شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
هربت مع حبيبها الألماني، وتحولت من الإسلام إلى المسيحية... رحلة الأميرة سالمة بنت سعيد

هربت مع حبيبها الألماني، وتحولت من الإسلام إلى المسيحية... رحلة الأميرة سالمة بنت سعيد

رود تريب

الاثنين 10 أكتوبر 202204:14 م

في حزيران/يونيو عام 1867، كانت الأميرة سالمة بنت سعيد بن سلطان البوسعيدي، سلطان مسقط وزنجبار، تخوض رحلة هروبها الكبير مع حبيبها الألماني "رودولف هاينريش رويتي"، الذي صار زوجاً لها في عدن قبل الوصول إلى محل نشأته بمدينة هامبورغ بألمانيا. وفي عدن أيضاً، كانت سالمة، قد ودعت كلَّ ما يمت بصلة لعالمها القديم، سوى صندوق مجوهراتها، وبعض من ملابسها العربية، حيث تم تعميدها في إحدى الكنائس، وبذلك تحولت أميرة زنجبار من الإسلام إلى المسيحية، ومُنحت اسماً جديداً هو إميلي رويتي.

بهذا الاسم الجديد والديانة الجديدة، دخلت سالمة إلى الأراضي الألمانية، لتبدأ رحلة معاناتها "المادية والنفسية" وسط المجتمع الأوروبي، وتخوض خلالها أيضاً الكثيرَ من رحلات الهروب الصغيرة بين المدن الألمانية، بسبب الفقر المدقع الذي عاشت فيه، وكذلك رغبةً منها في تحقيق أعلى درجات العزلة عن كلِّ ما يُحيط بها. وهكذا كان الهروب هو قدر سالمة المحتوم؛ مرة من أجل الحب والحرية، وأخرى من أجل العزلة والأمان النفسي والمادي.

سالمة بنت سعيد (1844- 1924) هي سليلة عائلة البوسعيد التي حكمت سلطنة عمان وزنجبار من أواخر القرن الثامن عشر حتى ستينيات القرن العشرين. وهي الأميرة الصغرى من بين 36 ابناً وبنتاً لسلطان زنجبار (زنجبار حالياً هي جزء من تنزانيا)، وكانت أمها شركسية والأقرب إلى قلب السلطان من كل نسائه الجورجيات، والعربيات، والشركسيات، والحبشيات.

كانت حياة سالمة في عالمها القديم الباذخ بزنجبار لا تنبئ عن المسارات الملتوية والطرق المتعرجة التي ستقطعها الأميرة في هذا العالم، حتى بعد وفاة والديها، ونشوب الخلافات بين إخوانها حول الحكم، والمؤمرات والخطط التي دبروها إزاء بعضهم بعضاً. فعند قراءة مذكراتها، وتحديداً الجزء الأول منها (مذكرات أميرة عربية) تنتابنا الحيرة إزاء هذه الشخصية التي تسرد بفخر وحبٍّ وعشق كبير، حياتَها وحياة عائلتها الملكية، وكذلك تفاصيل الحياة العربية في القرن التاسع عشر، ثم تودع كلّ ذلك في لحظة من الزمن، وتضع نفسها في عرض البحر، لتتحرر من هذا العالم الذي لم تكن على عداء معه.

ولعل السبب في هذه الحيرة إزاء شخصية سالمة، يرجع إلى غموضها، وكذلك إلى تكتمها في الحكي، فهي لم تُبد أبداً أنها لم تكن على وفاق مع حياة الجاه والسلطان، ولم تُظهر أيَّ رغبة في التحرر من القيود الاجتماعية والعادات والتقاليد الشرقية المضاعفة بالنسبة إليها كأميرة. كما أن قصة حبِّها مع زوجها الألماني جاءت باهتة، وربما يمكن وصفها بالهشة، أي أنها لم تكن كافية لهذه التضحية الكبيرة التي فعلتها ببساطة مدهشة. غير أن هذه الحيرة ستتبدد أمامنا ونحن نقرأ الجزء الثاني من مذكراتها (رسائل إلى الوطن)، حيث تتضح جليةً الروحُ القلقةُ المضطربة لهذه الأميرة، التي رأت في الهروب خلاصاً لها من عذابٍ قاتلٍ يسكن أعماقَها.

