شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
تقمّص في حياة واحدة… جوهانسون الأمريكي الذي أصبح شيخاً لمدينة عُمانية

تقمّص في حياة واحدة… جوهانسون الأمريكي الذي أصبح شيخاً لمدينة عُمانية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الاثنين 23 سبتمبر 202412:22 م

هناك من يؤمن بتناسخ الأرواح والعودة إلى الحياة في صور وأزمنة مختلفة، وهناك من يعيش في الحياة الواحدة حياتين بثقافتين مختلفتين من الغرب إلى الشرق.

لم يكن يعلم ذاك الطفلُ الأمريكي وهو يصعد السفينةَ أن تلك المغامرة البحرية هي قدَره الذي سيغيّر مجرى حياته إلى الأبد، وأن الصور التي تلتقطها عيناه للميناء والأهل والمدينة التي تبتعد شيئاً فشيئاً، ستبقى الصور الأخيرة التي ستدخل سراديب الذاكرة.

تتجاوز أحداث هذه الحكاية التي حدثت في مطلع القرن التاسع عشر في مدينة مرباط التابعة لمحافظة ظفار جنوبي سلطنة عمان، والتي دوّن تفاصيلها الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، في كتابة "الشيخ الأبيض"، وهو يزور الأماكن الحقيقية ويلتقي بأحفاد أبطالها، خيال الروائيين والكتّاب، وتثبت أن المرء مهما كان أصله فهو ابن البيئة التي ستحتضنه ويكتسب لغتها وثقافتها وموروثها؛ فذلك اللبس العربي والعمامة العمانية سيصبحان جزءاً أساسياً من شخصية الأمريكي الذي فضّل في النهاية أن يكون عربيَّ الانتماء، وأن يدافع ويحارب من أجل المدينة التي عاش فيها ويأخذ بثأر والده العربي!

هو جوهانس هيرمان بول، أمريكي والداه من أصل هولندي. كانت "سيلم" مدينته الأولى التي عرفها طفلاً في الولايات المتحدة الأمريكية. ويقال إن من عادة سكان "سيلم"، أن يتركوا أبناءهم يذهبون في سنّ صغيرة للعمل في السفن، متأملين أن يصبحوا في المستقبل القريب بحّارين ماهرين.

بداية الرحلة

بين الأعاصير والحروب والقراصنة، شهدت البحار على سفن تاهت وأخرى غرقت أو دُمّرت ونُهبت وسط أمواجها. عام 1805، أبحرت سفينة "إيسكس" من "سيلم"، منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر، ووصلت إلى ميناء عدن في بداية شهر آذار/مارس 1806.

كانت "سيلم" مدينته الأولى التي عرفها جوهانس بول طفلاً في الولايات المتحدة الأمريكية. ويقال إن من عادة سكان سيلم، أن يتركوا أبناءهم يذهبون في سنّ صغيرة للعمل في السفن، متأملين أن يصبحوا في المستقبل القريب بحّارين ماهرين

ما حدث في تلك الرحلة لم يكن في الحسبان. ففي الوقت الذي اقتربت السفينة فيه من سواحل شبه الجزيرة العربية، كان الصراع البريطاني الفرنسي في أوجه.

كانت جزيرة "كمران" التابعة للجمهورية اليمنية حالياً، محطّ أنظار الإنكليز والفرنسيين الذين كانوا عازمين على إقامة مستعمرات فيها، وترافق قدوم السفينة مع تحطيم وهدم تحصينات محمد بن عقيل فيها، وسرقة أمواله ومدّخراته. ومحمد بن عقيل كان أحد أشهر التجار في ظفار العمانية، ينتمي إلى "السادة" العلويين، ويمتلك عدداً كبيراً من السفن، وكان قد اتفق مع الفرنسيين على تأسيس وكالة لهم في الجزيرة، وهو ما عدّته بريطانيا إهانةً. وعندما علم أن هناك رسالةً بريطانيةً بخصوص التحصينات ستكون عبر سفينة أمريكية، ساوره الشك في أنهم من قام بذلك الفعل، وقرر الانتقام من المبعوث وطاقم السفينة.

وهذا ما حدث بعدما اعتزم كابتن السفينة الأمريكية تناول الطعام على متن سفينته "محضار"، ولم يكن ذلك سوى استدراج له، حيث تم تقييده ووضعه في جزيرة كمران، ليُعدم فيها، بينما الزوارق التابعة لرجال محمد بن عقيل، تقترب من السفينة الأمريكية "إيسكس"، وبالفعل تم قتل طاقم السفينة، ورُميت جثث أفراده في البحر.

