شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"يا حلوي اسم الله عليكي، صار السِّحر بْساقيكي"… "بيروت أيام زمان" كما رواها سلام الراسي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الأربعاء 25 سبتمبر 202412:45 م

رفع سلام الراسي شعاره: "أدب الناس للناس"؛ معلناً أنّ الأدب الشعبي تعبير عن الواقع الإنساني. لا يختزن هذا الأدب ثقافةَ شعب، بلغته ومفرداته وقوالبه ومفاهيمه ورؤيته الخاصة إلى الأحداث فحسب، بل إنّه إرث تاريخي يختلط فيه الصادق من الأحداث والأخبار مع ما يعتريها من مبالغات وخرافات و"أفاوية" تطيّب جلسات الحكواتيّة ومستمعيهم.

الأدب الشعبي في لبنان أدبان: أدب القرية وأدب المدينة؛ وقد حظي الراسي في مشواره الطويل بمأثورات من أفواه الناس تعبق بالحكمة والبلاغة والجمال، بات كثير من الأدباء، وفق ما يعبّر، "يغمّسون من معجنه" في التعبير عن واقع الحال. فلنتسقّط بعض أخبار بيروت والبيروتيين، نلملمها من هنا وهناك، موزّعة في إرث أدبيّ تركه لنا سلام الراسي.

بعض المسلمين وبعض المسيحيّين في محلّة رأس بيروت كانوا "إخواناً بالحليب"؛ لذا كانت هذه المحلّة أقل المناطق تأثّراً بالطائفيّة السياسيّة وأبعدها عن العنف في زمن الأحداث الدامية، وفق ما يروي الراسي.

ويذكر أنّ مصطفى الدّاعوق، على سبيل المثال، كان أخاً "بالرضاعة" لجرجي ربيز. وينقل عن لسان هذا الأخير، وهو مختار سابق لرأس بيروت، قوله إنّ بيروت ما زالت "تتقلّد تقاليد قبضياتها" الذين ملأوا ذاكرتها الشعبية بحكايات المروءة ومراعاة حقوق جيرانهم، من أيّ طائفة كانوا. لذا لم ينقطع حبل المودّة بينهم، (في كتابه "يا جبل ما يهزّك ريح"). غير أنّ عهد القبضايات الشرفاء، أسياد المدينة، انطوى بسيطرة الميليشيات الطائفيّة آنذاك، لتبقى منه ذكريات، ومنها حكاية التعاقد بين القبضاي أبوسعد الداعوق، والقبضاي بركات ربيز في تعهّدهما بمنع أيّ تطرّف مسلم أو مسيحي، كلّ من جهته، (في كتابه "الناس أجناس").

أدب الناس للناس

يفسّر أحد علماء الاجتماع وجود ظاهرة القبضيات في المجتمعات النّامية "كدليل على تعطّش هذه المجتمعات إلى بطولات حقيقيّة قائمة على قواعد وطنيّة أو منبثقة عن بواعث إنسانيّة". وقصة فشل الفرنسيين في إقامة عرش في لبنان (سنة 1929) على غرار ما فعله الإنكليز في الأردن، اختصرها الأمير جورج لطف الله، المرشّح حينذاك للحكم، بجملة دالّة: "المناطق اللبنانيّة تحت سيطرة الإقطاعيين، والمدن في قبضة القبضايات"، فلم يبايعوه بالإمارة. ومن الطرافة بمكان، وصف أبناء حي "المصيطبة" أحد أشهر قبضاياتهم في مطلع القرن العشرين، إلياس الحلبي، بما يأتي: "كان بذمّته ثلاثة وأربعون قتيلاً، إلا أنّه لم يعتدِ على أحد، وكان مؤمناً صادق السيرة والسريرة، متوقّد الحميّة والأريحيّة"، وفق ما ذكر في كتابه "لئلا تضيع".

الأدب الشعبي في لبنان أدبان: أدب القرية وأدب المدينة. هنا نتسقّط بعض أخبار بيروت والبيروتيين، نلملمها من هنا وهناك، موزّعة في إرث أدبيّ تركه لنا سلام الرّاسي

إلى شارع "الحمراء" الذي كان معبور آل الحمراء، وكانت المنطقة في منتصف القرن التاسع عشر حقولاً وبساتين، إلى أن تأسّست الجامعة الأمريكيّة (الكليّة السورية الإنجيليّة) سنة 1866، فبدأ العمران بالتوسّع. يخبر الراسي، على لسان شيخ معمّر، أنّ منطقة الحمراء كانت إقطاعاً لآل تلحوق، وكان (ابن الحمرا) من قبضيات المحلّة، فأخذ يحرّض المزارعين عليهم، إلى أن قُتل القبضاي.

