أكرر: إن عالماً يأكل ما لا يُؤكل، ليلاً نهاراً، أكثر فأكثر،
ليأخذ نيتَه السيئةَ إلى مبتغاها،
ليس له، هنا بالذات،
إلا أن يخرس.
(فان غوغ، منتحر المجتمع. أنطونان أرتو).
يتضمن المعرض الحالي للفنان السوري يوسف عبدلكي، في غاليري تانيت في العاصمة اللبنانية بيروت، ما يقارب 17 لوحةً تتنوع في تواريخ تحقيقها بين أعوام 2017 و2023، بالإضافة إلى 13 رباعيةً من الرسومات التي رسمها الفنان عن أشعار المصري محمود جاهين، بالإضافة إلى صدور كتاب بعنوان "يوسف عبدلكي في السبعينيات 1970-1980". وهذا ما يجعل المعرض يتضمن في عناصره ما يماثل المعرض الاستعادي لمسيرة الفنان الإبداعية من حيث أنطولوجيا الموضوعات، الأسلوبيات، والحساسيات.
العمل الفني في ابتكار جوهر العناصر
الحياة الحقيقية غائبة،
نحن لسنا في العالم.
(فصل في الجحيم. آرتور رامبو).
يرفض الفنان عبدلكي مفهوم "الطبيعة الصامتة، الطبيعة الجامدة، والطبيعة الميتة"؛ يقول: "طبيعة صامتة؟ طبيعة ميتة؟ أين الموت في كل هذه الخلايا النابضة؟ طبيعة ساكنة، ليست كذلك أيضاً. حتى جدران الإسمنت المسلح ليست ساكنةً. طبيعة جامدة؟ ربما إذا قُصد من ذلك ما يراد رسمه حياً".
هذا يتطابق مع ما كتبه مارتن هايدغر في "أصل العمل الفني": "إن العمل الفني يفتتح وجود الموجود على طريقته، ويتم هذا الافتتاح في العمل الفني بمعنى الكشف، بمعنى حقيقة الموجود. حقيقة الموجود تضع نفسها في العمل الفني. الفن هو وضع الحقيقة نفسها في العمل الفني. وما هي هذه الحقيقة نفسها التي تحدث أحياناً بصفتها فناً؟ وما معنى عبارة وضع النفس في العمل الفني؟". ووفقاً لهايدغر في هذا الكتاب، تشكل لوحة الأحذية التي رسمها فان كوخ حقيقة الكائن، حقيقة وجوده التي لا تُختزل أبداً إلى مادة الأحذية".
يرفض الفنان عبدلكي مفهومَ "الطبيعة الصامتة، الطبيعة الجامدة، والطبيعة الميتة"، ويقول: "طبيعة صامتة؟ طبيعة ميتة؟ أين الموت في كل هذه الخلايا النابضة؟ طبيعة ساكنة، ليست كذلك أيضاً. حتى جدران الإسمنت المسلح ليست ساكنةً"
العمل الفني الذي يفتتح وجود الشيء المرسوم، والذي أشار إليه هايدغر، ينطبق على حضور عناصر الطبيعة الصامتة في أعمال عبدلكي. في النص الافتتاحي للمعرض الحالي يكتب "آلان جوفار": "عبدلكي يدخل في الجمجمة أو السمكة أو في حذاء المرأة، كما كان يدخل هنري ميشو في تفاحة. لعلّه مزّق السمكة إرباً قبل أن يعيد تركيبها. إنه لا يقدّم السمكة أو حذاء المرأة أو جمجمة الثور، بل يبعثها. هذه هي قدرة الإدهاش لديه، كل شيء محكوم بالموت والتلاشي، ولكن كل شيء ممكن أن ينقذ كما لو من طوفان".
ضمن هذا الإطار، وتحت عنوان "عن عبدلكي أتكلم"، يكتب حسن سليمان: "إن عالم يوسف عبدلكي على رغم سوداويته يحتويك فنياً، أسماك وجماجم من عالم آخر، عالم أسطوري ينتظر البطل الأسطوري الذي سيطأ كل هذه الجماجم والزهور التي خرجت لتوّها من توابيت الموتى، وينتفض محطماً ذلك الجدار الحالك. تشعرك لوحات عبدلكي أنك في شرنقة مظلمة، يجب أن تمزقها كي تشعرك بحريتك".
لوحات مثل "مزهرية" (2021)، و"زهرة 1" (2023)، و"زهرة 2" (2021)، و"زنبقة" (2020)، تؤكد قدرة اللوحة على استخراج الجليل من الرمز أو العنصر المرسوم، وللتعبير عن شعور المتلقي أمام لوحات العناصر عند عبدلكي، يمكن العودة إلى ما كتبه هيغل عن الفن الرمزي: "حين يؤكد الرمز ذاته في الشكل الخاص به، في شكله المستقل، يتلبس بوجه عام صفة الجليل، لأنه يمثل الفكرة التي ما تزال مجاوزةً الحد وعاجزةً عن تعيين ذاتها بحرية، الفكرة المتوجب عليها أن تصبح شكلاً، لكن من دون أن تجد في التظاهرات العينية شكلاً محدداً ومعيناً يطابق بدقة ما فيها من تجريد وعمومية".
