تأخذنا الكاتبة العُمانيّة "جوخة الحارثي" في روايتها الثانية "سيّدات القمر"، التي فازت مؤخّراً ترجمتها الإنكليزيّة بجائزة المان بوكر العالميّة، إلى أغوار المجتمع العُماني وطقوسه، راصدةً التحوّلات الاجتماعيّة التي طرأت على البلد خلال عدّة عقود.
تدور أحداث الرواية في قرية "العوافي" وهي قرية متخيَّلة، يمكن أن تكون أيّ قريةٍ من عُمان، وانطلاقاً من محكيّاتٍ صغيرةٍ نتعرّف إلى حيوات ثلاثة أجيال، عبر أفراد ينتمون إلى عائلتين، هما: عائلة "عزّان" وعائلة "سليمان"، إذ يرتبط مصير العائلتين ببعضهما بعد زواج ابنة الأوّل "ميا" من ابن الثاني "عبد الله". هذا الزواج الذي يدمّر أحلام "ميا" وحبها السرّي لشابٍ رأته وتعلّقت به، وكان دفاعها الوحيد عن هذا الحبِّ الضائع هو أن تسمّي ابنتها "لندن" على اسم البلاد التي درس فيها الرجل الذي أحبته.
"كانت تجلس على كرسيها الخشبي خلف الماكينة في آخر الدهليز الطويل، حين جاءت أمها متهلّلة ووضعت يدها على كتفها: "ميا.. يا ابنتي... ولد التاجر سليمان يخطبك". تشنّج جسد ميا، أصبحت يد أمها ثقيلةً بالغة الثقل على كتفها. جفّ حلقها ورأت خيوطها تلتفّ حول رقبتها كمشنقة. ابتسمت الأم: "ظننتك كبيرة على خجل البنات"، وانتهى الموضوع. لم يفتحه أحد ثانية".
تتكوّن الرواية من فصولٍ قصيرة، تحكي عن أفراد العائلتين بدءاً بالأجداد مروراً بالأبناء وحتى الأحفاد، وإن كان الجيل الثاني هو الذي يأخذ المساحة الأكبر، ممثلاً بالأخوات الثلاث "أسماء" التي تحب الكتب وتتزوج من فنّانٍ يتقدّم لخطبتها لكنها تكتشف فيما بعد أنه أرادها لا لأنها "شطره الآخر"، بل لأنها "زوجة تصلح للمباهاة، تضفي اللمسة النهائيّة لقبوله اجتماعيّاً". و"خولة" التي تنتظر ابن عمها "ناصر" لسنواتٍ طويلة، وحين يعود ويتزوّجها، تكتشف بمرور السنوات أنها في الوقت الذي كانت تعيش فيه وحيدة كان هو يعيش مع امرأةٍ ثانية في كندا، فتنتفض وتطلب الطلاق بعد أن يكبر أبناؤها. أما "ميا" التي تزوّجت من "عبد الله" فتعيش حياةً موازيةً في داخلها، وتبدو لها الحياة "منشطرة شطرين كالليل والنهار: ما نعيشه وما يعيش بداخلنا".
تدور المرويّات بين هؤلاء الأخوات الثلاث، وفي دورانها نقرأ عن الأب "عزان" وعشقه السري لـ "نجية" الملقّبة بالقمر، وعن الأخ "أحمد" الذي مات صغيراً وترك موته ندوباً في روح والديه، وعن "سالمة" الأم التي لقُّبت بـ"عروس الفلج" بسبب طريقة زواجها، وفي الطرف المقابل نقرأ عن العائلة الثانية أيضاً، بكلّ أجيالها.
يتناوب كلّ من الراوي العليم و"عبد الله" على سرد وقائع الرواية وأحداثها، وفي فصول "عبد الله" المكتوبة في معظمها بتيّار الوعي، نقرأ عن حياته، وعن هواجسه، شكوكه، آماله... وما عاشه وما يعيش بداخله: حبّه لميا من اللحظة الأولى التي رآها فيها، الأب القاسي الذي كان يتاجر بالرقيق والذي ظلّ طيف العقوبة التي عاقب بها ابنه مرّةً في ذاكرته كمثل وشمٍ لا ينمحي، الأم التي ماتت ميتةً غامضةً والتي تتكشّف الأحداث عن قصّتها، الابنة "لندن" التي تعيش قصّة حبٍّ مُتعِبة، والابن "محمد" الذي يعاني من التوحّد. وغيرها الكثير من حكايات عبيدٍ عاشوا في البيت الكبير قبل أن تحرّرهم الحكومة، إذ تطرح الرواية بين ثناياها ومرويّات شخوصها قضية الرقّ في عمان، وكيف عاش هؤلاء بعد أن صدر قرار بإلغاء الرقِّ والعبوديّة، فلم يستطع الجيل الأول منهم التخلّي عن سيّده، أو تقبّل فكرة أن يعيش حرّاً، بينما مضى الجيل الجديد ليستكشف ما يمكن أن تمنحه هذه الحرية.