ويروي معمّر آخر أنّ الخلافات بين العائلتين على مُلكيّة بعض الأراضي أدّت إلى تصفية آل الحمراء، ليبقى اسمهم فحسب. إنما الراسي يرجّح السبب السّياسي في الخلافات بين أمراء الحزب اليمني (آل الحمراء) ومشايخ الحزب القَيسي (آل تلحوق)، أيضاً وفق كتاب "لئلا تضيع".

الطربوش: حكاية وعلامة

الطربوش ميراث عثماني- مصري، وأصل الكلمة "سربوس"، ومعناها بالتركيّة غطاء الرأس، إنّما استورد الأتراكُ عادةَ اعتمار الطربوش الأحمر من النمسا إبان حكم السلطان محمود الثاني (بدايات القرن التاسع عشر). وقد أراد السلطان محمود أن "يحكم الشرق بمفاهيم الغرب"، خالعاً العمامة المغربيّة، ليغدو الطربوش النمساوي الأحمر اللباسَ الرسمي للرأس في أنحاء العالم الإسلامي. ومن جملة تحديثات أتى بها مصطفى كمال باشا، في الثلث الأول من القرن العشرين، إلغاء الطربوش، وقد كان الأتراك يرون فيه رمز كرامتهم. أما في بلادنا، ووفق ما ورد في كتاب "في الزوايا خبايا"، فجاء تعميم "لبس الطربوش الأوروبي" على يد إبراهيم باشا المصري إثر حملته (سنة 1831)، وأول من وضعه على رأسه كان الأمير بشير الشهابي (سنة 1838).

سلام الراسي

ما يعنينا في هذا المقال، هو الحكايات الشعبية حول صراع الطرابيش والأمثال السائرة. فحين احتدمت الخلافات بين تركيا والنمسا انتقل التوتر إلى بيروت، ليُعقد اجتماع شعبي في ساحة البرج في بيروت، ليتّخذ أحد قبضاياتها، ويدعى أبو أحمد الجاك، قرار نزع الطربوش النمساوي عن رأسه، قائلاً: "نمساوي قليل الشرف، ما بيحطّوا عا راسو إلا كلّ قليل الشرف". يجاريه في ذلك بعض الحاضرين، ليتراجع أحدهم عن هذا الاختيار بعد شماتة زوجته به عائداً إلى بيته حاسر الرأس -والطربوش مثل الشارب من مقوّمات الرجولة- فيعود أدراجه إلى زملائه، قائلاً لهم: "العاقل يعقل! تاليها شماته".

تذكّر طُرق وضع الطربوش على الرأس بوضع "المحبس" في البنصر، وانتقاله من اصبع اليد اليمنى إلى بنصر اليسرى في حالتي الخطوبة والزواج، ومن ثَمَّ إلى سلسة تعلّق في عنق الأرملة -لدى بعضهنّ- في حالة موت الزوج. فالطربوش بالمثل، تقليد وعلامة؛ فعلى الرغم من أنّه يوضع غالباً بشكل أفقيّ فوق الرأس، إلا أنّ بعض القبضايات كانوا يميلون طرابيشهم إلى الوراء، لتبرز ناصية الشعر فوق الجباه، وهذا من أَمارات الرجولة. فالقول: "وقبض على ناصية الأمر"، له دلالته الشعبية في الظفَر بالرجل إذا ما قبض أحدهم على ناصية شعره. أما الشابّ العازب فكان يحني طربوشه ذات الشمال، ولدى زواجه يغيّر اتجاهه نحو اليمين. وفي حالتَي الحزن والذلّ، ينكّس الطربوش إلى الأمام، ليخفي ناصية الشعر؛ فلا يبقى الرجل "ناصع الجبين" حين يلحق به العار، وفق كتاب "في الزوايا خبايا".