الحيوية في نشوتها التراجيدية القصوى
لأن في نفسي روحين
لا أعرف ما أفعل
روح الصياد وروح الطريدة.
(سافو، 2600 ق.م).
أنا الجرح وأنا السكين.
(بودلير).
تتجاور في لوحات العناصر عند عبدلكي، السكين والزهرة، الساطور والعصفور، السلك والسمكة. هذه المفارقة في حضور أداة الجريمة والضحية، أداة الإيذاء والمادة الحيوية، تحمل الرموز المحتملة القراءة باعتبارها عن علاقات الظلم والعدالة، الجلاد الضحية، السلطة والحياة. لكن قبل ذلك، هنا أيضاً رسومات الأشياء التي تحمل أبعاداً وجوديةً.
في لوحة "سلك" (2015)، يتدلى خط وحيد يكاد لا يمكن تمييز لونه عن الأرضية الرمادية التي يتمدد عليها بحالة من الاستسلام، بحالة من عبثية الوجود في التناوب بين الهامش والموت. يكتب هيغل، عن "الفن الرمزي": "إن المدلول الذي يحجبه بقدر أو بآخر الشكل الحسي الخصوصي، ينتهي به الأمر إلى الانعتاق من إسار هذا الشكل وإلى عرض نفسه على الوعي بكل وضوحه وجلائه".
وفي حين تبدو السمكة في حالة موت، والزهرة في حالة تلاشٍ أو تمزق، والعصفور في حالة الذبح، فإن أدوات القتل والقمع، كما في لوحة "الساطور" (2019)، وحدها تبدو في حالة من الفاعلية. الساطور يخترق الأرضية الخشبية المرسومة داخل اللوحة، إنه في لحظة الفاعلية.
العمل الفني الذي يفتتح وجود الشيء المرسوم، والذي أشار إليه هايدغر، ينطبق على حضور عناصر الطبيعة الصامتة في أعمال عبدلكي.
في لوحة "سكين وزهور" (2023)، تحزّ السكين عنق الزهرة، ساق الزهرة تحت النصل المنصوب بحالة من السلطة والقسوة والفاعلية، والزهرة في حالة موت، ولكن أيضاً في حالة انتفاض.
يكتب نبراس شحيد عن اللحظة التي يختارها الفنان في لوحته الإبداعية: "اللحظة التي التقطها الرسام من وجود هذا الحيوان المائي ليست لحظة ارتطامه بالأرض التي لم يخلق ليعيش عليها. إنها لحظة هاربة وفريدة، ضرب فيها ذنب السمكة الأديم فارتفعت جانحة في الهواء، ورفعت رأسها مصوبةً نحو المشاهد نظرةً صاعقةً بعد أن أطلقت صرخةً صامتةً وأخيرةً.
اقتبس الفنان أيضاً من الفوتوغرافيا الطبيعة الفريدة للّحظة. اللحظة الحاسمة هي الحياة التي التقطت بعد بغتة هاربة لا يمكن أن تتكرر. واللحظة فيها كائن ضعيف بقدرته على القفز في الهواء قبل موته، بد أنه قُيّد وطُرح أرضاً. حتى في عجزها، تقول السمكة إنها تريد أن تسبح، والقبضة إنها تريد أن تقاوم، والحافر إنه يريد أن يعدو. تطرح لوحة يوسف عبدلكي في آن شيئاً مهملاً ومعملقاً وطبيعةً ميتةً تريد الحياة".
تنقلنا كتابات الباحث نبراس شحيد، إلى قراءة فلسفية لعوالم عبدلكي. يكتب تحت عنوان "التراجيدي الأقصى": "ثمة بطولية مأساوية عند شخصيات عبدلكي، بطولة السمكة التي تثب، بطولة الذراع المقطوعة بقبضتها المغلقة، بطولة الحذاء الممزق المستعد للعدو. ولكن هذه البطولة تتجلى في لحظة خاصة جداً، كان من الممكن لها أن تظهر ربما بطريقة مطمئنة أكثر لو أنها التُقطت قبل ذلك. عصفور، سمكة، فراشة، قوته ليست هائلةً، وليست بذي اتساع يمكّنها من تأليه الوجود، إنها ببساطة قوة الكائن الهامشي في لحظته الأخيرة، هو الذي يعلم بأنه خسر كل شيء، ولكنه يستجمع إمكانيته الأخيرة، ليسطع في آخر إشراق له، إشراق عين مفتوحة لحظة موتها، أو إشراق الهبّة الأخيرة لسمكة تختنق فوق الأرض الباردة".
