، لسؤاله عن نتائج التحقيقات التي طلب الخواجة دريوتون، إجراءها مع سليم حسن، ثم طلب ماهر من وزير المعارف عدم تبديل المُحقق الذي يقوم بالتحقيق مع سليم. بعد ثلاثة أسابيع من هذا اللقاء، يقول هيكل في مذكراته: "جاء سليم بك حسن إلى مكتبي شاكياً من أن الذين يحققون معه متحيّزون ضده وأنهم يحاولون إثبات التهمة الموجهة إليه بكل وسيلة ولو لم تكن نزيهةً. أثارت شكواه في نفسي حديث رئيس الديوان معي".

بعد أيام قليلة، أحالت لجنة التحقيق قضية سليم حسن، إلى النائب العام أحمد بك ياسين، الذي بدوره لم يجد في القضية ما يقتضي إدانة سليم حسن، ثم صدّق وزير العدل أحمد باشا خشبة، على رأي النائب العام. يقول هيكل في مذكراته إن رئيس الديوان الملكي "علي باشا ماهر" كان كثير السؤال عن هذا التحقيق والتصرف فيه، وأن رئيس الديوان الملكي ضاق ذرعاً ببطء النائب العام في إدانة سليم حسن، حتى قال إنه ليس "النائب العام" بل "النائم العام".

يقول هيكل في مذكراته: "جاء سليم بك حسن إلى مكتبي شاكياً من أن الذين يحققون معه متحيّزون ضده وأنهم يحاولون إثبات التهمة الموجهة إليه بكل وسيلة ولو لم تكن نزيهةً. أثارت شكواه في نفسي حديث رئيس الديوان معي".

مرّ صيف 1939، ساخناً على سليم حسن، باعتباره موقوفاً عن العمل، وعلى النائب العام بإحالته إلى المعاش بسبب عدم إدانة سليم حسن، وعلى الوزارة كلها بالاستقالة. ثم عُيّن علي ماهر باشا، رئيس الديوان الملكي، رئيساً للوزراء، فرفض تجديد الثقة بوزير العدل أحمد باشا خشبة، بعد عدم إحالة سليم حسن، إلى المحاكمة. ثم انعقدت الجلسة الأولى لحكومة علي باشا ماهر، بتاريخ 26 آب/ أغسطس 1939، وكان أول قراراتها "إحالة سليم بك حسن وكيل مصلحة الآثار المصرية إلى المعاش". بعدها أُحيل سليم حسن إلى النيابة العامة مجدداً، هذه المرة أمام عبد الرحمن الطوير، النائب العام الجديد لدى المحاكم الأهلية، لتبدأ وقائع محاكمة سليم حسن، بتهمة "سرقة أجور العمال".

من أوراق النائب العام لدى المحاكم الأهلية

في 24 أيلول/ سبتمبر 1939، حررت النيابة العامة المصرية تحقيقها مع سليم حسن، باللغة الفرنسية في 26 صفحةً، وفقاً لوثيقة رسمية اطّلعنا عليها صادرة عن النيابة العامة المصرية ومُوقّع عليها بحروف لاتينية من النائب العام لدى المحاكم الأهلية عبد الرحمن الطوير. يحمل ملف التحقيق مع سليم حسن في النيابة العامة الرقم 26177 لعام 1939، بينما يحمل المحضر ذاته الرقم 3951 وهو معنون بـ"تقرير عن أعمال سليم حسن بك مقدَّم من المدعي العام إلى المحاكم الوطنية".