صبايا الهولبروف، وثورة الطنابر

أشعل تقصير الفساتين (وردت "فساطين" في كتابات الراسي)، في ثلاثينيّات القرن الماضي، المعارضات الزجليّة والشعريّة الفصيحة، خصوصاً مع انتشار جوارب "هولبروف" الشفّافة، والإعلان الذي يبرز ساقَي امرأة إلى ما فوق الرّكبة. ورافق الإعلان ردّة زجلية: "يا حلوي اسم الله عليكي/كان السّحر بعينيكي/لما البستي الهولبروف/صار السّحر بساقيكي".

تأثرت الفتيات والسيّدات بالإعلان، وثارت موجة نقديّة في المجتمع البيروتي المحافظ. لكنّ الفستان القصير مع الهولبروف صارا موضة، ومعهما أغنية شعبيّة منسوبة لزجّال بيروت عمر الزعنّي، مطلعها: "يا معروف، تاع وشوف/كل شي صار عالمكشوف". ولتتبعها مداخلة زجليّة أخرى لأحمد الصافي النجفي، يقول فيها: "ونحن بحالنا أدرى/وأنتِ بحالِك اصطفلي". ليعقّب الراسي بالقول: "وراحت بعض النساء "تصطفل" بحالها"، كما ذكر الرّاسي  في كتابه "جود من الموجود".

إميل لحود

المظاهرات في ساحة الشهداء، وسط مدينة بيروت ليست طارئة، فقد شهدت الساحة في أوائل عهد الاستقلال ما دعاه الراسي "بثورة الطنابر". حدث أنْ تزايَدَ عدد السكّان واقتناء السيّارات، فتفاقمت أزمة السّير مع وجود كثيف للطنابر (جمع طُنبر) بعرباتها وبغالها، فاقتضى الأمر أن يُدرس الموضوع في مجلس النواب، حيث انقسمت الآراء بين إلغاء الطنابر وتعويض أصحابها، أو تخصيص مسالك ومواقف خاصّة بها.

ومع كثرة المشاريع، وتأجيل البتّ بالأمر، وتحت إلحاح نواب الجنوب، لأنّ غالبيّة أصحاب الطنابر كانوا من أبناء الجنوب، وقف النائب إميل لحود معدّداً مشاريع مستعجلة وأكثر أهميّة، مكرّراً كلمة "هناك" قبل اسم المشروع المنوّه عنه، خاتماً: "أما إذا كنّا نريد أن نصرف كلّ هذا الاهتمام بموضوع الطنابر، فهناك الطامة الكبرى".

الأدب الشعبي تعبير عن الواقع الإنساني. لا يختزن هذا الأدب ثقافة شعب، بلغته ومفرداته وقوالبه ومفاهيمه ورؤيته الخاصة إلى الأحداث فحسب، بل إنّه إرث تاريخي يختلط فيه الصادق من الأحداث والأخبار 

لم تمرّ المناقشة بغير مشاكسة طريفة من أحد نوّاب الجنوب الذي سأل لحّود لاحقاً، عن محلّة "الطامة الكبرى"، ليجيبه مازحاً أنّها في ساحة الشهداء. وتتحقّق مزحته/النبوءة بانطلاق أصحاب الطنابر من شارع "اللّنبي" حيث مواقفهم، وفي المنعطفات المؤديّة إلى مرفأ بيروت وصولاً إلى الساحة، ويرفد هذا الاحتجاج الشعبي مجموعة من المتعيّشين والباعة المتجوّلين والمتسوّلين والمشرّدين من سوق "الحسبة" في محلّة الريفولي القريبة، لمواكبة المظاهرة، هاتفين جميعاً: "بدنا ناكل بدنا نعيش/بيكفينا قهر وتدفيش". بعد احتدام "الخبيط باللبيط" واحتواء المظاهرة، سرت إشاعة تقول: "إنّ أصحاب الطنابر حصروا المسؤولية بالنائب إميل لحّود"، كما جاء في "جود من الموجود".

حرش العيد وصديقة البيروتي

"حرش العيد" تقليد فرح ومحبة يقام في حرج بيروت. غير أنّ لتغيير الاسم (من حِرج إلى حِرش) قصة تعود إلى عشرينيات القرن الماضي، وقبل ثورة الطنابر، عندما تظاهر الناس ضد قرار رفع شركة الترام رسمَ الانتقال بين أحياء بيروت من قِرش (غِرش) إلى قرش ونصف. مشى المتظاهرون وهم يهتفون مردّدين ما نظمه عمر الزعني: "من المناره للحرش... مامندفع إلّا قرش". غير أنّ أحد اللغويين -خالي البال- اعترض على استعمال كلمة حرش (وقد صاغها الزعنّي لملاءمة التقفية عوضاً عن لفظ 'حرج' الصحيحة لغويّاً). فما كان من المفكّر عمر فاخوري إلا أن حسم الجدال بقوله: "الحرج حرجنا، ومن حقّنا أن نسمّيه كما نشاء، وقد سمّيناه 'الحرش'، وعلى أصحاب القاموس أن يأخذوا علماً بذلك"، كما ذكره الكاتب في "الناس أجناس".