التبنّي

ليلة كتلك قد لا يكون من السهل محوها من ذاكرة أحد، لا سيما إن كان طفلاً لم يتجاوز التاسعة، ولا بد أن ما قُدّم له في المقابل من حب وحياة فيها الكثير من الرفاهية والفرص، كان تعويضاً عن تلك الليلة السوداء التي اخترقها صوت الشاب العربي حيدر، مترجم الطاقم الأمريكي، وهو يقول لمحمد بن عقيل: "هذا الصبي يريد أن يصبح مسلماً ومستعدّ لأن يُختن".

كان ذلك بعد أن أمسك بهما رجاله وهما يختبئان في إحدى "كبائن" السفينة الأمريكية وأحضروهما إلى سفينة "المحضار".

من حرصهم على حياته، حاول رجال محمد بن عقيل، إقناعه بضرورة التخلص من الصبي حتى لا يبقى أثر أو شاهد على فعلتهم بطاقم السفينة الأمريكية، إلا أن ذلك الصوت الحنون القادم من مؤخرة السفينة والذي لا يمكن أن يتوه عن نبرته، فهو الصوت الأكثر تأثيراً من الرجال عليه، كان كفيلاً بأن يغيّر رأيه. كان صوت زوجته الثكلى التي فقدت ابنها الوحيد قبل سنوات قليلة. ترجّته وتشفعت كي يترك الصبي لها لتربّيه، وهكذا سيتحول جوهانس بول، إلى عبد الله بن محمد.

بدأت تتسرب الأخبار عما حدث للسفينة الأمريكية من قتل ونهب لمحتوياتها، وشعر ابن عقيل بأن وجوده في عدن غير مرحّب به، فعاد إلى مسقط العمانية، ومعه الفتى عبد الله الأمريكي ووالدته بالتبنّي، وعرض سفينته "المحضار" للبيع واشتراها منه السلطان العماني سعيد بن سلطان. إلا أن التضييق على التاجر استمر، خصوصاً عندما بدأت تصل أنباء تفيد بأن الحكومة البريطانية غير راضية عنه، واستشعر بأن هناك ما يدبَّر لإلقاء القبض عليه، فسافر ليستقر في مدينة مرباط في ظفار.

محاولات العودة إلى أمريكا

لم تخفِ الملابس العربية ولا الخنجر على خاصرته بياض بشرته واحمرارها كلما لامستها أشعة الشمس. كان يكفي أن تُلقى نظرةٌ على ملامحه ليدرك الناظرون أنه غريب عن المنطقة برغم إتقانه لغتها.

ألم يساوره ذلك الحنين إلى البيت ودفء حضن العائلة؟ ألم تزره وجوه رفاق الطفولة والجيران وأزقة وأسواق بلدته في الأحلام؟ ألم يحاول الهرب بشكل جدّي بعد محاولة يتيمة كاد يغرق فيها، أم أنه أحبّ حياته كعربي وكابن لتاجر يمتلك أهم السفن التجارية أكثر من حياته السابقة؟

غلاف كتاب "الشيخ الأبيض"

أجاد عبد الله، اللغةَ العربية ببلوغه سن الخامسة عشرة، وكان بخنجره يبدو وكأنه وُلد عربياً لا سيما وقد تعلم أساليب القتال وحفظ الدين والعلوم إلى جانب الخبرة التي اكتسبها منذ بدأ بالإبحار مع والده في بعض الرحلات التجارية. وفي تلك السن الصغيرة نسبياً تزوّج من إحدى فتيات البلدة، وأنشأ عائلته الخاصة.

في واحدة من رحلات ابن عقيل إلى ميناء المخا اليمنية، وكان قد اصطحب عبد الله معه، سلّمه مسؤول الوكالة الأمريكية في المخا ووكيل مالك السفينة الأمريكية "إيسكس"، طلباً رسمياً من حكومة المخا بتسليم الفتى الأمريكي للأمريكيين.

"عبد الله ليس عبداً لديّ، ويستطيع أن يذهب إذا رغب في ذلك"؛ كان هذا ردّ ابن عقيل. وفي تلك الليلة اقترح الأمريكيان على عبد الله الهرب من أبيه بالتبنّي، لكنه رفض الفكرة وربما خاف من الفشل وملاقاة مصير طاقم السفينة، بالإضافة إلى استقراره النفسي والعائلي.