وتسهم كتابات حسن سليمان، في فتح أفق القراءة لتشمل روابط مع الأدب، المسرح، الشعر، والموسيقى السمفونية: "ما أقصده هنا بالحس الميتافيزيقي، ليس البعد الميتافيزيقي الذي نجده مع امتداد المساحات اللا نهائية لدى سلفادور دالي، أو مساحات دي كيريجو بظلالها القاتمة، وأحياناً لدى مارغيت أولدي دولافو. أما الحس الميتافيزيقي عند عبدلكي، فهو عالم دون مساحات، عالم من الغموض يأخذ بتلابيبك، يذكّرك بمسرحيات يونسكو وأونيل وبعض أبيات من ت.س. إليوت، أو بعض معزوفات برليون وسيبيليوس، هذا العالم يعتصرك ويعطيك الخوف والرهبة من كل شيء، دون افتعال الرمز. إن الحس الميتافيزيقي يجبرك على التغاضي عن كل شيء".
الحضور الإنساني بين السجن، الموت، والصلب
اعترافاً بالجميل، ولأن
حضور الصديق يبهجك
احترق في الألم كشمعة
وكن مسروراً.
(شمس الدين محمد حافظ الشيرازي).
يتجسد الحضور الإنساني في المعرض في لوحات عدة، أبرزها حضوره ضمن إطار الحدث السياسي والإجتماعي "ولاد المخيم" (2020)، و"أمام باب السجن" (2021)، و"أم الشهيد" (2022). يرتبط هنا الحضور الإنساني بموضوعات تتعلق بالراهن السوري: الموت، الاعتقال، النزوح والهجرة. لقد تميزت أعمال عبدلكي منذ العام 2011، بريادتها وتميّزها في تقديم موضوعة الشهيد، وأم الشهيد، كانت تعلن أسلوباً فنياً في معالجة موضوعة الموت التي ستسود في الفن التشكيلي السوري خلال السنوات العشرة الماضية.
تتجاور في لوحات العناصر عند عبدلكي، السكين والزهرة، الساطور والعصفور، السلك والسمكة. هذه المفارقة في حضور أداة الجريمة والضحية، أداة الإيذاء والمادة الحيوية، تحمل الرموز المحتملة القراءة باعتبارها عن علاقات الظلم والعدالة، الجلاد الضحية، السلطة والحياة.
في لوحة "أم الشهيد" امرأة ترتدي معطفاً أسود طويلاً وحجاباً على الرأس، تقف أمام المتلقي مفتوحة اليدين بحالة من العجز، لكن الضحية، وهذا ما تؤكده آثار المسامير التي دُقّت في كفّيها وقدميها، تنزف الدماء بما يذكّر بلوحات صلب المسيح، العيون هادئة وساكنة كما لو أنها في طمأنينة مع عالم الموت. فمه مطبق تماماً كأنها مكتفية بالصمت المهيب، وجسدها يمتد على كامل مساحة اللوحة فوق خلفية رمادية تشكل أرضية الجسم المصلوب.
يحضر الجسد المصلوب، والجسد الميت في معالجة تستلهم الرؤية الدينية والطقوسية في لوحة "مار يوحنا" (2015)، والتي تصوّر جسد "القديس يوحنا فم الذهب"، مسجّى في جامع الحسن في حي الميدان في دمشق. يكتب عنها الباحث نبراس شحيد، تحت عنوان "المسيح المسجّى": "يحيل جسد المسيح المدد، وفي آن، على لاهوتي القرن الثامن وعلى الثائر السوري في القرن الحادي والعشرين. ولأنه يتّبع هذا النهج التصويري ذاته الذي وسم لوحات السمكة والمخلفات الحيوانية الأخرى، نستطيع القول إن القداسة فيها تتجاوز الأزمنة والطوائف والأنواع".
هذا الربط بين حضور الجسد الإنساني الميت في لوحة عبدلكي، وحضور العناصر الحيوية في حالتها الإشراقية التراجيدية القصوى، يحيل مرةً أخرى للتعبير عنه إلى كتابات هيغل، حول حضور المطلق في العمل الفني: "لكي يتمكن المطلق من تخطّي طور الموت، فلا بد أن يكون قد وُلد ووُجد، لكنه بدل أن يبقى في طور التلاشي بفعل الموت، يعاود قيامه في شكل أسمى، في شكل وحدة إيجابية. إذاً، فالموت هنا لا يشكل المدلول الشامل، بل جانباً فقط من هذا المدلول، ثم إن المطلق ذاته يبدو من جهة أخرى، بفضل سيرورة النفي، وكأنه يرتدّ إلى ذاته في حركة انبعاث تجعله أبدياً وإلهياً في ذاته".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.