في عام 1886، صدرت مذكرات سالمة باللغة الألمانية، وقد حازت على شهرة كبيرة في الأوساط الأوروبية، حيث صدر منها أربع طبعات في عام صدورها، وظلت هذه المذكرات حبيسة اللغات الأوروبية حتى عام 1974 حين ترجمها عبد المجيد القيسي عن لغة وسيطة (الإنكليزية)، وفي عام 2002، صدرت ترجمة أخرى لها عن دار الجمل، بواسطة سالمة صالح التي ترجمتها عن لغتها الأصلية الألمانية.

هربت مع حبيبها الألماني، وودعت كلَّ ما يمت بصلة لعالمها القديم، وتحولت من الإسلام إلى المسيحية ومُنحت اسماً جديداً... قصة أميرة زنجبار الأميرة سالمة بنت سعيد بن سلطان البوسعيدي

وبعد عدة سنوات وتحديداً في عام 2015، صدرت الترجمة العربية للجزء الثاني من هذه المذكرات، حيث ترجمها زاهر الهنائي عن اللغة الألمانية، وجاء الجزء الثاني في صورة رسائل أرسلتها سالمة إلى صديقة لها في زنجبار، وربما تكون صديقة مُتخيلة، حيث أنها لم تُفصح عن اسمها. ولم تظهر "رسائل إلى الوطن" إلا بعد سنوات طويلة من وفاة الأميرة سالمة، حيث عثر أبناؤها على الجزء المفقود من تركة أمّهم الأدبية، وظلت حبيسة الأدراج لفترة من الزمن، حيث رفضت ابنتاها نشرَها، لما تحتويه هذه الرسائل من أسرار تكشف الحياة الشاقة والمعاناة التي عاشتها أمهمها، لكن ابنها سعيد، كان له موقف إيجابي، حيث قام بتسليم التركة الأدبية لأمِّه إلى صديق والدته المستشرق الهولندي البروفيسور سنوك هُرْخرونيه مع ملاحظة كتابية نصها: "يُمنع نشر (رسائل إلى الوطن) من دون إذن قبل 1 يناير 1940". وقد اعتمد المترجم على النسخة الألمانية التي صدرت عام 1999. وصدرت عام 2012 أيضاً ترجمة من الأصل الألماني لهذا الكتاب عن دار مكتبة بيروت تحت عنوان "مذكرات أميرة عربية" بترجمة محمد سيد عبد الرحيم.

تشريح فكري للمجتمع الغربي

لم تكن للأميرة سالمة رغبة في نشر مذكراتها، فقد شرعت في كتابتها في لحظة من لحظات يأسها وخوفها من أن تودع الحياةَ دون أن يعرف أبناؤها شيئًا عن حياتها في وطنها، وهذا ما وضحته في الصفحات الأولى من المذكرات حيث ذكرت: "هذه المذكرات كنتُ قد نويت كتابتها في الأساس من أجل أن يقرأها أبنائي، لا من أجل الآخرين". وعندما علم أصدقاؤها بذلك، نصحوها بضرورة كتابتها لنشرها، لا من أجل أبنائها فقط.

تفرد "سالمة" صفحات طويلة من مذكراتها للحديث عن الحياة الوردية في زنجبار، والعادات والتقاليد الشرقية، ونساء الشرق، وتتناول كذلك قضية "الرق"، ولا يخفى على القراء أن هذه الصفحات موجهة في الأساس إلى القراء الغربيين، حيث أنها بذكاء مُلفت، كانت تُفند وتُشَرِح الرؤية الغربية الاستشراقية للحياة العربية والشرقية، وتصفها بأنها "بدائية ومزيفة وغير حقيقية"، وتحديداً في تناولها لقضية المرأة، حيث تقول إن "الرجل العربي يحترم المرأة ويُقدرها، وللمرأة مكانتها الرفيعة في مجتمعنا، فلم يحدث أن فضل أبي الذكر عن الأنثى. لكني أرى هنا أزواجاً يعيشون وكأنهم في الجحيم، رغم كل ما يُقال عن احترام المرأة وحريتها".

دخلت الأميرة سالمة إلى الأراضي الألمانية، لتبدأ رحلة معاناتها المادية والنفسية وسط المجتمع الأوروبي، بسبب الفقر المدقع الذي عاشت فيه، وكذلك رغبةً منها في تحقيق أعلى درجات العزلة عن كلِّ ما يُحيط بها