لم تتوقف محاولات الأمريكيين لإعادة الفتى الذي غدا شاباً، إلا أنهم كانوا دائماً يصطدمون برجال السيد محمد بن عقيل، صاحب السلطة والنفوذ في المنطقة.

"أنا ارتباطي معكم بالدم فحسب، وليست لديّ الرغبة في الرجوع إلى بلدكم خاصةً في حياة السيد محمد بن عقيل"؛ كانت تلك كلمات عبد الله، لكابتن إحدى السفن الأمريكية الذي التقى به بحلول عام 1818، كما روى القاسمي في كتابه. وكان عبد الله يحاول عبثاً تكوين جملة بلغته الأمّ، فقد نسي الكثير من المفردات والكلمات بعد مرور وقت طويل لم يخاطب فيه أحداً بها، لذا كان يجري محادثاته مع الأمريكيين باللغة العربية، وكانت أجوبته خلاف ما يظنون، فقد كان لديه شعور طيب ومحب نحو والده بالتبنّي. وقد عرضوا عليه العودة إلى أمريكا وتقديم الحماية والمساعدة له، لكنه رفض كونه قد وعد والده محمد بن عقيل بالعودة إلى ظفار، كما أن حياته أصبحت مستقرةً وأصبح له زوجة وولدان.

اغتيال محمد بن عقيل

لا بدّ أن صدى أخبار تلك الليلة أعادت إلى عبد الله، كوابيس سفينة "إيسكس"، لكنه هذه المرة يمتلك القوة والشجاعة والسلطة لينتقم.

اللبس العربي والعمامة العمانية أصبحا جزءاً أساسياً من شخصية الفتى الأمريكي الذي فضّل في النهاية أن يكون عربي الانتماء، وأن يدافع ويحارب لأجل المدينة التي عاش فيها ويأخذ بثأر والده العربي!

بعد سنوات ستصبح ظفار مملكة ابن عقيل، وصلالة عاصمتها، وستنعم بالاستقرار والازدهار حتى ذلك اليوم الذي سيغيّر شكل المنطقة. ففي عام 1829، وفي أثناء عودة محمد بن عقيل من مرباط إلى صلالة، شطرت ظلام الليل رصاصة غادرة وأصابته إصابةً بالغةً أدّت إلى موته. كان مدبر الاغتيال الشيخ سالم بن ثوري بن قحطان، زعيم القرا الذي أراد الانتقام لمقتل أحد أقاربه على يد قوات محمد بن عقيل.

الثأر والسلطة

لم تعد المسألة تغيّراً في اللبس واللغة والاسم، إنما صارت انغماساً في الثقافة العربية، فكل الفرص متاحة أمامه. كان بإمكانه أن يبدأ حياته من جديد في وطنه الأول، وأن يأخذ معه الخبرة والثروة، لكنه اختار أن يفعل مثلما كان سيفعل أيّ ابن عربي لأبيه.

بعد أن أنهى مهامه، عاد عبد الله بعد عام من مقتل والده إلى ظفار، بعد أن قاد سفينة السلطان العماني "ليفربول" ذات الأربعة وسبعين مدفعاً لإخماد الثورة في ممباسا.

وجد قبيلة القرا التي قتل زعيمُها والدَه قد استولت على مدينة مرباط التي تربّى فيها وكبر، وأفرغتها من سكانها الأصليين، وتغيّر فيها الحال كما كل ظفار التي أصبحت مفككةً، وتحولت إلى مشيخات صغيرة، كل شيخ يحكم مدينةً.

قرر عبد الله أن يأخذ بثأر والده، وأن يستردّ المنطقة منها، واتفق مع رجال قبيلة المهرة التي كان لها وزن وثقل وسيطرة في ظفار، على أن يساعدوه في حربه، ودارت معركة كبيرة بين القبيلتين قاد فيها عبد الله الأمريكي المهرة.

انتصر عبد الله في تلك المعركة وقتل زعيم قبيلة القرا. بعد ذلك بايعته القبائل ليصبح شيخاً عليها، واستردّ مُلك والده. إلا أن فرحته كانت ناقصةً، فقد خسر في تلك الحرب اثنين من أبنائه الشباب.

وهكذا أصبح الفتى الأمريكي شيخاً على المدينة العمانية، ومع تقدّمه في العمر أُطلق عليه لقب "الشيخ الأبيض" دلالةً على لون بشرته المختلف عن السكان المحليين، ولم يغادر ظفار إلى أن توفي فيها تاركاً أحفاده من ابنته "حرير"، الذين ما يزالون في ظفار إلى يومنا هذا. 

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image