كان سليم حسن هو المتهم الأول في تلك القضية، مع 7 متهمين آخرين من الموظفين والعمال في مصلحة الآثار. لكنّ الاتهامات التي وُجهت إلى سليم، كانت أثقل بكثير من أي متهم آخر، حيث اتُهم عميد الأثريين، بأنه يتزعم تشكيلاً عصابياً يختلس أموال المصلحة ويسرق أجور العمال بالاشتراك مع المتهم الثاني عبد السلام أفندي محمد عبد السلام، مفتش آثار الوجه البحري. وفقاً لمذكرة الاتهام، فإن المتهم الأول، سليم حسن، بدأ عملية الاختلاس تلك منذ زمن بعيد، وقام بالتزوير في القوائم الخاصة بأجور العمال بطريقة "جريئة مفضوحة". وصفت النيابة سليم حسن، في أثناء التحقيق معه، بأنه "كان يُبدي دهشته حيناً، ويتردد في الإجابة حيناً آخر"، حينما وُجّه إليه اتهام مباشر باختلاس ألفين وثمانمئة جنيه من أجور 49 عاملاً.

تُضيف وثيقة أخرى تحمل الرقم "180 صادر مجلس الوزراء المصري" بتاريخ 29 آب/ أغسطس 1940، أن لجنةً فنيةً كانت قد شُكلت من جانب النيابة العامة في أثناء التحقيق مع سليم حسن، أثبتت أن تكلفة "حفائر الأهرام التي تمت بين 1936/1937 و1937/1938 ومقارنتها بما صرفه المتهم الأول -سليم حسن- أسفرت عن وجود فرق قدره 6 آلاف جنيه، صرفه سليم حسن زيادةً عن الحد العادي، ثم أثبتت النيابة أن إجمالي ما تم اختلاسه في مدة العمل بأكمله ما بين 16 نيسان/ أبريل 1934 و17 تموز/ يوليو سنة 1938، بلغ 4025،001 (4 آلاف و25 جنيهاً ومليماً واحداً). يقول الكاتب محمد عبد الواحد في كتابه "مأساة صنعت موسوعةً"، إن مذكرة اتهام سليم حسن حيكت شِباكها بدقة حتى يقع فيها عالم الآثار، ليفسح الطريق أمام الأجانب للتحكم في آثار مصر، بعيداً عن أعين أي مصري يخشى من تهريب آثار بلاده.

في مذكرة النيابة العامة، يصف النائب العام آنذاك عبد الرحمن الطوير، وقائع ما جرى وفقاً لما جاءه من تحريات: "ارتكب المتهمون من الثاني إلى الثامن تزويراً في استمارات صرف أجور العمال، وقاموا بصرف أجور لعمال وهميين لم يحضروا الحفائر من الأصل، كما تم وضع أسماء وأختام وبصمات مزيفة لا تتماشى مع الأسماء التي تمت إضافتها في استمارات الأجور، وقد اشترك المتهم الأول (سليم حسن) مع المتهمين في ارتكاب جرائم التزوير المادي والمعنوي".

يُلاحَظ من الوثيقة الصادرة عن النائب العام لدى المحاكم الأهلية، أن عبد الرحمن الطوير كان دائم الربط بين سليم حسن وباقي المتهمين، باعتباره شريكاً رئيسيّاً في تزوير إمضاء وبصمات عمّال لم يحضروا الحفائر في الأساس، وذلك بغرض سرقة الأجور؛ على الرغم من أن الأدلة التي أضافها الطوير في مذكرة الاتهام المُستَنِدة إلى نتائج الفحص الفني للإمضاءات والأختام لا تُشير في الأصل إلى اسم سليم حسن، بل أشارت فقط إلى باقي المتهمين، بينما تتم الإشارة إلى سليم على أنه وكيل مصلحة الآثار المسؤولة عن عمليات "حفائر الأهرام". وفقاً لمذكرة النيابة العامة فإن الفحص الفني للبصمات والإمضاءات أثبت أن بصمات المتهمين من الثاني إلى الثامن متكررة في استمارات صرف الأجور أمام عمال مجهولين وأشخاص متعددين؛ كما أن الاختلاس كان يقع بتزوير أختام وإمضاءات وبصمات العمال، وفي أحيانٍ أخرى يقع بزيادة وهمية للأجور عن الذي تم صرفه فعلياً؛ لكن في الوقت نفسه لم تظهر أي بصمات لسليم حسن على تلك الاستمارات.

