شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أكتب لأنني لم أستطع قول

أكتب لأنني لم أستطع قول "لا"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الجمعة 13 سبتمبر 202411:05 ص
Read in English:

I write because I couldn't say “no”

كم مرّة تمنيت مشاركة أفكاري وأسراري مع غريب ما. أقابله مرّة واحدة وألقي كل أسراري عليه ولا أقابله من جديد. أحب أن أعترف ولا أتحمّل الأسرار. أحب أن أقول: أنا فيّ كذا وكذا وفعلت كذا وكذا. بالتأكيد لا أقول كل شيء عن نفسي، لكنني أتمنى لو أستطيع.

اكتشفت ذلك الأمر عن نفسي بالصدفة، منذ المرحلة الابتدائية تقريباً، كنت كلما شعرت بشيء ما لا أستطيع البوح به، أدوّنه؛ إعجاب بزميل في صف دراسي، كره لزميلة أخرى، أمنية محظورة أو رغبة غير ملائمة لمفاهيم الغلط والعيب والحرام. حرّرتني الكتابة من كل تلك الممنوعات، تدوين الأمنيات والرغبات ورؤيتها أمامي مكتوبة على السطور، تبعدها عن خيالي، وكتابة الأسرار والاعترافات تحرّرني من الشعور بالذنب.

يقول علماء النفس إن مشاركة الألم تخفّف من وطأته، يخرج من داخلنا ويسري في الهواء بيننا وبين من نبوح له، فيخفّ الألم ويصغر. كنت أتشارك الأفكار والأحلام والآلام مع الأوراق، حتى تحولت المذكرات والتدوينات واليوميات إلى شعر. لم أعرف متى حدث هذا التحول تحديداً، لكنه حدث. عندما بدأت في كتابة الشعر آمنت أنني لا أؤلف الشعر، لكنني أدوّنه. ربما أختبأ خلف المجاز والضمائر، أقول "هي" بدلاً من "أنا"، حتى لا أقرّ أن تلك الاعترافات الشعرية تخصّني. أدسّ أفكاري وشياطيني وهواجسي وأحاول ضبط الإيقاع بحروف الجر أو حروف العطف، لكن يبقى الشعر انكشافاً وإفصاحاً واعترافاً وكذلك علاجاً.

يغلي الغضب داخلي منذ طفولتي التي لم أستطع أن أقول فيها "لا" لأي شيء. لا للوحدة، لا للتحرّش، لا للتنمّر. الغضب يغلي داخلي من الابتزاز العاطفي الذي عرفته في مراهقتي، والابتزاز الإنساني ببناتي الذي عرفته أثناء فترة زواجي. عرفت كل أنواع الابتزاز، ولم أقو على قول "لا" إلا قليلاً

الكتابة كعلاج للوحدة والألم والغضب

دائما كانت الأسرار الشخصية مادة خصبة للشعر، لكن الشاعر الأمريكي  روبرت لوييل، أول من أزال القناع عن الذي ارتداه الشعراء عند الكتابة عن أسرارهم الشخصية. كتب عن صراعه مع زوجته، وصراعه مع مرضه العقلي. كتب الأسرار التي يعتبرها الجميع سبّة أو سبباً للخزي، ورفض استخدام المجاز، وأنا، بعد خمسة كتب شعرية، ظننت أن الشعر هجرني. صرخت وهلّلت وبكيت، لكن أثناء صراعي مع الحياة ومع اضطراباتي النفسية ومع بناتي، ومع كل ما لم أستطع الافصاح عنه، اكتشفت أن الشعر لم يهجرني. جاءتني الفكرة أشبه بلحظة تنوير أضاءت داخل عقلي. أصبحت أخشى الاعتراف. تلبسني الرقيب الداخلي الذي يخشى من العالم الخارجي. تجاربي الشخصية باتت أعقد من الاعتراف بها هكذا ببساطة، مثلما كنت أفعل من قبل.

عدت مجدداً لقراءة الشعر الاعترافي وروايات السيرة الذاتية لأستعيد الثقة فيما أكتب وفيما أفكر، لأعرف أنني لست وحدي التي أتشبّث في الكتابة لأعرف من أنا وأقول للجميع من أنا. مع استمرار زيارات طبيبي النفسي، عرفت أكثر، وتذكّرت أكثر وأكثر مما نسيه عقلي و ألقاه في مؤخرة ذاكرتي، فقرّرت كتابة كل ما أتذكّره، وكلما كتبت ذكرى أو حدث تذكرت غيره وغيره، كأنه بئر لا ينفد ماءه.