تُظهر سالمة على مدار صفحات مذكراتها في جزأيْها، بُغضَها للمدنية الحديثة، ولمادية الحضارة الغربية، وترى أن كل ذلك يقتل روح الإنسان، ويحوله إلى آلة. وتُظهر كذلك اختناقَها من القوانين الصارمة، والحياة المتكلفة في مقابل تعبيرها عن حنينها الجارف لحياتها البسيطة الهادئة في وطنها. أما الحرية الغربية فقد رأت سالمة أنها ليست أكثر من كلمة جوفاء، وشعار يُرفع من أجل تحقيق المصالح الاجتماعية والسياسية: "أي حرية يتحدثون عنها، وهم لا يتركونني أعيش مع أولادي ببساطة، دون أن يعكروا صفوي بكل هذه القيود والقوانين الصارمة؛ عادة ما تأتي الشرطة لتسألني: ماذا أكل أولادك اليوم؟ هل أنتم لا تتنزهون؟ كيف هي صحتهم؟ إن كل ذلك من أجل الحفاظ على العنصر الغربي، من أجل تنقيته، وقد تمادوا في هذه العملية، حتى فقد الإنسان الغربي روحه وإنسانيته".

وقائع الهروب

وهكذا تستمر سالمة في هذا التشريح الفكري للحياة الغربية، حتى تصل إلى وقائع هروبها من زنجبار فتقول: "في هذا الزمن المقبض حيث ساد الكدر والشقاق في عائلتنا بعد وفاة أبي، شعرت بالسعادة من خلال حبي لشابّ ألماني كان يقيم في زنجبار كممثل لبيت تجاري من هامبورج. كان بيته يقع بجوار بيتي. وكان سطح بيته أوطأ من سطح بيتي وكثيراً ما شاهدت من أحد شبابيك الطابق الأعلى مجالس الرجال البهيجة التي كان ينظمها من أجل أن يريني وجبات الطعام الأوروبية. شاع في المدينة بعد وقت قصير أمر صداقتنا التي تحولت مع الزمن إلى حب عميق. وعرف بهذه القصة أخي ماجد لكنه لم يُبد إزائي أي عداء أو يسجنني كما روت الأساطير".

سالمة هي الأميرة الصغرى من بين 36 ابناً وبنتاً لسلطان زنجبار (زنجبار حالياً هي جزء من تنزانيا)، وكانت أمها شركسية والأقرب إلى قلب السلطان من كل نسائه الجورجيات، والعربيات، والشركسيات، والحبشيات

وفقاً للتقاليد العربية والشرقية وكذلك تقاليد الأسرة الحاكمة، كان زواج سالمة من حبيبها الألماني مستحيلاً، ومن ثم بدأت في إعداد خطة الهروب، وتم الاتفاق مع حبيبها الألماني على أن يتقابلا في عدن، بعد أن يقوم هو بتصفية تجارته في زنجبار. تحكي سالمة: "بالطبع شعرت برغبة في مغادرة وطني سراً، حيث لم يكن الارتباط بالحبيب ممكناً على الإطلاق. أخفقت المحاولة الأولى بهذا الصدد. ولكن تهيأت لي بعد وقت قصير فرصة أفضل. من خلال وساطة زوجة الطبيب الإنجليزي ونائب القنصل يومذاك السيدة (س)، والتي كانت صديقة لي. اصطحبني ذات ليلة قائد السفينة الحربية البريطانية (هاي فلاير) السيد (ب) في قارب. حين وصلت إلى ظهر السفينة، انطلقتْ في الحال متجهة إلى الشمال. وصلنا سالمين إلى عدن، هدف رحلتنا. نزلتُ هنا عند زوجين إسبانيين كنت أعرفهما من زنجبار. وانتظرت بصبر حتى وصل حبيبي إلي".

الأميرة ترتّق الأحذية

ومن عدن اتجهت الباخرة إلى ألمانيا، وعاش الزوجان في فيلا بـهامبورغ، لكنها لم تكن حياة هانئة على أية حال، فالأميرة التي كانت آنذاك تبلغ من العمر 23 عاماً، كانت تُمزقها الصراعات النفسية، وكان الدين سبباً لهذا التمزق. ففي إحدى رسائلها إلى صديقتها المُتخيلة تفضي لها بأنها تحيا في ظلِّ صراعات هائلة بسبب تغييرها لدينها: "لا تضحية أكبر من تغيير الدين. ما زلت مسلمةً في داخلي، وكثيراً ما أؤدي الصلوات سراً. هنا لم أر أي احترام من جانب المسيحيين لدينهم. وهكذا فقد دخلت إلى الغرب، متخليةً عن ديانتي. وأصبحتُ مسيحية رديئة ليس أكثر من ذلك".