"نحن أحرار يا أمي. أحرار بموجب القانون. وسنسمّي أولادنا كما نشاء... جُنّ ولدك يا ظريفة. لا، ليست الأفعى التي تزوّجها، العاقة بأمها من توسوس له. إنها البذرة، البذرة التي حرص أبوه أن يقذفها فيه قبل أن يختفي (...) يسمّي التاجر سليمان، الذي ربّاه وآواه، وأدخله المدرسة: الشايب الخرفان! ألا يرى أننا كبرنا في نعمة هذا الشايب؟ لولاه لكنا اليوم نتسوّل في الطريق أو ننادي على المارة من أجل لقمة عيش".
"نحن أحرار يا أمي. أحرار بموجب القانون. وسنسمّي أولادنا كما نشاء..." من رواية "سيّدات القمر"، التي فازت مؤخّراً ترجمتها الإنكليزيّة بجائزة المان بوكر العالميّة، التي تأخذنا إلى أغوار المجتمع العُماني وطقوسه
تكوّن الرواية "سيّدات القمر"، التي فازت مؤخّراً ترجمتها الإنكليزيّة بجائزة المان بوكر العالميّة من فصولٍ قصيرة، تحكي عن أفراد العائلتين بدءاً بالأجداد مروراً بالأبناء وحتى الأحفاد، وإن كان الجيل الثاني هو الذي يأخذ المساحة الأكبر، ممثلاً بالأخوات الثلاث "أسماء"، و"خولة"، و"ميا"
تضيء الكاتبة في أكثر من موضعٍ في روايتها على التحوّلات التي طرأت على عُمان، عارضةً بشكلٍ سريعٍ تاريخها الاجتماعي والسياسي، وتركّز بشكلٍ خاص على العادات والتقاليد الموجودة في هذه البيئة، وما هي الطقوس المتبعة في أمورٍ كثيرة، كالزواج والولادة والموت و....
أما بعد،
ربما يطرح وصول هذه الرواية إلى قوائم جائزة المان بوكر العالميّة، وفوزها بها، سؤالاً لم يكن سيُطرح لولا هذا الحدث. وهو عن استحقاق هذه الرواية الفوز، وما الذي رأى المحكّمون فيها؟ وهل صحيح ما يُقال هنا وهناك أن من فاز هو "بروفايل" الكاتبة لا نصّها؟ وهل من فاز هو النصّ العربي بكلّ ثغراته، أم أن الترجمة الإنكليزيّة (على عادة كثيرٍ من دور النشر الأجنبيّة حين تترجم أعمالاً) أعادت تحرير النصّ متجاوزةً ما فيه من هَنَات؟
أسئلة مشروعة، خصوصاً بعد قراءة الرواية التي تخلو من حبكةٍ تلمّ التبعثر في شخصيّاتها وأحداثها، والتشظّي الفوضوي وغير المدروس لأزمنتها، والتناوب غير المقنع لرواتها، ما يجعلها روايةً مشتتةً، فاقدةً لعنصري التحفيز والإثارة.
يغيب أيضاً عن الرواية الغوص في أعماق شخصيّاتها، فكلهم "نماذج" مصنوعة وموضوعة، تخدم ما خطّطت له الكاتبة قبل أن تبدأ الكتابة –حسب اعتقادي- من دون أن يستطيع أيّ واحدٍ منها أن يتحوّل من كائنٍ ورقي إلى كائنٍ من لحمٍ ودم، يعيش مع القارئ ويؤثر فيه أو يبقى في ذاكرته وإن لساعاتٍ بعد انتهاء الرواية.
إضافة إلى ذلك، فإن هناك الكثير من الثرثرة التي لا تحتملها رواية من 220 صفحة، وفي الوقت نفسه هناك الكثير من الإيجاز في مواضع أخرى تستحقّ المزيد من الحكي، وهذا ما يمكن لي أن أسميه "إطنابٌ مُمل وإيجازٌ مخلّ". هذا عدا عن الحكايات الإضافيّة التي تزخر بها الرواية والتي تزيد من فوضاها وتبعثرها، خاصّة أن هذه الحكايات تأتي عن شخصياتٍ جديدة تظهر لمرّة واحدة، من دون أن تقدّم أيّ إضافةٍ للشخصيات الأساسيّة ولحكاياتها.
وإذا ما تجاوزنا قضية اللغة، ووعورتها في هذه الرواية، على اعتبار أن الترجمة لا بدّ ستخفي هذه المسألة، فكيف يمكن أن نتجاوز إقحام الكثير من أبيات الشعر العربي، والكثير من مقاطع الكتب التراثيّة، ضمن نسيج الرواية من دون أي مبرّر فني؟ أقلّه كان يمكن التقليل منها فكثرتها ضمن نصٍّ صغيرٍ يزيد من شعورنا بأنها نافرة وزائدة.
أخيراً، تنقل الرواية في كثير من مواضعها الواقع نقلاً دون أيّ صنعة، أي من دون أن تعيد خلق الواقع برؤيةٍ فنيّة، وهذه، برأيي، واحدة من أخطر الإساءات للفنّ والكتابة الروائيّة.
جوخة الحارثي:
كاتبة عُمانية، تعمل أستاذة للأدب العربي في جامعة السلطان قابوس. صدرت لها عدّة كتب، ولها ثلاث روايات: "منامات"، "سيدات القمر"، و"نارنجة" التي فازت عنها بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب عام 2016.
رواية سيدات القمر، الناشر: دار الآداب / بيروت، عدد الصفحات: 224، الطبعة الثانية: 2019
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه