شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
حكاية أمي مع التعليم… حتى لو كان الدفتر مقلوباً

حكاية أمي مع التعليم… حتى لو كان الدفتر مقلوباً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الخميس 19 سبتمبر 202410:46 ص

تساؤلاتي عن تصرّفات أمي كانت تزداد يوماً بعد يوم، خاصة عندما رأيتها تتعامل بقسوة مع أخي وأختي اللذين كانا لا يطيقان الدراسة. تجبرهما على الالتزام بدروسهما وإتمام تعليمهما رغماً عن أنفهما، كما لو كانت تدافع عن قضية وطنية لا يمكن تجاهلها. كان الأمر يثير في نفسي تساؤلات عديدة: لماذا كل هذا العنف؟ وهل تستحق الدراسة هذا النوع من الغضب المفرط، وهي التي عودت من حولها على صوتها الهادئ وحنانها الزائد؟

خرجت من منزلنا في البداية دون إدراكٍ تام لأهمية التعليم في حياتي. كنت أظن أن الرحلة إلى المدرسة هي مجرّد طريق نحو الشهادات والوظائف. لم أستطع فهم الأسباب وراء تصرّفاتها حينها. كل مرة أراها مستشيطة غضباً بسبب تغيبنا عن المدرسة بدون مبرّر إن استطعنا لذلك سبيلاً، أو بسبب إهمالنا لأي درس، كانت تثير في نفسي تساؤلات أكبر. لم تكن تصرفاتها مبرّرة على الإطلاق بالنسبة لي في ذلك الوقت.

لم أكن أفهم الحرب النفسية التي كانت تخوضها مع نفسها ومع المجتمع. لم أكن أعرف أنها تحب التعليم حباً عميقاً لأنها حُرمت منه في شبابها، مثل الكثير من النساء والرجال الذين نشأوا في قرى بعيدة، لا تهتم بشيء سوى الزواج المبكر والعمل المنزلي ورعي الأغنام والزراعة. حيث، وفي خمسينيات القرن الماضي، لم تكن هناك مدارس في قريتها النائية، ما ولّد داخلها غضباً لم تستطع تفريغه بوجه عائلتها والقدر. هذا الغضب تجسّد في إصرارها على أن يكمل أولادها الأحد عشر تعليمهم بأقصى ما يمكنهم.

لم أكن أعرف أنها تحب التعليم حباً عميقاً لأنها حُرمت منه في شبابها، مثل الكثير من النساء والرجال الذين نشأوا في قرى بعيدة، لا تهتم بشيء سوى الزواج المبكر والعمل المنزلي ورعي الأغنام والزراعة

أمي كانت شديدة الإصرار على التعليم، ولم تسمح لنا بالتغيب عن المدرسة حتى في أشدّ حالات المرض. كنت أراها تصحو قبل الفجر، تعدّ لنا الفطور، وتحرص على أن نكون بمظهر لائق جداً ونظيف، على الرغم أن ملابسنا المدرسية لم تكن الأغلى و حقائبنا أحياناً كانت تصلحها لعدم قدرتها على تجديدها لنا. كانت تعامل كل يوم دراسي وكأنه فرصة لا يمكن تفويتها. توقظنا قبل الوقت الفعلي بساعة، لتضمن أننا نستيقظ بشكل أسرع ونستعد ليومنا المدرسي. لم يكن هناك أي مبرّر مقبول لغيابنا، حتى عندما كان المرض يجتاح أجسادنا.

في أحد الأيام، كنت أعاني من حمّى شديدة، وكنت أتوسّل إليها أن تتركني أبقى في المنزل، لكنها رفضت بقسوة لم أعهدها منها، وقالت بحزم: "العلم لا ينتظر، وكل يوم تغيبين فيه عن المدرسة هو يوم من الفرص الضائعة".  كانت تتحدث عن التعليم كأنه معركة لا يمكننا أن نخسرها، وكأنه الأداة الوحيدة التي نحملها في هذا العالم. تلك الكلمات التي تبدو قاسية الآن كانت تحمل في طياتها رسالة حب وحرص لم أفهمها حينها.

في منزلنا، كان التعليم أكثر من مجرد التزام مدرسي. كان بمثابة شغف متوهّج في قلب أمي. كانت تردد دائماً: "العلم هو الدرع الذي يحمينا من قسوة الحياة". لم يكن هذا الشغف موجهاً لنا نحن الفتيات فقط، بل لكل فرد في العائلة. كانت ترى في التعليم طوق النجاة كما لو أنها كانت تعيد تدوير حياتها في حيواتنا، تحوّل الفقر إلى ثروة، والحرمان إلى فرصة، حتى لو كان ذلك يعني التضحية براحتها وسعادتها.

أمي لم تكن متعلّمة بالمعنى التقليدي، فهي لم تحصل على فرصة للجلوس في صف مدرسي أو قراءة الكتب المدرسية، ومع ذلك، كانت تستطيع قراءة القرآن بفضل والدي الذي علّمها القراءة. كانت تلك المعرفة المحدودة بمثابة نافذة صغيرة أطلّت منها على عالم واسع من العلم، وأدركت من خلالها أهمية التعليم. لم تكن تعرف شيئاً عن معادلات الفيزياء أو الأرقام المعقدة، لكنها كانت تؤمن بعمق أن التعليم هو المفتاح لمستقبل أفضل لنا.