بالبحث أكثر عن زوايا أخرى للقصة، نلاحظ أن الكاتب الراحل محمد عبد الواحد، في كتابه "مأساة صنعت موسوعةً"، يصف نتائج الفحص الفني للإمضاءات والأختام الواردة في استمارات أجور العمال بأنها "دليل مُضحك" على إدانة سليم حسن. إذ بدأت القصة "المُضحكة"، وفقاً لوصف عبد الوحد، حينما قررت مصلحة الآثار نقل محمد إبراهيم فايد "الباش ريس" في منطقة حفائر الأهرام التي يُشرف عليها سليم حسن، من القاهرة إلى دمنهور. ذهب "الباش ريس" مع أخيه "شيخ الخفراء" في منطقة الحفائر نفسها، إلى مفتش آثار الوجه البحري الذي صار المتهم الثاني في القضية، وذلك لالتماس عدم نقل "الباش ريس" إلى دمنهور بسبب مرضه، إلا أن مفتش آثار الوجه البحري رفض. دفع هذا الرفض "الباش ريس" وشقيقه شيخ الخفراء للذهاب إلى الخواجة دريوتون مدير المصلحة، لتقديم الالتماس نفسه. انتهز الخواجة الفرصة وأخبرهما بأنه على علم بالمعلومات التي أخبروا بها مفتش المنطقة "حكيم أفندي أبو يوسف"، بما يجرى من انتهاكات مالية في الحفائر التي يُشرف عليها سليم حسن. ثم طلب منهما الخواجة أن يوثّقا في إقرار مكتوب ما يجري من انتهاكات. على أمل إلغاء قرار نقل "الباش ريس" إلى دمنهور. قام الشقيقان بتنفيذ أمر الخواجة، الذي توجّه مسرعاً بتلك الإقرارات إلى وزير المعارف، لإحالة سليم حسن وعمال الحفائر إلى النيابة بتهمة الاختلاس وسرقة أجور العمال.

العمال من موقع الحفائر

العمال من موقع الحفائر.

الطريق إلى إدانة سليم حسن، لم يستغرق الكثير من الوقت، إذ انتهى تحقيق النائب العام عبد الرحمن الطوير، في تلك القضية، بعد عشرين يوماً تقريباً من البدء به. بعد التحقيق وردّ تقارير الفحص، خلُصَ "الطوير" إلى أن "سليم حسن" ضالع في التزوير والاختلاس "الذي بدأه منذ زمن قديم". بينما كانت إجابة سليم المتكررة في أثناء التحقيق معه، بأن هذه المسائل الإدارية لم يكن له يد فيها، وكان منصرفاً عنها بالمسائل الفنية المتعلقة بالحفائر. وعلى الرغم من أن نصّ مذكرة الاتهام تُشير بوضوح إلى تعمّد سليم حسن، ارتكاب جريمة التزوير المادي والمعنوي، إلا أن قرار النائب العام عبد الرحمن الطوير، كان نصّه: "الاكتفاء بالعقوبة الإدارية -أي الإحالة على المعاش- دون المحاكمة الجنائية". وهو قرارٌ حقق لخصومه الهدف: إبعاد سليم حسن عن مصلحة الآثار. أما بالنسبة إلى باقي المتهمين، فقالت النيابة: "إن المتهمين من طائفة العمال، ويكفي ما نالهم من السجن قرابة ثمانية أشهر. وعلى هذا الأساس قررت النيابة العمومية حفظ القضية"، وفقاً للوثيقة التي تحمل الرقم 26177.