أقول لطبيبي: "يملؤني الغضب، أرغب دائماً في شجار ما مع شخص ما"، غضبي يقف على الحافة باستمرار، ينتظر ما يثيره مهما كان ضئيلاً، لينفجر في وجه من يتصادف وجوده أمامي في ذلك الوقت.

يغلي الغضب داخلي منذ طفولتي التي لم أستطع أن أقول فيها "لا" لأي شيء. لا للوحدة، لا للتحرّش، لا للتنمّر. الغضب يغلي داخلي من الابتزاز العاطفي الذي عرفته في مراهقتي، والابتزاز الإنساني ببناتي الذي عرفته أثناء فترة زواجي. عرفت كل أنواع الابتزاز، ولم أقو على قول "لا" إلا قليلاً. في السنوات الأخيرة أعتدت أن أقول "لا" لكل شيء وكل شخص، لأثبت لنفسي فقط أنني أستطيع أن أقول "لا".

كم تمنيت عيوناً أجمل وأنفاً أصغر وشعراً أنعم وأصدقاء محبين لي بلا غاية من وراء الحب أو التقرّب، لكن هذا لم يحدث، فكتبت مئات رسائل الحب، واحدة منها ليست لي

إعادة استكشاف الذات كل يوم

يعيدني التدوين إلى توازني، أفكّك الغضب الذي بداخلي، أهدّئ التدفّق السريع للأفكار، وتقلبات المزاج التي أتصارع معها، لتسكن الطفلة التي بداخل جسم المرأة البالغة ولو لوقت مستقطع من الحياة. أكتب لأعرف أنني هنا بالفعل في الأوقات التي يبدو فيها كل شيء حولي غير حقيقي، خاصة عندما أكون بمفردي.

أكتب لأستعيد نفسي وأؤكد هويتي التي تتأرجح داخلي من وقت لآخر، لأكافح الأسئلة الوجودية التي استمرّت معي منذ طفولتي ويبدو أنها لن تنتهي. أتساءل: هل أنا الطفلة أم الأم؟ الشاعرة أم الفنانة التشكيلية؟ سارة التي تحب الجميع أم تلك الأخرى التي لا تهتم لأمر أحد؟

 أذكر الحدث الأول الذي دوّنته في كراستي الشخصية، كان الإعجاب بزميل دراسة في المدرسة الابتدائية. كتبت له خطاباً عاطفياً، وأفشت زميلة الدراسة التي تجلس بجواري سرّي لمدرّسة اللغة العربية، التي قرأت خطابي العاطفي الصغير أمام الفصل بالكامل. بعد أيام من سخرية الجميع مني، طلبوا مني تباعاً أن أكتب لهم خطاباتهم العاطفية. لم أتردّد. كتبت عشرات الخطابات العاطفية وعرفت أسرار الجميع، و بعد أن كنت بلا أصدقاء مقرّبين أصبحت صديقة الجميع، ومع نهاية كل خطاب أؤكد لصاحب الخطاب، أو صاحبة الخطاب، أنني لن أفشي لأحد اسم حبيبه أو حبيبته.

كانت الخطابات تبدأ بحبيبي أو حبيبتي واضع اسم المحبوب، لكن نهاية الخطاب كانت بلا توقيع. لم يقدر المحبون على الاعتراف، كانوا يضعون الخطابات في حقائب أحبابهم، وبات كل تلميذ وتلميذة في الفصل حبيب محتمل لمحب محتمل، وأنا وحدي أعرف الحقيقة المؤكدة.

استشعرت القوة والانتصار بعد أن عرفت أسرار الجميع، وأصبح طلاب الفصل بالكامل يحاولون التقرّب مني لمعرفة أسرار باقي الطلاب، لكنني حافظت على الأسرار. ليس لأمانتي، ولكن لأن إفشاء الأسرار يفقدني كل نقاط قوتي وانتصاري على الجميع. أحببت التفاف الجميع حولي لمعرفة من يحبّ من ومن تحبّ من، بعد أن كنت بلا أصدقاء و محط سخرية الجميع. يسخرون من حجم أنفي الكبير ويسخرون من الضفيرتين اللتين كانت أمي تصمّم أن تقسم شعري بهما.

كم تمنيت عيوناً أجمل وأنفاً أصغر وشعراً أنعم وأصدقاء محبين لي بلا غاية من وراء الحب أو التقرّب، لكن هذا لم يحدث، فكتبت مئات رسائل الحب، واحدة منها ليست لي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image