في ما بعد سيزول هذا الصراع الديني الذي كان يُمزق الأميرة الشابة، ليحلَّ محله صراعٌ آخر من أجل الحصول على لقمة العيش، وكان ذلك بعد وفاة زوجها في حادث قطار عام 1880، تاركًا لها ثلاثة أطفال: ابنتين هما روزالي وأنطوني، والابن سعيد، على اسم أبيها السلطان.

تكالبت المصائب على حياة سالمة، وأصبحت امرأةً غريبة ووحيدة مع ثلاثة أطفال في مجتمع "قاس" –على حد وصفها-، ومما زاد من معاناتها أن أحد شركاء زوجها قد سرق الكثير من أمواله، وتركهم يعيشون على الفتات.

في عام 1886، صدرت مذكرات سالمة باللغة الألمانية، وقد حازت على شهرة كبيرة في الأوساط الأوروبية، حيث صدر منها أربع طبعات في عام صدورها، وظلت هذه المذكرات حبيسة اللغات الأوروبية حتى عام 1974 حين ترجمها عبد المجيد القيسي

هجرت الأميرة الحياة في هامبورغ، إلى عدة مدن ألمانية صغيرة، وظلت هكذا لسنوات تتنقل من مدينة إلى أخرى، توفيراً للنفقات، ورغبةً في الانعزال، لتعيش ألمَها وفقرَها بعيداً عن أصدقائها ومعارفها. هذا الألم الذي فاضت به في رسائلها إلى الصديقة الوهمية: "اليوم لم يكن لدينا سوى الخبز الجاف. أخشى من اليوم الذي لا نجده فيه. هل حكيت لكِ أنني كنتُ وما زلت أرتق حذائي وأحذية أولادي بنفسي؟هل حكيت لكِ عن اليوم الذي سقطت فيه في أحد شوارع برلين وأنا أبحث عن شقة متواضعة؟ في ذلك اليوم صعدت كل سلالم العالم، حتى أعثر على شقة أستطيع أن أدفع إيجارها". وفي رسالة أخرى تحكي لها عن بيعها لقطع مجوهراتها، وبعض من ملابسها المطرزة بالذهب، خوفاً من أن تجوع هي وأطفالها.

لا شيء قبل العودة إلى الإسلام

كانت الأميرة سالمة دائماً ما تُخفي هويتها عن المجتمع الذي تعيش فيه، لكن هذا الإخفاء لم يستمر طويلاً، حيث أصبحت هويتها معروفةً للجميع، وقد ساعدها ذلك في تدخل الحكومة الألمانية في قضيتها، للحصول على ممتلكاتها وثروتها من أخيها السلطان برغش. لكن هذا التدخل من جانب المسؤولين الألمان وكذلك الإنكليز، لم يؤدِّ إلى شيء؛ ففي عام 1885 كانت العودة الأولى للأميرة إلى وطنها، للحصول على ثروتها، لكن أخيها السلطان أخلف وعودَه.

وكانت المحاولة الثانية والأخيرة لها برفقة ابنها روزا عام 1888، وهي محاولة فاشلة أيضاَ، حيث حنث أخوها بوعوده للمرة الثانية، ولم تمنحها الحكومة في زنجبار سوى معاش يقدر بمائة جنيه إسترليني بداية من عام 1923، أي قبل عام واحد من وفاتها. وفي الوثائق الملحقة بالجزء الثاني من المذكرات، ثمة رسالة من الأميرة إلى أحد أصدقائها تقول فيها: "فشلت هذه المرة أيضاً في الحصول على ممتلكاتي، فأهلي يرفضون منحي أي شيء قبل الرجوع إلى الإسلام". وفي رسالة أخرى تقول لصديقها المستشرق الهولندي: "لم يعد لي وطن على هذه الأرض".

بعد رحلتها الثانية إلى زنجبار سافرت سالمة إلى يافا وبيروت، وعاشت هنا فترةً قصيرة بجوار ابنها سعيد، لتعود إلى ألمانيا مرة أخرى، وتقضي أعوامها الأخيرة برفقة ابنتها الصغرى روزالي، وزوجها، في مدينة يينا الألمانية، حتى توفيت في 24 شباط/فبراير 1924 ونقلت جرة رفاتها إلى هامبورغ لتُدفن بجوار زوجها في مقبرة العائلة، وقد وجد أولادها كيساً من الرمال في تركتها، كانت قد أحضرته معها أثناء رحلتها الأخيرة إلى زنجبار، وتم وضعه في جرة رفاتها، وكتب على شاهد قبرها عبارة من قصيدة للشاعر والأديب الألماني تيودور فوناته: "مخلص من أعماق قلبه من يحبّ وطنَه مثلك".


إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image