بعد عام من صدور قرار النيابة العامة، استطلعت وزارة المالية، في 29 آب/ أغسطس 1940، رأي مجلس الوزراء في مصير الاختلاسات التي أثبتت النيابة وجودها ومصير تلك الخسائر الأميرية -المالية- في خزينة الدولة. في وثيقة اطّلعنا عليها صادرة عن وزارة المالية تُشير إلى مذكرة مجلس الوزراء في اجتماع يحمل الرقم الوارد مجلس الوزراء 1789، تنص على التالي: "مجلس الوزراء رعايةً لفترة سامية تتصل بالمركز الذي كان يشغله مدير الحفائر المتهم الأول -سليم حسن- والعمل التاريخي الذي تم على يديه، الاكتفاء بمعاقبته وعبد السلام أفندي محمد عبد السلام المتهم الثاني بإحالتهما على المعاش". أُعيد عرض الموضوع ذاته على مجلس الوزراء بتاريخ 23 تشرين الأول/ أكتوبر 1940، الذي قرر مجدداً الاكتفاء بالعقوبة الإدارية وهي الإحالة إلى المعاش وإغلاق القضية قطعياً". لاحقاً علّق سليم حسن على قرار النيابة ومجلس الوزراء في رسالة إلى صحيفة "الأهرام"، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1960، قبل وفاته بعشرة أشهر، ردّ فيها مستنكراً: "منذ متى يُحال إلى المعاش مَن يسرق أموال الحكومة؟"

الحرب على سليم حسن في ثلاثينيات القرن الماضي يُلخصها "دونالد مالكوم ريد"، أستاذ علم المِصريات والآثار في جامعة جورجيا الأمريكية، في كتابه "الصراع على الآثار في مصر: الآثار والمتاحف وصراع الهوية من الحرب العالمية الأولى إلى عبد الناصر Contesting Antiquity in Egypt: Archaeologies, Museums, and the Struggle for Identities from World War I to Nasser"، والذي أُعيد نشره عام 2015، قائلاً إن حقبة الثلاثينيات شهدت بزوغ نجم سليم حسن، كمنافس لدريوتون على إدارة مصلحة الآثار، مع إمكانية أن يكون خليفةً محتملاً للفرنسي، ليصبح أول مصريّ يُدير مصلحة الآثار "المصرية"، لكنّ "تحالفاً لا يُقهر جرى بين السفير البريطاني في القاهرة مايلز لامبسون Miles Lampson ودريوتون والملك الشاب فاروق، أجبر سليم حسن على التقاعد حتى قيام ثورة 1952".

الخواجة والملك الشاب

خلال حقبة الثلاثينيات، نجح سليم حسن، في تضييق الخناق على الخواجة دريوتون، مُبعداً يديه عن السيطرة على آثار مصر وخزائن متاحفها، لكن شهدت الأربعينيات انطلاق يد الخواجة، بعدما فاز في الجولة السابقة على سليم حسن، وأقعده في منزله ما يقرب من 12 عاماً.

خرج سليم حسن من مصلحة الآثار والمتحف المصري، في أيلول/ سبتمبر 1939، وبعد أقلّ من عامين من إبعاده، فاحت رائحة عمليات تخريب وسرقة آثار من مقابر وادي الملوك، وكان المتّهم الرئيسي في الحادثة هو الخواجة دريوتون نفسه، إلا أن علاقته بالملك الشاب فاروق حالت دون عزله من منصبه.

كان الخواجة دريوتون، كما وصفته صحيفة "البلاغ"، من عصبة فاروق، إذ كان يُسَهِّل للملك الشاب اقتناء وشراء الآثار المصرية. تؤكد هذه التقارير الصحافية وثيقة صادرة عن مكتب وزير المعارف بتاريخ 5 تشرين الأول/ أكتوبر 1952، وتحمل الرقم صادر 3030، وتُشير إلى أن وزارة المعارف "حاولت في عهودها الماضية أن تكفّ يد المسيو دريوتون عن الإدارة، إلا أن هذه المحاولات لم تكن لها نتيجة". تكشف الوثيقة نفسها أن إدارة الخواجة دريوتون للمصلحة أدت إلى حوادث خطيرة منذ عام 1941: "كان منها التخريب الذي أصاب عدداً كبيراً من المقابر في وادي الملوك، بجانب حوادث سرقة في مقابر وادي الملوك، وقد تجدد عقد استخدامه مرات عدة، برغم أن تلك التحقيقات كانت تحت نظر الوزارة عند موافقتها على التجديد".

على الرغم من اتهام الخواجة بتخريب مقابر وادي الملوك قبل عام 1943، إلا أن مذكرةً صادرةً عن لجنة الموظفين الأجانب في وزارة المالية وتحمل الرقم "8-9/3 صادر مجلس الوزراء"، تُشير إلى موافقة مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة بتاريخ 5 أيار/ مايو 1943، على "تجديد عقد استخدام مسيو اتيين دريوتون المدير العام لمصلحة الآثار المصرية لمدة سنتين من 9 حزيران/ يونيو سنة 1943، بماهية قدرتها 1،500 جنيه. وتضيف المُذكرة، التي اطّلعنا عليها ضمن أرشيف جلسات مجلس الوزراء عام 1943، أن الحاجة لا تزال تدعو إلى الاحتفاظ بالمسيو اتيين دريوتون، "لعدم توافر العنصر المصري الذي يمكن أن يخلفه في وظيفته في الوقت الحاضر، هذا فضلاً عن نشاطه وكفاءته في إدارة شؤون المصلحة".

زيارة ولي عهد السويد إلى موقع حفائر

بسط الخواجة يده على الآثار المصرية حتى اندلاع ثورة تموز/ يوليو 1952. وقتها شنّت صحف مصرية على رأسها صحيفة "البلاغ" في آب/ أغسطس من العام نفسه، هجوماً على "صديق الملك الشاب"، لقيامه بـ"الاحتيال" على متاحف مصر وتسهيل بيع الآثار وتهريبها خارج البلاد. بعد عزل فاروق لم يعد للخواجة مكان في مصر. وفقاً لوثائق عدّة اطّلعنا عليها في أرشيف مجلس الوزراء عام 1952، فقد استطلعت وزارة المعارف رأي مجلس الدولة في أيلول/ سبتمبر 1952، بخصوص عزل الخواجة دريوتون من منصبه وما إذا كان سيقع ضرر مالي على الحكومة في حال فصله، وجاء ردّ رئيس الشعبة الأولى لقسم الرأي في مجلس الدولة في التصرف القانوني بأنه "لا نزاع في أحقية الوزارة في فسخ العقد بشرط إخطاره كتابةً قبل ذلك بثلاثة أشهر". لكن حكومة تموز/ يوليو، لم تنتظر مرور الأشهر الثلاثة وأصدرت قراراها في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 1952، بعزل الخواجة من منصبه.

لعنة جرد المتحف المصري... الجولة الأخيرة

منذ عام 1939 حتى 1952، ظل سليم حسن حبيس مكتبته، بينما ساهم نظام تموز/ يوليو الجديد وصعود شعارات القومية و"مصر للمصريين"، في انتصاره في الجولة الأخيرة على شبكة الخواجات في مصلحة الآثار، بعدما عُزل الخواجة دريوتون، وخرج من مصر عام 1952. لكنّ لعنة جرد المتحف المصري والكشف عن آثار مصر المنهوبة والمُهَرّبة، ظلت تُطارد سليم حتى وفاته. في آب/ أغسطس عام 1959، كلّفت وزارة الإرشاد القومي سليم حسن، بجرد المتحف المصري، وفي نيسان/ أبريل 1960، انتهى سليم من الجرد. بعدها طُلب منه تسليم مفاتيح مخازن المتحف إلا أنه رفض، حتى طلبت الوزارة المفاتيح من سليم عبر خطاب على يد محضر من النيابة العامة.

كان الخواجة دريوتون، كما وصفته صحيفة "البلاغ"، من عصبة فاروق، إذ كان يُسَهِّل للملك الشاب اقتناء وشراء الآثار المصرية. تؤكد هذه التقارير الصحافية وثيقة صادرة عن مكتب وزير المعارف بتاريخ 5 تشرين الأول/ أكتوبر 1952، وتحمل الرقم صادر 3030، وتُشير إلى أن وزارة المعارف "حاولت في عهودها الماضية أن تكفّ يد المسيو دريوتون عن الإدارة، إلا أن هذه المحاولات لم تكن لها نتيجة"

كان سليم قد طلب تسليم المفاتيح بنفسه إلى وزير الإرشاد ثروت عكاشة، حتى يُرفق بها تقريراً عن نتائج عملية الجرد. يُشير تقرير سليم حسن إلى أن عملية الجرد أسفرت عن اكتشافه اختفاء نحو 400 قطعة أثرية، من بينها 65 قطعةً من محتويات غرفة الذهب ومجموعة "توت عنخ أمون"، وسبائك أثرية من الذهب، وفقاً لما نشرته "الأهرام" على لسان سليم حسن، بتاريخ 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1960.

حفائر بجوار أبو الهول

بعد تقرير سليم، أصدرت وزارة الإرشاد نفسها بياناً نُشر في الصحف في تشرين الأول/ أكتوبر 1960، يُشير إلى أن سليم حسن كان متهماً بالسرقة والاختلاس؛ وأن تقريره تشوبه الأخطاء. بعدها نشرت "الأهرام"، في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1960، ردّ سليم حسن، على بيان وزارة الإرشاد: "يؤسفني إقحام القضية القديمة في بيان وزارة تتزيّن بزينة الثقافة والإرشاد. لقد اتُّهمت يوماً من الأيام على أيدي فرنسي كان صديقاً لفاروق، ويومها ظهر الحق وقدّم النائب العام استقالته بسبب قضيتي. ومنذ متى يُحال إلى المعاش مَن يسرق أموال الحكومة؟ ولماذا التجأت وزارة الإرشاد إلى الرجل المشكوك في ذمته -سليم حسن- لتسلّمه كنوز المتحف المصري ليجردها؟".

في اليوم التالي، تقدّم سليم حسن، ببلاغ إلى النيابة العامة يتهم فيه وزارة الإرشاد بالسبّ والقذف والطعن في سمعته، مطالباً الوزارة بتعويض قدره 20 ألف جنيه. وعلى إثر الأزمة، طلب 20 عضواً في مجلس الأمة استجواب وزير الإرشاد ثروت عكاشة، في هذا الموضوع، فاجتمع مجلس الأمة في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1960، وألقى عكاشة بياناً قال فيه إن سليم حسن اعترض على تشكيل لجنة فنية متخصصة لجرد المتحف ومراجعة ما قام به من جرد، ثم ختم عكاشة بيانه: "قامت النيابة العامة باستلام المفاتيح -من سليم حسن- وسلّمتها لمصلحة الآثار، وبدأت لجنة المراجعة تباشر عملها، ففتحت أمس الأحد 13 تشرين الثاني/ نوفمبر، وبدأت تراجع سجلّات الجرد، تمهيداً لأعمال المراجعة لعملية الجرد، وبعد انتهاء هذه الأعمال جميعاً، فإن الجرد النهائي للمتحف المصري يكون قد تم صحيحاً لأول مرة". بعد بيان عكاشة قال رئيس مجلس الأمة أنور السادات: "جاءني الآن طلب من 13 عضواً بأنهم يكتفون بما أدلى به السيد الوزير، فهل توافقون؟ موافقة".

أغلق مجلس الأمة ملف المتحف المصري، واعتزل سليم حسن مجدداً العمل العام، معتكفاً في مكتبته يُصدر من خلالها أبحاثاً في علم المصريات، ثم خرج منها بعد أشهر قليلة من الأزمة الأخيرة إلى مثواه الأخير في 30 أيلول/ سبتمبر عام 1961، بعد حروب عابرة للأزمان، تارةً مع الملك والإنكليز، وأخرى مع الخواجات في مصلحة الآثار، وأخيراً مع تلامذته من الأثريين المصريين في المتحف المصري، الذين طعنوا في شرفه قبل أشهر قليلة من وفاته.

جامعة هارفارد عن سليم حسن

ترك سليم حسن، في مكتبته، رصيداً ثقافياً نادراً من تاريخ مصر، يحتوي على 3،120 وثيقةً متنوعةً من مخطوطات بخط يده وخرائط تتناول اكتشافاته، و2،800 كتاب ومجلد عن مصر القديمة وآثارها. لكنّه أيضاً ترك رصيداً آخر من تاريخٍ مجهول لحياة مليئة بالصراعات.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image