أمام كلّ بيت في بيروت كانت تنهض شجرة جمّيز يلعب تحتها الأولاد، وتتفيّأ بظلّها النسوة على مصطبات منازلهنّ، كما يشدّ ربّ البيت "عرزالاً" بين أغصانها. وبالمثل تتوزّع عدّة جمّيزات في الساحات يستظلّ بها عابر السبيل؛ فالجمّيزة صديقة البيروتي. إلّا أنّ محمد علي باشا قام بـ"مجزرة" في حقّ أشجار الجمّيز وأبناء بيروت، حين أمر باقتطاعها ونقل أخشابها إلى مصر لصنعِ مخابيطَ لدقّ الأرزّ.

وينقل الراسي رواية القنصل الفرنسي هنري غيز عن كتابه "بيروت ولبنان" (1837) في ما يلي: "كان يوم باشر فيه الجنود بقطع أشجار الجمّيز مأتماً". لكن جمّيزة "باب السماطيّة" نجت من فأس الوالي، إذ وجد جنوده رجلاً يحيط بها، ويرفض التنحّي جانباً لقطعها إلا بقطع رقبته، وفق "في الزوايا خبايا".

عجاج المهتار

ولو قرأنا اليوم وصف عمر الزعنّي واقعَ حال بيروت في زمانه، لوجدناه يسطّر -زجلاً - قانون المدن الجامعة والمنفتحة على كلّ جديد وأيّ قادم، كما يسجّل ظاهرة الهجرة؛ إذ نرى أنّ تلك الحال مازالت هي نفسها، في الاستقبال والمغادرة، مستمرّة حتى يومنا هذا. فيُزجَل قائلاً: "يا ضيعانك يا بيروت/يا مظاهر غشّاشِه/الغريب عم يتمخطر/والقريب عم يتقهقر/واللي بيضهر ما بيفوت/يا ضيعانك يا بيروت".

أمّا شاعر العاميّة عجاج المهتار الذي عُرف عنه ظرفه وطرافته، فاشتُهر بعبارة: "أبقاش بدها"، قالها حين انتشرت الطائفيّة وتوسّعت الانقسامات السياسيّة والحزبيّة في لبنان؛ فعزم على مغادرة البلاد نهائيّاً، آخذاً بنصيحة أصدقائه بحمل كلّ الاعوجاجات معه، فينفعهم مقيماً ومسافراً. وقال: "كنت ناطر شوف بارق انفراج/ينوّر حياتي قبل ما ينوص السّراج/وبقيت وحدي اعوجاج ببلادنا/لاقيت كلّ النّاس صاروا اعوجاج"، كما ذُكر في كتاب "من كل وادي عصا".

أنيس فريحة

وعلى طريقة الحكواتي، كان يا ما كان، كانت بيروت أيّام زمان! أمّا عمّا أُسبغ على سلام الراسي من لقب مستحَقّ، فيروي أنّ ممثّلي سائر المجالس الثقافيّة اجتمعوا في نادي خرّيجي الجامعة الأمريكيّة في بيروت في التاسع من أيار/مايو 1991، بناءً على دعوة من المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، وبايعوه بمشيخة الأدب الشعبي.

سلام الراسي المسيحي، وكنيته "أبو علي"، ولد في قرية "إبل السقي" الجنوبيّة، ونشأ في بيئة درزية. كان ابن قرية وابن مدينة، و"ابن حكومة"؛ فقد عمل في مصلحة التعمير، وحجز لاسمه مكاناً بين رجال الأدب والثقافة، وفي قلوب اللبنانيّين، تاركاً لنا ولمن سيأتي بعدنا، ستة عشر كتاباً يضاف إلى ما زخر به تاريخ الأدب الشعبي الّلبناني من مؤلفات لأنيس فريحة، ولحد خاطر، ومارون عبّود وغيرهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image