أتذكر بوضوح ذلك اليوم الذي كانت تحاول فيه مساعدتي في مادة الرياضيات. كنت أواجه صعوبة في فهم بعض المفاهيم، وجلست أمي بجانبي تحاول بكل إخلاص مساعدتي. كانت تمسك الدفتر بالعكس، تتلمّس الصفحات بحذر، تحاول فكّ الأرقام والرموز. ضحكت عندما أدركت خطأها، لكنها قلبت الدفتر ببطء واستمرّت في محاولتها. على الرغم من عدم معرفتها بالحلول، كان وجودها بجانبي يعني لي الكثير.

كان هناك موقف لا أنساه، حين اكتشفت أن أختي لم تنجح في شهادة الثانوية و تتأهّل للمرحلة الجامعية. كانت النتيجة كارثية بالنسبة لأمي، وأجبرتها على أن تعيد العام الدراسي بأكمله ثلاث مرات. عندما واجهناها بالاستفسارات، وأن أختي هذه لا تحب المدرسة، قالت بغضب: "الرسوب ليس خياراً في عائلتنا. إكمال التعلم هو الخيار الوحيد، ولا يمكن أن أقبل بالتراجع".

لم أكن أعلم أن أمي كانت ترى في التعليم مخرجاً من ضيق الحياة التي عاشتها، لم أكن أعلم أنها أذكى من أن تجلس مكتوفة الأيدي و الدماغ سوى عن أعمال رتيبة تطلب منها كحال الكثيرات حينها لكن الظروف حرمتها من الفرص، حينها أدركت أن تلك المواقف لم تكن  مجرّد تعليمات صارمة أو قواعد منزلية، بل كانت تجسيداً لحربها الشخصية ضد ما عانته من حرمان وظلم في شبابها. كانت ترى في تعليمنا انتصاراً على تلك الأيام التي قضتها بلا علم، مجردة من الفرص.

بينما أتأمل كل ذكرياتي معها والتعليم، وأنا أسير نحو مدرسة لتعلّم لغة أجهلها، في بلد التحقت بكل ما فيها كأمّية. أرى أمي في كل خطوة. أراها في الدفتر المقلوب الذي كانت تحاول مساعدتي به، في الدموع التي ذرفتها وهي ترى نجاحاتنا

كانت قناعة أمي الراسخة بأن التعليم هو السلاح الأقوى الذي يمكن أن يمتلكه الإنسان، وخاصة النساء. حيث كانت ترى في الشهادات الدراسية وسيلة لتحصيننا ضد تقلبات الحياة، وسلاحاً يمكن أن يحمي بناتها من أي ظلم أو عنف قد يتعرضنّ له، سواء لم يتزوجنّ، أو تزوجن وترملن، أو حتى تطلقن، كانت تؤمن بأن المرأة المتعلّمة قادرة على الوقوف بصلابة في وجه التحديات، وأن التعليم يمكن أن يفتح لها أبواب الفرص ويمنحها القوة للاستقلال الذاتي.

لكن، ورغم كل هذا، وما لم تعلمه أمي إلّا مؤخراً أننا وعلى الرغم من حصولنا على الشهادات الجامعية، وجدنا أنفسنا ضمن محيط لم يتقبّلنا بسهولة. كنا عائلة متعلّمة في وسط لا يهتم كثيراً بالتعليم. بدلاً من التقدير، وجدنا أنفسنا معزولين، وأحياناً منبوذين، بسبب انشغالنا بالدراسة وابتعادنا عن الحياة الاجتماعية التي يقدّرها المجتمع أكثر. كثير من الأقارب والأصدقاء رأوا فينا نوعاً من الاستعلاء أو الغرور، لأننا اخترنا طريق العلم وابتعدنا عن التقاليد. كان يُنظر إلينا كأننا رفضنا أن نكون جزءاً من مجتمعهم الذي يحبون.

حين كبرت، و قبل أن أغادرها و البلاد، سألتها يوماً، لما كل ذلك؟ لماذا أرهقت جسدك الجميل و صحتك النفسية، وها نحن اليوم سنغادرك و نذهب بعيداً؟ فبكت أمي وقالت: "كنت وما زلت أحب العلم والتعلم، لكنني حرمت منه سابقاً بسبب العادات، وحرمت نفسي لاحقاً بسبب الخجل أن أكون أمّاً وأتعلم مع أطفالي. إنني أفخر بنجاحاتكم حتى البعيدة التي لا أراها، والصغيرة التي لا يراها أحد سواي، تحقيقاً لكل ما صبوت له".

واليوم، بينما أتأمل كل ذكرياتي معها والتعليم، وأنا أسير نحو مدرسة لتعلّم لغة أجهلها، في بلد التحقت بكل ما فيها كأمّية. أرى أمي في كل خطوة. أراها في الدفتر المقلوب الذي كانت تحاول مساعدتي به، في الدموع التي ذرفتها وهي ترى نجاحاتنا. كانت أمّاً غير متعلمة، لكن حبها للعلم جعلها أعظم معلمة في حياتي. علمتني أن التعليم هو القوة الحقيقية ويمكن أن يحول أي شيء إلى واقع، حتى لو كان الدفتر مقلوباً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image